حسن نافعة*

شواهد كثيرة توحي بأن النظام العالمي الحالي، والذي تهيمن عليه الولايات المتحدة منفردة منذ تفكك الاتحاد السوفياتي وانهياره في بداية تسعينيات القرن الماضي، لم يعد قادراً على البقاء، وأن نظاماً عالمياً قيد التشكل يتهيأ الآن لكي يحل محل النظام أحادي القطبية. صحيح أن الملامح الأساسية للنظام البديل لم تتضح بعد، لكن المراقبين بمعظمهم يؤكدون أنه سيكون بالضرورة نظاماً متعدد الأقطاب.

لكن، ماذا تعني التعددية القطبية في هذه الحالة؟ من الواضح أنها تعني، في مفهومها اللغوي على الأقل، أن النظام البديل لن تهيمن عليه دولة أو كتلة أو حلف بعينه، على النحو الذي يشهده العالم حالياً، ولن تهيمن عليه قوتان أو معسكران متصارعين، على النحو الذي شهده في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وإنما سيكون نظاماً تشاركياً تقوده دول مختلفة التوجهات والمصالح، كالصين والولايات المتحدة الأميركية وروسيا والاتحاد الأوروبي، أي رباعي القطبية.

لكن، هل سيكون بالضرورة أفضل للبشرية وأكثر قابلية لتحقيق الأمن والاستقرار في العالم؟ وماذا عن القوى الإقليمية الصاعدة، كالهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وغيرها، بل وبقية دول الجنوب؟ هل ستظل هذه المجموعة من الدول مستبعدة ومهمشة مثلما كانت حالها من قبل، أم سيكون لها دور تلعبه في تحديد قواعد النظام الدولي الجديد وقيمه وهياكله؟ تلك أسئلة ما تزال تبحث لنفسها عن إجابة في سياق الجدل الدائر حول طبيعة النظام الذي يتشكل أمام أعيننا في هذه المرحلة الانتقالية من مراحل تطور النظام الدولي.

كانت ظروف تاريخية معينة، كالكشوف الجغرافية والثورة الصناعية، قد مكنت أوروبا من الهيمنة على مقاليد النظام الدولي طوال قرون عدة، امتدت منذ نشأة الدولة القومية في منتصف القرن السابع عشر وحتى اندلاع الحرب العالمية الثانية نحو منتصف القرن العشرين.

غير أن تنافس القوى الأوروبية الرئيسية على المستعمرات، والذي تسبب في اندلاع حربين عالميتين، أفضى إلى نتيجتين على جانب كبير من الأهمية:

الأولى: نهاية عصر الهيمنة الأوروبية وانتقال مركز الثقل في النظام العالمي إلى دولتين من خارج أوروبا، هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.

الثانية: تنامي حركات التحرر الوطني في المستعمرات وبروز دور مؤثر ومتصاعد لدول الجنوب على الساحة الدولية، بعد قرون طويلة من الاستبعاد والتهميش.

لذا، يمكن القول، من دون أي نوع من المبالغة، إن انعقاد “مؤتمر باندونج” عام1955 كان بمنزلة نقطة تحول كبرى في مسار العلاقات الدولية. صحيح أن هذا المؤتمر انعقد في البداية تحت شعار “التضامن الأفريقي الآسيوي”، لكنه سرعان ما تحول إلى مؤتمر مؤسس لكل الحركات والتيارات التي استهدفت الدفاع عن المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية لما أصبح يعرف الآن بدول “الجنوب العالمي Global South “، مثل حركة “عدم الانحياز”، “مجموعة الـ 77″، “تجمع دول العالم الثالث”…إلخ. فقد أدى مؤتمر “باندونج” إلى تلاقي أفكار عدد من الزعماء، أهمهم نهرو وتيتو وعبد الناصر، الذين أدركوا مبكراً أن النظام الدولي ثنائي القطبية لا يخدم بأي حال من الأحوال أهداف الدول المستقلة حديثاً ومصالحها، لذا عليها أن تنأى بنفسها بعيداً عن الارتباط بأي من الأحلاف العسكرية لكلا المعسكرين المتصارعين، وأن تسعى جاهدة لتقديم كل عون ممكن لحركات التحرر الوطني التي بدأت تنتشر كالنار في الهشيم في كل المستعمرات التي لم تكن قد حصلت بعد على استقلالها، ما أدى إلى نشأة حركة “عدم الانحياز” التي تأسست في بداية ستينيات القرن الماضي ولعبت دوراً حاسماً في تصفية الاستعمار.

وحين أدركت هذه الحركة أن حصولها على الاستقلال السياسي لا يكفي لتحريرها من التبعية التي تربطها عضوياً بنظام اقتصادي عالمي تهيمن عليه الشركات والمصالح الرأسمالية الكبرى، بدأت تتحدث عن حق شعوبها في التنمية، وفي السيطرة على مواردها وثرواتها الطبيعية، وفي إصلاح الخلل الكامن في بنية النظام العالمي، خاصة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، ما أدى إلى نشأة “مجموعة الـ 77” التي تأسست إبان “مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية” الذي عقد أولى دوراته في منتصف ستينيات القرن الماضي.

هكذا راحت هذه الحركة الممثلة لمصالح الجنوب تشق طريقها وسط عالمين متصارعين، أحدهما رأسمالي (العالم الأول) والآخر اشتراكي (العالم الثاني).

غير أن نضالها في هذا الطريق لم يكن سهلاً أو ميسوراً لأن موازين القوى الحقيقية في النظام الدولي لم تكن في صالحها خلال هذه المرحلة، بعكس مرحلة النضال السياسي التي استفادت خلالها من بنية النظام الدولي ثنائي القطبية، من ناحية، ومن الزخم الذي ولدته حركات تحرر وطني مستعدة لتقديم أغلى التضحيات من أجل القضاء على الاستعمار، من ناحية أخرى.

تجدر الإشارة هنا إلى أن فرصة حقيقية لاحت أمام دول الجنوب لتصحيح الخلل القائم في بنية نظام دولي ثنائي القطبية، وذلك في ضوء حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973، والتي مكّنت الدول العربية المنتجة للنفط من استخدامه كسلاح سياسي في المعركة. حينها، بدا “العالم الثالث” موحد الصفوف ولديه أسنان قوية تمكنه من ممارسة ضغوط حقيقية في مواجهة القوى المتحكمة في إدارة النظام الاقتصادي العالمي.

لذا، لم يكن غريباً أن تنعقد في أعقاب حرب أكتوبر مباشرة مؤتمرات دولية كثيرة تطالب صراحة بإقامة “نظام اقتصادي عالمي جديد” وأخرى تطالب بإقامة “نظام إعلامي عالمي جديد”…إلخ.

غير أن هذه الفرصة سرعان ما تبددت حين نجح هنري كيسنجر في استدراج مصر الساداتية للخروج من معادلة الصراع العسكري مع “إسرائيل” ودفعها في طريق التسوية المنفردة، ما أدى إلى انفراط عقد النظام الإقليمي العربي الذي صنع نصر أكتوبر، وبانفراطه فقد “عالم الجنوب” أحد أهم مظاهر تماسكه، ومن ثم راحت الدعوات المطالبة بإقامة نظام اقتصادي واجتماعي عالمي جديد تضعف ثم تتلاشى تدريجياً، خاصة مع عودة الولايات المتحدة للإمساك بزمام المبادرة في منطقة الشرق الأوسط، ممهدة بذلك الطريق نحو انكشاف المعسكر الاشتراكي الذي راح يتفكك تدريجياً إلى أن سقط نهائياً في أعقاب حرب الخليج الثانية، أو ما يطلق عليه أحياناً “حرب تحرير الكويت”.

وبانفراد الولايات المتحدة الأميركية بالهيمنة على النظام الدولي في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، تلاشت الأحلام في إقامة نظام عالمي جديد فحسب، بل أصبح عالم الجنوب نفسه عرضة لأبشع أنواع العدوان والاستعمار المباشر من جانب القوة الوحيدة المهيمنة على النظام الدولي، وهو ما بدا جلياً في أعقاب الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001 ثم للعراق عام 2003.

غير أن السنوات العشرين التالية أثبتت بما لا يدع المجال لأي شك عجز الولايات المتحدة عن مواصلة هيمنتها المنفردة على النظام العالمي، وهو ما تبين بوضوح في أعقاب الهزيمة العسكرية التي منيت بها في أفغانستان واضطرارها في الوقت نفسه للانسحاب من العراق، ثم جاءت الحرب التي تدور رحاها الآن على الساحة الأوكرانية، لتكشف بوضوح قاطع عن تصميم روسيا وقوى دولية أخرى حليفة على تحدي الهيمنة الأميركية المنفردة على النظام الدولي ولو بقوة السلاح.

اليوم، تلوح فرصة جديدة أمام دول “الجنوب العالمي” للإسهام بفاعلية في صوغ قواعد نظام عالمي جديد بات الآن قيد التشكل. ولأنه ليس لدى هذه المجموعة الكبيرة من الدول، والتي تمثل أكثر من نصف سكان العالم، أي مصلحة حقيقية في أن تسفر المواجهة الحالية عن نظام دولي تقوده الصين والولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي ويقوم على توازن القوى بين هذه الدول الأربع وحدها، فمن الطبيعي أن ترفض أي محاولة جديدة لتهميشها واستبعادها من المشاركة في صنع النظام العالمي الجديد وإدارته.

ولأن العالم كله تحول، ولأول مرة في تاريخه، إلى قرية كونية واحدة يمكن إدارتها من خلال إطار مؤسسي واحد تعبّر عنه الأمم المتحدة التي أصبحت تضم في عضويتها دول العالم كافة، فقد آن الأوان للتخلي نهائياً عن اعتماد مفهوم “توازن القوى” كأساس لإدارة النظام الدولي، وإحلال مفهوم “الأمن الجماعي للبشرية” محله، الأمر الذي بات يتطلب إدخال إصلاحات عميقة على البنية المؤسسية لمنظمة الأمم المتحدة، وربما إعادة صوغ ميثاقها الذي تجاوزته الأحداث، لأن هذا هو الطريق الوحيد القادر على تجنيب البشرية مخاطر حرب عالمية ثالثة قد تؤدي إلى فنائها التام.

وتلك مهمة تاريخية لا تستطيع أن تنهض بأعبائها، في تقديري الشخصي، سوى دول “الجنوب العالمي”، شريطة أن تتمكن من رص صفوفها وتوحيد رؤاها. لذا، يبدو لي أن الحاجة باتت ماسة إلى “باندونج” جديد يعقد على مستوى القمة ويتولى صوغ القواعد والقيم التي يجب أن تقوم عليهما أسس النظام العالمي الجديد. لكن، هل سيكون بمقدور “الجنوب العالمي” أن يفرز خلال المستقبل المنظور قيادات من نوعية نهرو وتيتو وعبد الناصر؟

التاريخ وحده هو الذي يستطيع أن يجيبنا عن هذا السؤال الهام. غير أنني أعتقد، مع ذلك، أن التحولات الراهنة في النظام العالمي وفي موازين القوى بين الأطراف المتصارعة على قيادته، أصبحت قادرة على توفير الظروف الموضوعية اللازمة لإفراز قيادات على هذا المستوى من النضج وقوة البصيرة. لكن، كم من الوقت سينقضي قبل أن تكتمل عملية إنضاج هذه الظروف الموضوعية؟. هذا سؤال قد يكون من الصعب وربما من المستحيل على أي شخص تقديم إجابة واضحة عليه في الأوضاع الراهنة.

* المصدر: موقع الميادين
* المقالة تعبر عن وجه نظر الكاتب