أحمد عبد الرحمن*

مر أكثر من 5 ساعات تقريباً على بدء الهجوم الكاسح الذي شنته المقاومة الفلسطينية على مستعمرات غلاف قطاع غزة، وهذه المرة من فوق الأرض، ومن الجو، والبحر، تحت غطاء كثيف من الصواريخ والقذائف التي تجاوزت حتى كتابة هذه السطور 7000 صاروخ.

وفي الحقيقة، لم يكن أشد المتفائلين في الجانب الفلسطيني يتوقع حدوث مثل هذا العمل الاستثنائي، وفي الجانب الآخر، لم يكن أكثر المتشائمين في الجانب الصهيوني، سواء كانوا من المستوطنين، أو من دوائر المخابرات والجيش يعتقدون بأن شيئاً مشابهاً يمكن أن تشهده مستوطنات الغلاف.

وحتى نكون منصفين وواقعيين فإن حجم المفاجأة المدوّية التي استيقظ عليها سكان الجانب الغربي من الخط الزائل، وهم سكان قطاع غزة، لم تكن أقل درجة من مفاجأة سكان الجانب الشرقي منه “المستوطنين الصهاينة”، والذين لم يكن يدور في خلدهم، أو حتى في أسوأ كوابيسهم أن يروا من نوافذ بيوتهم التي اعتقدوا أنها آمنة مقاتلي المقاومة وهم يتجولون في شوارع مستوطناتهم، ويطرقون على الأبواب بكل قوة، بل ويسوقون العشرات منهم كما تقول التقارير الواردة حتى الآن إلى أراضي القطاع.

وفي اعتقادي، أن ما جرى اليوم يمكن أن يُؤرّخ له بأنه من الأحداث المفصلية الكبرى في تاريخ شعبنا الفلسطيني العظيم، بل وفي تاريخ أمتنا العربية والإسلامية. وهذا التأريخ لن يكون في شقّيه العسكري والعملياتي فقط، بل يمكن أن يتوسّع ليشمل جوانب أخرى من قبيل القدرة على اجتراح المستحيل، والرغبة في كسر حدود اللاممكن، والذهاب في اتجاه تحقيق إعجاز فشلت فيه قوى كبرى، وعجزت عنه دول عظمى.

وحتى لا تأخذنا المشاعر الجيّاشة التي تحيطنا من كل جانب عن تحليل ما جرى، والتداعيات التي يمكن أن تترتّب عليه، دعونا نشير إلى بعض الملاحظات الهامة، والتي يمكن أن تشكّل العناوين الفرعية لهذه الملحمة الكبرى، والتي أسمع وأرى جزءاً من تفاصيلها في أثناء كتابتي لهذا المقال.

أولاً: حملة من التمويه
بدا واضحاً خلال المرحلة السابقة حجم عملية التمويه الذي قامت به المقاومة خلال الأسبوعين الأخيرين تحديداً. إذ بدا واضحاً خلال هذين الأسبوعين حجم الرغبة الفلسطينية لا سيما من جانب حركة حماس في الرد على ما يجري في القدس من عدوان، إلى جانب الإجراءات الصهيونية التي هدفت إلى تشديد الحصار على قطاع غزة من خلال بعض التظاهرات على الحدود، والتواصل مع الوسطاء لرفع الحصار، وزيادة حجم المنحة المخصصة للموظفين والعائلات الفقيرة ومحطة الكهرباء.

وفي حقيقة الأمر، فإن ما كان يجري هو عملية تمويه مُحكمة، تم من خلالها توجيه كل الأنظار لا سيما الصهيونية منها نحو اهتمامات أخرى، ركّزت في معظمها على مواجهة التحدي الأمني في مدن الضفة، معتقدة أن بضعة ملايين من الدولارات، وعدة آلاف من العمال ستنهي المشكلة مع غزة، وسيعم الهدوء في المنطقة الجنوبية من جديد.

ثانياً: تخطيط عملياتي مُحكم
بالاستناد إلى بعض الصور والفيديوهات التي ظهرت حتى الآن، والتي يشير معظمها إلى تمكّن المقاومين من اقتحام عشرات المغتصبات الصهيونية، وإحكام قبضتهم عليها، في مقابل حالة من الانهيار سيطرت على أداء الجنود الصهاينة، ضمنهم وحدات نخبوية من لواء “عوز”، الذي يُنظر إليه صهونياً بأنه أفضل لواء مقاتل في “الجيش” الصهيوني، إضافة إلى مقاتلين من وحدة “اليمّام” ذائعة الصيت، يظهر من كل ذلك أن المقاومة خططت لهذا اليوم ببراعة وإتقان منقطع النظير، إذ أخذت في الاعتبار حجم القوات الصهيونية المنتشرة على الحدود، إضافة إلى أفضل الطرق وأسهلها للمرور إلى الجانب الشرقي منها، إلى جانب اختيارها التوقيت المناسب للبدء في التحرك الميداني، خصوصاً أن الفترة الحالية تشهد أعياداً يهودية يكون فيها الجنود والمستوطنون في حالة استرخاء تامة، وهو ما أدى إلى وصول المقاتلين إلى قلب المستعمرات الصهيونية على عمق يزيد على 10 كلم بسهولة ويُسر، وقبل أن يستيقظ الجنود أو المستوطنون من نومهم.

ثالثاً: تغطية نارية كثيفة
كان من المهم لنجاح عملية التوغل البري أن تكون هناك تغطية نارية مناسبة، بحيث ينشغل العدو في النظر باتجاه السماء، محاولاً تفادي أثر الصواريخ والقذائف التي انهمرت بشكل غير مسبوق، وساعياً لتفعيل قبته الحديدية التي انهارت بشكل كبير.

وهذا ما سمح للمقاتلين بالتوغل البري من أكثر من مكان، وعبر أكثر من وسيلة، والوصول إلى مناطق بعيدة نسبياً عن حدود القطاع والسيطرة شبه الكاملة على العديد من المواقع والمستوطنات، وقتل عشرات الجنود والمستوطنين وأسرهم كما يشير الكثير من المصادر حتى الآن.

رابعاً: تعمية استخبارية كاملة
على الرغم من أن هذه العملية النوعية احتاجت عدداً كبيراً من المقاتلين، الذين تحركوا بآلياتهم رباعية الدفع، ودراجاتهم النارية، إضافة إلى من تسلل من البحر، أو هبط من السماء، وما يمكن أن يحتاجه ذلك من تدريبات مكثفة بالذخيرة الحيّة لمدة تتجاوز الأشهر وليس الأسابيع، رغم كل ذلك، فشل العدو الصهيوني الذي يسيطر على أجواء غزة من خلال طائراته المسيّرة، وبعض عيونه المنتشرة في أكثر من مكان، ومن خلال اختراقه لشبكة الاتصالات السلكية الرسمية (الهواتف الأرضية)، والجوّالة من خلال الهواتف المحمولة، ومعظم الشبكات اللاسلكية ومواقع الإنترنت، في التقاط معلومة واحدة تشير إلى سعي المقاومة للقيام بمثل هذا الهجوم الاستراتيجي. واستمر هذا الإخفاق الاستخباري حتى بعد ساعات من بدء الهجوم.

خامساً: حرمان كيان “إسرائيل” من مصادر قوتها
بما أن المقاومة الفلسطينية تعمل بأسلوب “الحرب اللامتناظرة”، ويعد حرمان العدو من مصادر تفوّقه أحد أهم مبادئها، فقد سعت المقاومة لمنع العدو من استخدام قوته النارية الهائلة ضد مقاتليها سواء أثناء تنفيذ العمليات داخل العمق الإسرائيلي، أو أثناء الانسحاب إلى داخل أراضي القطاع. وعلى رأس تلك الإجراءات التي حرمت المقاومة العدو من استخدامها كان إجراء “حنبعل”، الذي يستخدمه العدو عند أسر أحد جنوده، إذ يقوم بعملية قصف عنيفة باتجاه المناطق التي يعتقد أن المقاومين انسحبوا تجاهها، كما حدث في مدينة رفح بعد أسر الجندي “هدار جولدن” في عدوان 2014.

في هذه المرة، ونتيجة العدد الكبير من الأسرى الصهاينة، ونتيجة الإرباك الحاصل داخل وحدات الجيش المنوط بها تنفيذ هذا الإجراء، والتي يتموضع معظمها في موقع كيسوفيم العسكري شرق دير البلح، ومواقع أخرى مقابل حدود مدينة غزة، لم يستطع العدو القيام بأي تحرّك مشابه، لأنه ببساطة سيقوم بقتل عدد كبير من جنوده ومستوطنيه، وهو ما سيفتح على الحكومة و”الجيش” أبواب جهنم من جانب الشارع الصهيوني.

ختاماً، نقول ونحن بانتظار أن ينجلي المزيد من الوقائع والمشاهد من غزوة “طوفان الأقصى”، إن ما جرى اليوم هو هزيمة استراتيجية ساحقة تلقتها “إسرائيل” في عقر دارها، وأن توابع وارتدادات هذه الهزيمة على مستقبل هذه “الدولة” ستكون هائلة.

بعد هذا اليوم لن تبقى سمعة “الجيش” الصهيوني كما اعتدنا عليها، “جيش” من فولاذ يقهر كل أعدائه، ويهزمهم بالضربة القاضية. من اليوم فصاعداً، يمكن النظر إلى هذه القوة الغاشمة بأنها وحش من غبار، يمكن بشيء من التخطيط، وبمزيد من الإرادة، أن تتم هزيمتها وقهرها.

اليوم، نحن أمام لحظة فارقة يمكن البناء عليها لو تضافرت الجهود، واتحدت الساحات، واجتمعت الجبهات. لو حدث ذلك فعلاً في هذه المرحلة الحاسمة، ستكون الأمة أمام نصر كبير لم يحدث له مثيل من قبل.

* المصدر: الميادين نت
* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب