السيد شبل*

 

كما كان السابع من أكتوبر علامة فارقة في التاريخ الحديث للنضال الفلسطيني، وإيذاناً بامتلاك حركات المقاومة الغزيّة زمام المبادرة، سيكون اغتيال الاحتلال الإسرائيلي نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الشيخ صالح العاروري أمارة تدلّ على عمق الأزمة التي يعيشها الكيان، وحاجة قادته إلى “اصطياد هدف ثمين” بصورة عاجلة، ولو كان على حساب توريطهم في معارك أكبر من طاقتهم.

المؤكد أن حكومة بنيامين نتنياهو التي باتت اليوم عاجزة أكثر من أي وقتٍ مضى عن تأمين المستوطنين إلى حد الفشل المتكرر في إقناع الفارّين منهم بالعودة إلى المستوطنات على الحدود الشمالية مع لبنان دفعت بنفسها إلى قلب العاصفة عبر توجيه مسيّراتها أو صواريخها إلى الضاحية الجنوبية لبيروت واغتيال العاروري.

يتحدث الإعلام العبري اليوم بصراحة عن فشل “إسرائيل” في أداء الدور الذي يُزعم أنها تأسست للقيام به، وهو حماية يهود العالم وتوفير الملاذ الآمن لهم بعدما تعرضوا الظلم بواسطة المجتمعات الغربية، لكنّ الواقع الآن، بحسب الأصوات الإسرائيلية ذاتها، أنَّ الكيان الذي تأسَّس عام 1948 (على أرضٍ عربية) عجز عن أداء الدور المنتظر منه، وأن “مواطنيه” باتوا مهددين أكثر من أي وقت مضى بخسارة حياتهم، وفي أضعف الأحوال الفرار إلى الملاجئ أو النزوح عن مناطقهم.

في المقابل، لم يدرك بعض العرب حجم المتغيرات التي أحدثها محور المقاومة، وكيف بات الرعب يدبّ في قلب “إسرائيل” من دون مبالغة، مع كل عملية عدوانية يبادر إليها قادة “جيش” الاحتلال.

الأمور بالفعل تبدّلت، ولم يعد شيء يمرّ من دون عقاب، والعقاب بدوره لم يعد يطال الإسرائيليين وحدهم، بل الولايات المتحدة قبلهم، وهذا يتكشف من الهجمات التي طالت القواعد الأميركية في العراق وسوريا منذ اليوم الأول لطوفان الأقصى، والتي لم تتوقف حتى الساعة.

الحديث عن تحرير كامل التراب الفلسطيني من النهر إلى البحر لم يعد كلاماً مجازياً أو حُلماً بعيد المنال، واليهود في الأراضي المحتلة باتوا يغبطون أقرانهم الذين يعيشون في الغرب، وصاروا يطمحون إلى اللحاق بهم وهجر تلك البلاد العربية لأهلها، علماً أن عدد اليهود في الولايات المتحدة يفوق عددهم في فلسطين المحتلة، ما يسهل عملية الهجرة العكسية، وذلك بالحسابات العقليّة المجرّدة.

قدرٌ من أزمة الوعي الحاصلة اليوم تتعلق بغياب المعلومة أو ضآلة انتشارها، فكثيرون في الشارع العربي منذ بداية العدوان الصهيوني على غزة باتوا على قدر عالٍ من المعرفة بأعداد الشهداء والمصابين الفلسطينيين، لكن في المقابل فإن قليلين منهم يعلمون حجم الإنجاز الذي تصنعه المقاومة الغزيّة داخل القطاع المحاصر أو في جنوب لبنان.

عندما يمرّ أمام المواطن العربي مصادفة خبر عن قيام المقاومة الإسلامية في لبنان بتنفيذ 10 عمليات ضد مواقع الاحتلال في يوم واحد، فإنه ربما لا يدرك حجم التخطيط والإعداد، ناهيك بالتضحيات، التي سبقت مثل تلك العمليات، كما أنه بالمثل لا يعي حجم الهلع الذي تُحدثه تلك العمليات وما ينجم عنها من إصابات في “جيش” الاحتلال.

الوضع في العواصم الغربية مختلف إلى حدٍ كبير، والكل بات على وعي بقدرة المقاومة، حتى مراكز الأبحاث نزلت إلى الساحة بثقلها منذ اغتيال العاروري، وذلك حتى تروي عطش العالم المترقب لرد محور المقاومة، والذي صار معلوماً أنه قادمٌ لا محالة، وقد بدأت بشائره بالتطوّر النوعي في عمليات المقاومة خلال الفترة القصيرة الماضية.

ربما لم تخض “إسرائيل” معركة صعبة إلى هذا الحدّ منذ عقود طويلة، والسبب يعود إلى تعدد الجبهات التي توجه نيرانها إلى الأراضي المحتلة، فمن قطاع غزة إلى جنوب لبنان وحتى اليمن، باتت النيران تلاحق الإسرائيليين من كل مكان من “كريات شمونة” في شمال فلسطين التاريخية إلى غلاف غزة وحتى “إيلات” في الجنوب.

باغتيال العاروري، الحرب أخذت أبعاداً أوسع، يمكن تلخيصها بالآتي:

أولاً: تعيش “إسرائيل” أزمة حقيقية منذ يوم السابع من أكتوبر، ولا يفكر قادتها بعقلانية بقدر ما تهيمن عليهم روح الانتقام. ولعل هذا ما يدفعهم إلى التصرف بعشوائية، وأحياناً بجنون يسوقهم نحو توسيع نطاق الحرب.

ربما يعطي هذا إحساساً بالقوة، لكنها قوة زائفة، وستنهار مع أول اختبار، وخصوصاً إن كان الخصم محوراً مقاوماً يمتاز بالقدرة على اصطياد عدوه في لحظات تخبطه، لما يتسم به من رجاحة العقل وطول الخبرة.

ثانياً: من يحارب الكل يخسر، وتلك حقيقة العدو الإسرائيلي اليوم.

“تل أبيب” خسرت الشارع العربي الذي حاولت نسج علاقات معه لعقود واختراق وعيه، حتى الأنظمة باتت تشعر بالحرج بسبب ملف التطبيع. أما المقاومة، فهي بأفضل حالاتها، ويمكن القول إنَّ “إسرائيل” تدفع الآن بنفسها إلى معركة غير متكافئة مع المحور، وأن الكفة تميل إلى مصلحته.

الجبهة الداخلية في “إسرائيل” هشّة ومفككة بدرجة غير مسبوقة، ولم تجد في عملية اغتيال العاروري ما يشفي غليلها أو يمنحها شعوراً بالقوة والتفوق. على العكس، فالكل اليوم داخل المستوطنات الإسرائيلية قلق بسبب إدراكه أن رد المقاومة سيأتي قريباً، وهذه معادلة جديدة ضمن سيناريو الحرب نفسية، والمقاومة باتت المنتصر الأول فيها.

ثالثاً: لجوء قادة الاحتلال إلى هذا السلوك العدواني بحق العاروري نسف كل جهود التوصّل إلى هدنة أو صيغة تهدئة، ومنح شرعية أكبر لخط المقاومة ورفض الاعتراف في مواجهة خط المساومة والتسويات السياسية، وهذا بدوره سيفسح مجالاً أكبر أمام حركات وفصائل المقاومة لتنفيذ عمليات أشدّ وأقوى، بحكم أنّها تتمتّع بمساندة شعبية أوسع بعدما تأكّدت سلامة النهج الذي تتبناه.

رابعاً: فضحت تلك العملية الدور الأميركي أكثر أمام المواطنين في الشرق الأوسط وفي مختلف دول العالم، فواشنطن التي ترعى من اليوم الأول للحرب الدعوة لعدم توسيع مساحتها سمحت لـ”إسرائيل” بتنفيذ عملية اغتيال أحد قادة حماس في الضاحية الجنوبية لبيروت.

هذا الأمر سيدفع بمحاور القتال المتنوعة خطوة كبيرة إلى الأمام. صحيح أن الولايات المتحدة مستهدفة من جانب المقاومة منذ اليوم الأول، لكنها اليوم ستكون عرضة لهجمات الحركات والفصائل بصورة أقوى، إذ إنها شريكة في توسيع مساحة القتال، وبالتالي عليها أن تتحمل تكلفة ذلك النهج.

خامساً: من المؤكد أن اغتيال العاروري دفع بالمواجهة بين المقاومة في لبنان و”إسرائيل” إلى منعطف جديد وحرج، إذ تجاوزت العملية الأخيرة الخطوط الحمر لقواعد الاشتباك بين الطرفين، كما أنها تعتبر الأعنف في الضاحية الجنوبية منذ حرب يوليو 2006، وتقارب العملية التي نفذتها طائرتان مسيرتان إسرائيليتان ضد مكتب للعلاقات الإعلامية لحزب الله في أغسطس 2019، لكنها اقتصرت على أضرار مادية، وهذا ما دفع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله إلى الإشارة إلى أنّ اغتيال الشيخ صالح العاروري عبارة عن عدوانين؛ الأول اعتداء على الشيخ صالح ورفاقه، والآخر اعتداء على الضاحية الجنوبية، مؤكداً أن الجريمة لن تبقى من دون رد وعقاب.

لماذا العاروري؟

كان الشهيد عقلاً سياسياً ناضجاً بقدر ما كان أحد أبرز سواعد المقاومة الميدانية، يتجلّى الشق الأول في رؤيته لآلية مشاركة كوادر حركة حماس في إدارة البلاد مسترشداً بمنهج حزب الله داخل لبنان.

أما الشق الثاني، فيبرز من خلال دوره في تأسيس كتائب عز الدين القسام، والتوسع القوي للحركة في الضفة الغربية، إضافة إلى تدبيره هجمات أسقطت العديد من القتلى الإسرائيليين على مر السنوات الماضية.

هنا، يبرز جانب مهم في شخصية العاروري، وربما يمثّل أساس الوقود الذي أدار محرّكات العدو الإسرائيلي لاغتياله، وهو الدور الذي أداه لسنوات كهمزة وصل بين فصائل المقاومة داخل قطاع غزة وباقي مكوّنات محور المقاومة في بيروت وطهران، فأشدّ ما يثير جنون الصهيوني اليوم هو أن يتوسع المحور أكثر وتترابط عناصره. لذا، يتم استهداف كل كادر مقاوم يؤدي دور الجسر أو صلة الربط. ومن هذا القبيل أيضاً كان اغتيال الشهيد رضي موسوي، مسؤول حرس الثورة الإيراني في سوريا، منذ نحو أسبوع.

وقد جاء استشهاد العاروري قبيل كلمة الأمين العام لحزب الله، وزعمت القناة 13 الإسرائيلية أنهما كانا يرتبان للقاء قريب. كما جاء اغتياله بعد ساعات من إعلان أحد المسؤولين الإسرائيليين أنَّ القوات المنسحبة من قطاع غزة تستعد لجبهة ثانية محتملة في لبنان.

يدرك القادة الإسرائيليون أن هجوم طوفان الأقصى الذي أسفر عن مقتل نحو 1400 شخص، بعد اختراق السياج الحدودي الفاصل مع قطاع غزة واستخدام الطائرات المسيرة والشراعية، يحمل توقيع كامل محور المقاومة، وهو نتاج سنوات من الإعداد والتنسيق. لذا، إن الرد عليه يستدعي من “جيش” الاحتلال ضرب كل عناصر الربط بين مكونات المحور، سعياً إلى تفكيكه، وهذا هو الهدف النهائي لحكومة نتنياهو، والذي بات الجميع على يقين باستحالة تحقيقه.

* المصدر: الميادين نت

* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب