عكس السير
بثينة شعبان*
علّ أهم وأخطر ما حاول المستعمرون فعله وتثبيته على مرّ العصور هو العدوان على منطق الجغرافيا والتاريخ لأسباب تحقّق غاياتهم، وتضمن استلابهم لثروات شعوب الأرض وتسخيرها لخدمة الفئات الرأسمالية الحاكمة وأهدافها. واختلقوا الأواصر التي تبرّر أعمالهم هذه من لغة إلى تحالفات إلى تجارة تصبّ كلها بالنتيجة في صالحهم وليس لصالح الشعوب المستضعفة والمستهدفة.
وكان لهذا الأمر أثره المدمّر على حياة الشعوب والتي كانت حتى ظهور هذه النزعات الاستعمارية شعوباً مستقرّة لأجيال وأجيال تتوارث الخبرات والمعارف، وتبنّي عليها وتحقّق تقدّماً حضارياً نوعياً نتيجة التراكمات الكمية التي حقّقتها بفعل الاستقرار المديد والتفاعل الآمن والمنتج مع جيران الجغرافيا وشركاء التاريخ.
وإذا ما ألقينا نظرة اليوم على أماكن الحروب والتوترات في كل أنحاء العالم نجد أن جوهر الصراع يكمن في فرض واقع مغاير للجغرافيا الطبيعية ولمسيرة التاريخ ومنطقه على فئة دون أخرى، ومقاومة هذه الفئة وهذا الشعب لهذا الفرض الذي يلحق الأذى بهم على أكثر من صعيد.
وإذا بدأنا من أحدث الحروب التي نشهدها اليوم وهي الحرب الدائرة في أوكرانيا على سبيل المثال نجد أن أوكرانيا وروسيا تتشاطران التاريخ والجغرافيا والهوية والمصالح، وأن كل ما يجري هناك من قتال ودم وخسارة متعددة الأوجه لمعظم الأطراف، سببه الأساسي هو قدوم طرف من خارج الجغرافيا ومحاولته فرض هوية سياسية وطرائق عيش تمزّق أواصر القربى وتفرض نمطاً من الهوية والانتماء والتفكير يتعارض ليس فقط مع المسيرة الطبيعية للعيش والتطوّر، وإنما مع مصلحة الذين ولدوا على هذه الأرض وعاشوا عليها جيلاً بعد جيل ويتقاتلون اليوم بضراوة.
وإذا ما انتقلنا إلى فلسطين المحتلة والجولان العربي السوري المحتل وشمال شرق سوريا وشمال غربها نجد من دون عناء يذكر أن جذر معاناة أهلنا في فلسطين وسوريا يتمثّل بعدوان احتلالي استيطاني طامع في الثروات، يعمل من خلال قوة السلاح على فرض واقع ينتهك حرمة الجغرافيا ويعتدي على منطق التاريخ ومساره الطبيعي الآمن والهادئ لدى سكان هذه المناطق.
وما زراعة الكيان الصهيوني في قلب منطقة لا علاقة له بها من قريب أو من بعيد إلا عدوان على جغرافيا وتاريخ هذه المنطقة، وسبب جوهري لمعاناة أهلها وشعبها الأصلي على مدى العقود الماضية. وإذا كان المستعمرون لا يفهمون ما معنى الانتماء للأرض وتقديس هذا الانتماء فذلك لأنهم لا يقيمون وزناً للعلاقة الطبيعية مع الأرض، والتي تشكّل عنصراً أساسياً من عناصر الشخصية العربية ومن شخصيات الشعوب الحضارية القديمة والمستقرة والتي تبغي سبل العيش المنسجم مع ما ورثته من مواقع على هذه الأرض وتراكم تاريخي تعتدّ به.
لقد كان أحد أهم أسباب عدم الاستقرار في منطقتنا هو التوترات التي تمّ زرعها أيضاً لأهداف استعمارية بين إيران ودول الخليج، وها نحن اليوم نشهد، وبعد نجاح الصين في كسر الجليد بين السعودية وإيران، نشهد تسارعاً ملحوظاً في تطوّر التفاهم والعلاقة بين إيران وجيرانها والعمل على تشكيل منتدى إقليمي وتعاون بحري وتفاهم على المصالح المشتركة بين هذه الدول المتجاورة تاريخياً، والتي لها ولشعوبها مصلحة حقيقية في العلاقة السليمة مع الجيران، وتبادل السلع والتلاقح الثقافي والتعاون والتبادل الاقتصادي.
وربما ولهذه الاعتبارات الهامة والأهمية القصوى للعلاقة الجغرافية السليمة بين الشعوب وانعكاساتها المثمرة على حياتهم ونموّهم وتطوّرهم فقد عمد الاستعمار الغربي إلى اختلاق الحدود والعقبات بين أبناء الشعب الواحد، كما فعلوا مع أبناء شعبنا العربي من خلال سايكس بيكو واختلاق كيان صهيوني في قلب الأمة العربية.
وإذا ما راجعنا الحرب الإرهابية التي تمّ شنّها على سوريا نجد أن الولايات المتحدة تدخّلت بعد أن أوشكت سوريا على دحر الإرهاب في منطقة التنف، فاحتلّت القوة العسكرية الأميركية التنف وبنت قاعدة هناك تُدرِّب فيها الإرهابيين وتسلِّحهم لتمنع التواصل بين إيران والعراق وسوريا والأردن؛ إذ لا عمل لقاعدة التنف ولا سبب لها سوى أن تقف عائقاً حقيقياً في وجه هذا التواصل، والذي هو جوهري وهام ومفيد ومثمر لكل الدول المعنية المتقاربة في هذه الجغرافيا.
ومن هذا المنظور ذاته فقد عملت القوى الاستعمارية، في البدء بريطانيا واليوم الولايات المتحدة الأميركية، على اتخاذ كل التدابير التي تمنع العلاقة المتينة والسليمة بين سوريا والعراق، لأن مثل هذه العلاقة تساهم مساهمة فعّالة في تحقيق التنمية والاستقرار والازدهار لكلا البلدين.
وقد قرأنا جميعاً الضجة التي أثيرت ضد الخطط لإقامة سكك حديدية تربط إيران والعراق وسوريا ولبنان لأن مثل هذا المشروع يشكّل شرياناً حيوياً ينعكس قوة وازدهاراً على هذه البلدان، ويضعف شوكة الاستعمار واستفراده بمقدّرات هذه الدول.
والمنطق ذاته ينطبق على اختلاق مسألة الصحراء الغربية بين المغرب والجزائر وذلك لمنع العمل على وحدة المغرب واستقراره وازدهاره، لأن الجغرافيا الطبيعية والعيش وفق نظمها سيحقّق نمواً وازدهاراً لكل بلدان المغرب العربي، وهذا ما لا تريد القوى الاستعمارية أن تراه في أي منطقة في العالم.
ومن هذا المنظور أيضاً تمّ تقسيم الهند إلى الهند وباكستان وبنغلادش، وكوريا إلى كوريتين، ويوغوسلافيا إلى خمس دول، وإلى ما هنالك من أعمال عدوانية لا تُحصى على منطق الجغرافيا والتاريخ. ومحاولات الاستمرار في هذا العدوان اليوم على تايوان والصين، ومحاولات التدخل من مسافات شاسعة على علاقة القرب الجغرافي والطبيعي.
ولكنّ ما يجري اليوم في عالمنا من انفراجات في منطقتنا بين إيران ودول الخليج وبين الدول العربية من جهة، والمقاومة الباسلة في الجولان وفلسطين واليمن للحفاظ على الهوية والأرض والانتماء، والتكتلات بين دول الشرق والتوصل إلى منظمات اقتصادية ومجتمعية وأمنية تشبك كل وسائل التواصل والتبادل بين هذه البلدان في تحدٍّ واعد للعقل الاستعماري ومخططاته، ما هو إلاّ بداية انتصار حقيقي لمنطق التاريخ والجغرافيا العفويين واللذين لا يمكن أن يكونا إلاّ في خدمة الإنسان واستقراره وازدهاره، وما هو إلاّ مبشّر لكل الشعوب بالعودة إلى الانسجام مع الطبيعة والجيرة وعوامل القربى، والتي هي عوامل أساسية في خدمة كل المعنيين بها وتحقيق التقدّم والازدهار للجميع.
بعد عقود من محاربة منطق الجغرافيا والتاريخ تعمل الدول الغربية اليوم على الاعتداء على خلق الله وعلى سريرة الإنسان وطبيعته وفطرته التي فطره بها الخالق العظيم، والتي حباه الله بها تحت عناوين مدمّرة للطفولة والشباب وللمنطق البشري السليم. وقبل أن يستفحل هذا التيار الشيطاني على البشرية برمّتها مقاومته، كي لا تسمح له أن ينتهك عقوداً من عمرها كما فعل في انتهاك منطق الجغرافيا والتاريخ، والذي كلّف الكثير من دول العالم سنوات من عمرها وأرواحاً لا تحصى وإبطاء أو شللاً لعملية التقدّم والبناء.
من المهم جداً أن نقف في وجه هذه الحركات المناقضة لكل ما هو طبيعي ومفهوم وأن نتبنّى المقاومة الجريئة والدؤوب لها لأنها لا تحمل في طياتها سوى الشرور والآثام. وأن نستفيد من كل التجارب التي كلّفت البشرية سنوات من عمرها قبل أن تكشف جوهر مخططاتها وأهدافها وأطماعها اللامحدودة في الثروات والأرض.
* المصدر: موقع الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع