السياسية || أ.د/ عبدالعزيز صالح بن حبتور *

ودّعت مدينة عدن الشيخ المخترع سعيد بن سالم لقزع بارحمه في يومٍ حزين ومؤلم، ودعته الوداع الأخير في يوم الأحد الموافق 25 فبراير 2024م، إلى مثواه الأخير، وحضر جنازته المهيبة أحبابه ومحبيه وأولاده وأهله وأصدقائه ومعارفه وهم بالمئات من المودّعين، نعم إنه يومٍ مأساوي وكئيب بحق ونحن محبيه نودعه بالدموع الصامتة المحبوسة في النفس العميقة وفي المُقل الجافة لأنه إنسان استثنائي ومن خيرة رجال اليمن العظماء ومن أشرف وأنبل من عرفته مدينة عدن وسار على تربتها النقية الصافية.
نحن جزء من أصدقائه وأحبابه ودعناه عن بُعدٍ وبألم مضاعف بسبب حرب العدوان الذي فرضه (الأشقاء الأشقياء) على اليمن منذ تسع سنوات تقريباً.
تعود بنا الذاكرة للتعرف على صديقنا العزيز الفقيد سعيد بارحمه -رحمة الله عليه- في العام 1975م حينما كنا نرتاد الاستيديو الخاص به والذي اسماه استديو الفن الحديث والذي يقع في ضاحية كريتر شارع سند بجوار المتحف العسكري في مدينة عدن، كنا نتكرر فُرادى وجماعات في الزيارة عليه أما لتناول الشاي معه وعلي حسابه الشخصي كوننا مجموعة من تلاميذ محافظة شبوة ندرس في المرحلة الثانوية العامة، أو لنلتقط صورة تذكارية في الاستيديو، وكان صديقنا الشيخ سعيد يمتاز بصفات جميلة جداً، منها المرح وإزاحة حاجز التكلّف بينه وبيننا مع فارق السن والعمر، ومنها طيبة النفس والكرم والشهامة، ومساعدة الغير.
تعززت العلاقة الأخوية فيما بيننا حينما سجلنا كطلاب جامعيين في المستوى الأول في كلية الاقتصاد والإدارة بجامعة عدن في العام الأكاديمي 1976 /1977م، وكان الشيخ سعيد يومها طالباً في المستوى الرابع أي في العام الأخير لدراسته، واتذكر أن زميلنا وصديقنا عبدالله راشد مسرور من محافظة شبوة كان يدرس بذات المستوى الذي يدرس فيه الشيخ سعيد في الكلية.
توطدت علاقاتنا الزمالية يوم بيوم وشهر بشهر واقتربنا منه وعرفنا بأن الرجل يحمل هموم كثيرة منها أن لا يجد من الآخرين من يسانده في مشاريعه العلمية الابتكارية ومنها مشروع الطائرة التي أوشك على الانتهاء من إنجاز المشروع والبدء في الإقلاع والطيران ومشاريع أخرى ذات طبيعة تقنية استثمارية في مجالات الصناعات المنزلية وغيرها.
اعترضت مشاريعه عدد من الحواجز والمعوقات السياسية والأمنية فعلى سبيل المثال، كان مشروع صناعة الطائرة يقف الجانب الأمني في وجه إنجاز المشروع كون أن مدينة عدن هي عاصمة جنوب اليمن وبها معسكرات عسكرية وأمنية وبالتالي فإن الطيران سيكشف المواقع وخلافه وأنه يحتاج لعدد من التراخيص السياسية والأمنية لكي ينجز ذلك المشروع، علماً أنه في زمن النظام الشمولي التوتاليتاري البوليسي الاشتراكي في جنوب اليمن، كل النظام الأمني معقد وإن هناك صعوبات في عقول أصحاب القرار لا عد ولا حصر لها.
وهنا أود أن أورد مثال بسيط على التعقيدات الأمنية لإصدار أي ترخيص كان، فالمواطن اليمني القادم من حضرموت أو شبوة أراد أن يسافر إلى مدينة عدن، عليه أن يحضر جميع التراخيص الأمنية والتجارية المكتوبة بإدخال [ درزن علب مانجو أو عدد من علب حليب “النيدو” للأطفال أو نصف كيس رز ]، أو إذا قرر أن يحمل معه لأسرته رأس غنم مذبوح فهذه الطامة الكبرى أي أن عليه أن يأتي بترخيص أمني شامل يبدأ من مدير الأمن العام بالمحافظة والمحافظ ذاته وسكرتير الحزب بالمحافظة ومن في حكم مسؤوليتهم القيادية، هكذا كانت الحياة في جنوب الوطن، وقد لا يصدق الجيل الحالي الجديد والشباب مثل تلك الوقائع والأحداث، وسيقولون لك أنها مزايده سياسية على ذلك النظام الديمقراطي في الجنوب.
لكن والحمد لله أن معظم الأشخاص ومنهم في سنوات عمري الستيني سيتذكرون ربما أكثر منّي بشاعات وتصرفات أفضع، وربما أكثر رعونة، وأمثلة مفزعة عن ذلك النظام الشمولي القاسي، فمن عاش ذلك الزمن سيتذكر بسهوله كل تلك التعقيدات الإجرائية البيروقراطية وربما أكثر من ذلك بكثير.
أوردت ذلك المثال المبسط، كي نقارن طبيعة الحياة المرّة في زمن النظام الجنوبي الشمولي البائد يوم ذآك وبين متطلبات أي إنسان طموح ومفكر مثل الشيخ سعيد بارحمه الذي أراد أن يخترع طائرة تطير في الأجواء والفضاءات التي يعتبرونها الأمنيين هي أجواء محتكرة لأجهزة الأمن والمخابرات، ومحرمة على الغير، وقد شارف الأستاذ المخترع على الانتهاء من مشروعه العلمي، [طائرة بارحمه الجديدة]، الذي أستثمر فيها من ماله وقدراتهِ وصحتهِ ووقتهِ الشيء الكبير والكثير جداً، لكنه اصطدم بعوائق إجرائية بيروقراطية مناطقية ساذجة، ولهذا صرف النظر عن مواصلة ذلك المشروع الشخصي الهام له وللوطن كله.

لم نكن ندرك كل تلك العقبات والموانع الإدارية والأمنية التي واجهها الفقيد الشيخ سعيد وهو يجابه كل تلك التحديات، وكنّا نمزح معه باستمرار، ونقول له هيا متى ستطير بنا إلى خارج مدينة عدن؟ حينها لم نكن ندرك بحجم التحديات التي تجابه صديقنا المخترع، وكان يرد علينا بتفاؤل جم، ويقول باسماً قريباً قريباً قريباً بإذن الله.
ازدادت التحديات الحياتية والمعيشية عليه، واضطر لتحويل نشاط الاستديو الخاص بالتصوير الجميل إلى مشغل للأدوات المنزلية لعلها تساعده في الحياة المعيشية كإنسان نشط وطموح، ولكن ذلك التغيير في النشاط (التجاري) لم يساعده، كون مدينة عدن وبسبب نشاط النظام السياسي والاقتصادي التوتاليتاري ذي التوجّه الاشتراكي لا يسمح مطلقاً بنجاح أي نشاط تجاري فردي أو جماعي إلا في حدود ضيقة ومحدودة ونادرة.
قرّر صديقنا المبدع الهجرة إلى خارج الوطن أي إلى خارج عدن، كما يقولون ليطلب الله، لكنه اصطدم بقرار سياسي أمني في اليمن الديمقراطية بأن السفر لخارج حدود جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ممنوع منعاً تاماً إلا لطلاب الدراسات الجامعية والعليا أو للحزبيين والنقابيين والبروليتاريين ومن في حكمهم التنظيمي.
وأمام جموح وطموح صديقنا سعيد الشغوف للسفر لتحسين مستوى حياته المعيشية له ولأسرته الكريمة ولإشباع رغباته العلمية الطموحة، فقد اتخذ قرارات استراتيجياً صعباً في حياته وهو التنازل النهائي عن مسكنهِ الشخصي الوحيد وهي شقّه أنيقة وواسعة تقع في شارع الملكة أروى في ضاحية كريتر، يسلمها لأحد أبطال وأشاوس رجال أمن الدولة القابضين على زِمام أمن اليمن الجنوبي، يُسلّم شقته في مقابل تهريبه سراً هو وأسرته (الزوجة والأولاد والبنات) إلى خارج الحدود المصطنعة لليمن الجنوبي إلى حدود اليمن الشمالي يوم ذآك في مطلع الثمانينات من القرن العشرين، وأظنها إلى حدود محافظة البيضاء.
وبعد أن وصل إلى حدود الشطر الشِمالي قرّر البقاء والعيش والعمل بكرامة وكبرياء في عدد من المدن اليمنية الشمالية، واستقر في مدينة الحديدة ليعيش بها حتى جاءت حرب العدوان السعودي الإماراتي وغادر إلى منطقة لماطر الخضراء في محافظة شبوه ليواصل حياته هناك.
هذا نموذج واحد من آلاف النَماذِج المُرة لمعيشة اليمنيين قبل الوحدة اليمنية المباركة، فلو استعرضنا حالات أخرى لما توقّف (الكي بورد) عن سرد الحكايات والقصص والمآسي.
لقد عاش صديقي المخترع المرحوم سعيد بارحمه رحمة الله وأسكنه فسيح جناته حياة قاسية وصعبة، ولكنه إنسان عصامي وشديد المِراس وقويُ الذات، ربّما قد نصحه نفر من أهله أو أصدقائه أن يغادر إلى خارج اليمن، لأي دولة من دول الجزيرة كون فرص العمل هناك أوسع وأكبر من أي مكان في اليمن، لكنه فضل البقاء والعمل في وطنه الحبيب اليمن بشطريه الجنوبي والشمالي، مع فارقٍ شاسع بأن النظام السياسي لأهله في جنوب الوطن أخذوا منه شقة السكن (وهو بمثابة الوطن) مقابل أن يؤمنوا له الهروب تحت جنح الظلام كي يعيش في شمال الوطن الذين أمنوا له العيش الكريم بكرامة وكبرياء وحرية.
نقول لروح الفقيد العزيز سعيد بارحمه، ليتقبّل الله العلي القدير روحك الطاهرة العظيمة المكافحة في جنات الخلود الأبدية وأن يتقبلك بواسع رحمته مع العلماء والعظماء والشهداء والأنبياء في جناته الواسعة..
وإنا لله وإنا إليه راجعون، بسم الله الرحمن الرحيم ((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)) صدق الله العظيم

[وَفَوْقَ كُلْ ذِيْ عِلْمٍ عَلَيَم]

* رئيس مجلس وزراء تصريف الأعمال في الجمهورية اليمنية – صنعاء

  •  المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع