“طوفان الأقصى” وجبهات الإسناد (2-3) لماذا اليمنيون راديكاليون إلى هذا الحد؟
محمد فرج
ابتداءً، لا بد من الإشارة إلى أن استخدام مفردة “الراديكالية” يأتي هنا للدلالة إلى “الجذرية”، وليس إلى التطرف، على الطريقة التي تحاول فيها وسائل الإعلام الغربية حرف اتجاه المصطلح.
اليمن راديكالي (جذري)، لأنه لم يسمح أن يُطبَّق القانون الدولي بانتقائية، ضد الفلسطينيين دائماً ومع “إسرائيل” غالباً. اليمن راديكالي لأن لسان حاله يقول، إذا كانت علاقات القوة هي المعيار الوحيد في المواجهة، وإذا كان الغرب يسمح لـ”إسرائيل” باستخدام كل أوراق الضغط والقهر المحتملة (استهداف مستشفيات، وقود، أطفال، نساء، طعام، ماء، مبان، إلخ…)، فإن اليمنيين قرروا أن يدعموا فلسطين على طريقتهم الراديكالية الخاصة، ولسان حالهم يقول: “ليس من المفروض أن يثير احتجاز السفن التجارية الإسرائيلية استنكاراً دولياً؛ إذا لم تثره صور الأطفال الخدج في غزة”.
إذا كانت جبهة غزة تشهد مواجهة برية حامية وإطلاقاً دورياً للصواريخ، وكانت جبهة حزب الله في جنوب لبنان تبدع في الإصابات والعمليات الدقيقة والفعّالة ضد مواقع الاحتلال وآلياته، فإن اليمن هو “مايسترو” الجبهة الراديكالية، التي تردّ بالأدوات التي يفترض المجتمع الدولي أن العرب لا يستطيعون استخدامها، ويقلقون من ردود الفعل بعدها. لماذا اليمن تحديداً يستسهل في دعمه لغزة احتجاز سفن الاحتلال التجارية، ويستسهل أيضاً إطلاق صواريخه من فوق السفن الحربية الأميركية؟
1. خرافة التخلف والتقدم: عندما كانت بريطانيا توسع إمبراطوريتها الاستعمارية، وصلت إلى عدن واستولت عليها عام 1839، واستثمرت في بيئة مفتتة من المشيخات لمدة 120 عاماً، إلى اللحظة التي أعلنت عن تأسيس اتحاد إمارات الجنوب العربي عام 1959 (الذي كان عبد الناصر يسميه الجنوب العربي المزيف، نظراً إلى ارتباطه بالاستعمار البريطاني). حدث كل ذلك وصنعاء عصية على الاستعمار؛ ويستخدم اليمنيون الأمر مادة للنكتة (نحن نعيش هكذا بطريقتنا الخاصة، لأن الاستعمار لم يصلنا).
بعد أن شكل وسط اليمن وشماله حالاً عصية على الاستعمار البريطاني، شكل لاحقاً عقدة لمنظومة العولمة الأميركية، ومثّل حالة صعبة من الاندماج. تبلغ نسبة مستخدمي الإنترنت في اليمن عام 2017م 26% وهي نسبة متدنية عالمياً، في معدل عالمي بلغ 54% من العام نفسه، ولم تكن هذه النسبة أحسن حالاً قبل الحرب.
أعلى قيمة لمؤشر الحرية المالية التي وصل إليها اليمن بلغ 30 نقطة، في الوقت الذي يصل فيه المعدل العالمي للمؤشر نفسه في 180 دولة 49 نقطة؛ ما يعني أن اليمن بعيد عن مؤشرات “الحرية المالية”. يقدم اليمن مثالاً صارخاً على نتائج الانسحاب من العولمة في بلد فقير (نتحدث هنا عن نتائج ذلك حتى في الفترة التي سبقت الحرب العدوانية التي شنت ضد هذا البلد).
مع أن مؤشر استخدام الإنترنت منخفض في اليمن، فإنّ القوات المسلحة اليمنية نفذت عملية احترافية مصورة في السيطرة على السفينة، وملأت مشاهد الفرقة المدربة تدريباً عالياً الإنترنت، الذي لا يكثر اليمنيون من استخدامه.
الأهم في هذا النوع من المؤشرات ليس القيمة، لا يهم كم منا يستخدم الإنترنت، ولا يهم كم جيجابايت نستهلك، ولكن الأهم كيف نستخدمها، وفي أي موضوعات؟ (لا ينفي هذا الحديث ضعف البنية التحتية للاتصالات في هذا البلد، حتى قبل الحرب).
اليمن بلد مفصول عن منظومة العولمة، حافظ على هوية خاصة، انعكست على طبيعة رؤيته للصراع. اليمن ينظر إلى القضية الفلسطينية بالطريقة نفسها منذ الاحتلال عام 1948م، وبالطريقة نفسها لفترة الحروب التي خاضتها الجيوش العربية. وكأن مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو واتفاقيات أبراهام والسوشال ميديا، لم تغيّر شيئاً في رؤية اليمنيين لطبيعة هذا الصراع، وطريقة تعبيرهم في أي مواجهة فيه.
ينعكس الانسحاب اليمني من منظومة العولمة المضللة حتى على هتاف الناس، شعاراتهم، المسيرات الحاشدة، نبرة الخطاب للعميد يحيى سريع في بيانات القوات المسلحة. باختصار، لليمن منطقه الخاص في التعبير، بعيداً من “تشذيب” العولمة و “تقليمها”؛ ويتراءى ذلك للمستلبين لخطاب العولمة كأنه تخلف وتأخر، ولكنه في حقيقة الأمر السلوك الطبيعي للمجتمعات التي لم تنصهر في بوتقة الكذب العالمية.
2. النتائج الطبيعية للحرب: جرّب اليمن حرباً طويلة شنت عليه من قبل التحالف السعودي-الإماراتي، دمرت فيها المباني، وراح ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء. عرف اليمن خلال الحرب الطويلة معنى تواطؤ الموقف الدولي، وعرف معنى أن يكون ترامب مشغولاً بجمع المال وتوقيع الاتفاقيات مع المملكة في ظل استعار الحرب وبيع المزيد من السلاح، وعرف زيف وعيد بايدن قبل الفوز في الانتخابات، الذي لم ينفذ بعدها.
عرف اليمن معنى السكوت العربي عن المذابح والمجازر خوفاً من انقطاع المساعدات المالية الخليجية أو الخوف على مصير العائلات التي تعمل في شركات الخليج وأسواقه.. لأن اليمن خرج من كل هذه الحسابات فهو راديكالي، ولأنه عرف كذبة “القانون الدولي” فهو لا يهتم كثيراً في تصريحاته بالحديث عن الأمم المتحدة أو غيرها من الهيئات الدولية، وتشغله أكثر علاقات القوة وميزانها.
الحرب الطويلة والشعور بالخذلان خلالها، ورصيد تاريخي من التصدي للاستعمار وتجربة طويلة في الانسلاخ عن العولمة وعدم الاندماج فيها؛ جميعها شكلت الوصفة اليمنية للراديكالية في التعامل مع الأحداث الكبرى.
كان استثمار ورقة المضائق وإغلاق مخارج البحر الأحمر أدوات الجيوش العربية في حروبها ضد “إسرائيل”، ولكن ما يربك الاحتلال اليوم أن اليمن وحده، بقواته المسلحة، يفعل ذلك!
صحيح أن اليمن راديكالي، للسببين المذكورين (انعكاس سيكولوجيا الحرب + تاريخ مواجهة الاستعمار والانسلاخ عن العولمة)، بيد أن أنظمة الحكم العربية ترى في خطوات اليمن “قرصنة” أو فعلاً “يناقض القانون الدولي” لأنها تريد أن تتمنع عن الحد الأدنى من الدعم والانخراط من جهة، ولأنها لم تعد ترى العالم إلا بعدسات العولمة من جهة ثانية!
– المصدر: الميادين نت
– المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع