أحمد عبد الرحمن

 

في كثير من الأحيان، تحتاج قوى المقاومة إلى أكثر من مجرد رد الفعل، أو الفعل “محدود النتائج”، لتدفع عدوها إلى اتخاذ قرارات ذات بُعد استراتيجي، تؤثر في مجمل الصراع، بما يمكن المراكمة عليه بعد حين لتحقيق النصر الحاسم.

وعندما نتحدث عن الفعل “محدود النتائج”، فنحن نقصد ذلك النوع من العمليات القتالية، التي تنفذها جماعة أو حزب، بهدف رفع الظلم الواقع عليها، وعلى شعبها، من دولة أخرى تحتل أرضها، وتصادر مقدّراتها، وتنهب خيراتها. وهذه العمليات تترك في الغالب تداعيات محدودة، وآثاراً يمكن تجاوزها من قِبل العدو، إذ إن الدول القوية التي عادة ما تحتل أراضي الغير تكون مقتدرة، وتملك إمكانيات هائلة، وخبرات كبيرة، وهذا ما يمكّنها من مواجهة المخاطر، ومحاصرة التأثيرات التي تنتج من العمليات سالفة الذكر، وفي بعض الأحيان، اتخاذها كحافز ومبرر، لممارسة مزيد من عمليات القتل والإجرام بحق الطرف الآخر.

وبالتالي، يصبح لزاماً على قوى المقاومة القيام بعمليات أكبر، وأوسع، وأكثر قدرة على إيقاع خسائر كبيرة ومؤثرة في صفوف عدوها، إذ إنه مهما تعاظمت قوة دولة ما، فإنها لن تستطيع الصمود أمام فداحة الخسائر التي قد تُمنى بها في صراعها مع قوى المقاومة، وستضطر في لحظة فارقة إلى اتخاذ قرارات مؤلمة، رغماً عن أنفها، ولن تجد بُداً من التراجع والاندحار، مهما بلغت عنجهيتها وصلابتها.

جزء كبير مما سبق ينطبق بشكل أو بآخر على حالة الصراع القائم منذ 75 عاماً تقريباً، بين “الكيان العبري” التي يحتل أرض فلسطين، وبين فصائل المقاومة الفلسطينية بمختلف مسمّياتها وتوجهاتها السياسية والتي قامت، على مدار هذه السنين الطوال من تاريخ الصراع، بتنفيذ آلاف العمليات العسكرية ضد قوات العدو، أوقعت خلالها خسائر كبيرة في صفوفه، وفي الوقت نفسه، قدمت تضحيات هائلة في سبيل تحرير أرضها، والدفاع عن شعبها ومقدساتها.

لكن تلك العمليات لم تدفع العدو إلى اتخاذ قرارات يمكن وصفها بالاستراتيجية، قد تؤدي في لحظة ما إلى مغادرته هذه الأرض، وانهيار مشروعه بشكل كامل، أو حتى بشكل جزئي بالحدّ الأدنى، ويرجع ذلك، حسب وجهة نظر البعض، إلى سببين أساسيين: الأول، تمكّن العدو من استيعاب تلك الخسائر التي دفعها نتيجة ذلك الاحتلال وتعويضها، والثاني قبول “المجتمع الصهيوني” بها تحت وقع المبررات التي ساقها له قادته، والتي كانت تركّز، في معظم الأحيان، على نظرية مفادها أن احتلال جغرافيا مجاورة هو لحماية الجبهة الداخلية لـ”للكيان”، وأن أي انسحاب من تلك الجغرافيا، قد يؤدي إلى وصول التهديد إلى عقر دار “الكيان العبري” نفسها.

ربما يقول البعض إن العدو انسحب من قطاع غزة مرغماً تحت ضربات المقاومة، وهذا الكلام في جزء كبير منه صحيح، لكن البعض الآخر يرى أن العدو استثمر لاحقاً في ذلك الانسحاب، بما حوّله من انسحاب ذي بُعد استراتيجي، إلى تراجع اقتصرت آثاره على خسارة تكتيكية، عوّض جزءاً منها من خلال تحويل القطاع إلى سجنٍ كبير، محاصر بين حواجز إذلال العدو، ومعابر موت الأشقاء.

وبناءً على ما تقدم، تجد المقاومة الفلسطينية نفسها أمام تحد صعب، يتوجّب عليها مواجهته بقوة واقتدار، وهو زيادة كلفة الاحتلال إلى حدّها الأقصى، والوصول بعدّاد الخسائر البشرية والاقتصادية إلى مؤشره الأعلى، بما يمكن أن يدفع العدو إلى مزيد من التراجع والانكفاء، وليس بالضرورة أن يؤدي إلى انسحاب كامل، بفعل عوامل كثيرة تميّز هذا الاحتلال عن غيره من قوى الاستعمار الأخرى، وإنما دفعه إلى التقوقع في أضيق بقعة جغرافية ممكنة من الأرض، وحصره في “غيتو” صغير نسبياً قياساً بعدد السكان، بما يمكن أن يؤدي إلى سلسلة متدحرجة من عمليات هروب المستوطنين، والمغادرة إلى أماكن أكثر أمناً، وجغرافيا أكثر استقراراً وازدهاراً.

 

حساسية العدو تجاه الخسائر البشرية والاقتصادية:

منذ نشأة “كيان” الاحتلال، قبل أكثر من 74 عاماً، كان الخوف من انخفاض القدرة الاستيعابية لـ”المجتمع الصهيوني”، أحد أهم الاعتبارات التي تحكم عملية صنع القرار العسكري لدى “الكيان”، وقد ارتفعت وتيرة هذا الخوف والقلق منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، عندما أدت سلسلة من العمليات النوعية في كلٍ من فلسطين وجنوب لبنان، إلى خسائر فادحة في صفوف الجنود والمستوطنين الصهاينة، ما أدى إلى زيادة ملحوظة في ميل الجمهور الصهيوني نحو خيار الانسحاب من “المناطق الساخنة”، حيث سقط من جرّاء التموضع العسكري والاستيطاني فيها عدد كبير من القتلى والجرحى، من دون أن تكون هناك فوائد استراتيجية يمكن الحصول عليها نتيجة ذلك التموضع.

هذا الميل انعكس ضغطاً شعبياً على مؤسسات صنع القرار في الكيان الصهيوني، والتي اضطرت، في نهاية المطاف، إلى اتخاذ قرارات قاسية وصعبة، كما وصفتها الصحافة الصهيونية آنذاك، تمثلت في الانسحاب شبه الكامل من جنوب لبنان في الخامس والعشرين من مايو عام 2000، والخروج من قطاع غزة في سبتمبر 2005، والذي عوّضت جزءاً منه كما أشرنا سابقاً، من خلال الحصار المطبق، والعدوان المتكرر بين الفينة والأخرى.

إضافة إلى الخسائر البشرية التي تشكل ضغطاً حقيقياً على صانع القرار في “الكيان الغاصب”، هناك جانب آخر لا يقل أهمية عن سابقه، بل يُعدّ بالنسبة إلى بعض الإسرائيليين، خصوصاً من أصحاب المشاريع ومالكي رأس المال، أكثر أهمية، وهذا الجانب هو الخسائر الاقتصادية التي تترتّب على الحروب والعمليات العسكرية، التي يخوضها “جيش” الاحتلال في الساحات المختلفة. إذ إن قدرة حكومة العدو الإسرائيلي على تمويل الحروب تراجعت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، وتحوّلت أعوام الازدهار الاقتصادي الذي عاشه “الكيان”، إلى أعوام كساد وركود، كما حصل بعد الحرب على لبنان عام 1982 على سبيل المثال.

ووفق تقارير صهيونية رسمية، فإن دافعي الضرائب في الكيان الصهيوني سيضطرون إلى دفع نحو 2.5 مليار شيكل، لتغطية العجز الناتج من خوض معركة تستمر لمدة أسبوع واحد فقط، بحيث يتم إنفاق هذا المبلغ على التكلفة العسكرية المباشرة، التي تشمل تحركات الطائرات والدبابات والمدافع، وغيرها من نفقات الحرب، وعلى تعويض الأضرار المباشرة، وغير المباشرة، التي تلحق بالمساكن والمصانع والمؤسسات من جراء المعارك.

هذا بالإضافة إلى تغطية جزء من نفقات تجنيد قوات الاحتياط، إذ تبلغ تكلفة تجنيد جندي احتياط واحد نحو 450 شيكل يومياً، وهذا يعني أن استدعاء وزارة حرب العدو لعشرة آلاف جندي احتياط مثلاً، ستصل تكلفتها إلى 4.5 ملايين شيكل في اليوم الواحد، بما يزيد على مليون ومئتي ألف دولار أميركي.

وبناءً على هذه الحساسية المفرطة تجاه الخسائر البشرية والاقتصادية، من قِبل الجمهور الصهيوني، وما يمكن أن يترتّب عليها من تداعيات ونتائج مهمة، يصبح البحث عن خيارات وبدائل على صعيد تكتيكات المقاومة، المنظّمة تحديداً، مهمة أساسية يجب التركيز عليها، مع أهمية تحوّلها إلى نهج طويل الأمد، يساهم في ارتفاع نسبة الخسائر بشكل تراكمي ومتصاعد.

 

بدائل وخيارات:

ولتحقيق الهدف المنشود، الذي يمكن أن يُرغم العدو على اتخاذ قرارات تؤدي إلى انكفاء مشروعه سياسياً وجغرافياً، يمكن لقوى المقاومة استخدام أساليب وطرق تعرفها جيداً، وقد مارسها عدد من قوى المقاومة والتحرر في أكثر من بقعة على مستوى العالم، وأدت إلى نتائج مبهرة وهائلة لم يكن كثيرون يتوقّعون حصولها، وأرغمت قوى عالمية كبرى على التراجع والانكفاء، ومغادرة أراض كانت تعدّ وجودها فيها مجرد نزهة.

أحد هذه الأساليب هو العمليات ذات النتائج الضخمة، والخسائر التي لا يمكن تقبّلها أو تجاوز تبعاتها، والتي تؤدي في بعض الأحيان إلى خسارة الدولة المعتدية، التي تحتل أراضي الغير، لنسبة كبيرة من قواتها العسكرية المقاتلة، في ضربة واحدة، وهذا الأمر يعرضها لإحراج شديد لا تستطيع تبريره أمام جمهورها، ويُفقدها هيبتها التي تعتمد عليها في تخويف الآخرين.

أما الأسلوب الثاني فهو زيادة حجم الخسائر من خلال العمليات المتواصلة والمنظّمة، والتي تكون نتاج خطة طويلة الأمد تشبه إلى حد كبير حرب الاستنزاف، وهذا النوع من الحروب يرهق العدو، ويشتت تركيزه، ويربك حساباته، ويجعله يعاني من نقص كبير في عدد القوات، والإمكانيات، والتمويل اللازم لاستمرار الحرب.

وقد شهدت المنطقة العربية، ومناطق أخرى من العالم عديداً من هذه التجارب التي أدت، رغم حجم التضحيات الكبير، إلى نتائج يمكن وصفها بالصادمة والقاسية لقوى الاستكبار والعدوان، التي اضطرت في بعض الاحيان إلى الهروب، وهي تجر أذيال الخيبة والهزيمة. وسنستعرض في ما يلي ثلاثة نماذج للاستدلال على هذه الفكرة التي نطرحها.

 

1- احتراق “المارينز”:
كانت أجواء العاصمة اللبنانية هادئة وجميلة كعادتها، في صباح الثالث والعشرين من أكتوبر من العام 1983، حينها اقتربت شاحنة صفراء اللون من طراز مرسيدس، من مبنى مكوّن من أربع طبقات، قريب من مطار بيروت، كان يوجد فيه نحو 300 عنصر من الكتيبة الأولى، من مشاة البحرية الأميركية “المارينز”، والذين كانوا يشكّلون مع نظرائهم من بريطانيا وفرنسا، قوة عسكرية لحفظ السلام بعد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982. لم تكن الشاحنة تنقل المياه كما كانت القوات الأميركية تعتقد، بل كانت عبارة عن سيارة مفخخة تحمل أكثر من سبعة أطنان من مادة الـ “TNT” شديدة الانفجار، قادها السائق إلى أقرب نقطة من المبنى المستهدف، وقام بتفجيرها موقعاً أكثر من 240 قتيلاً من الجنود الأميركيين، في حصيلة تعدّ الأكبر خلال عملية واحدة منذ الحرب العالمية الثانية.

بعد هذا الانفجار بدقائق، انفجرت سيارة ثانية في مبنى مكوّن من تسع طبقات، في منطقة الرملة البيضاء في بيروت، حيث كانت تتمركز قوات المظليين الفرنسية، وقد سقط منهم في ذلك الانفجار 58 جندياً، وأصيب عشرات آخرون.

ترتّب على هاتين العمليّتين الكبيرتين نتائج استراتيجية بالغة الأهمية، إذ أدّتا وتحديداً في السابع من فبراير من عام 1984، إلى إصدار الإدارة الأميركية أمراً لقوات “المارينز”، التي كانت أقرب إلى قوات احتلال منها إلى قوات حفظ سلام، بالبدء في الانسحاب من لبنان، بعد ضغوط من الكونغرس بسبب التفجيرات سالفة الذكر، والخسائر الفادحة التي نتجت منها، وقد اكتملت عمليات الانسحاب في السادس والعشرين من الشهر نفسه.

 

2- بداية الانهيار:

في صباح الحادي عشر من  نوفمبر من عام 1982، قاد شاب يُدعى أحمد قصير سيارة مرسيدس مفخخة بأكثر من 200 كلغ من المواد شديدة الانفجار، واقتحم بها مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي في مدينة صور جنوب لبنان، والذي كان يتكوّن من ثماني طبقات، لم يعرف أحد ماذا حدث خلال اللحظات الأولى، كل ما سمعوه هو عبارة عن صوت انفجار ضخم لم يسمعوا له مثيلاً من قبل، بعد دقائق، تكشّف حجم الدمار الهائل الذي لحق بالمبنى، والذي تبين أنه انهار عن بكرة أبيه، على من فيه من الجنود الصهاينة، الأمر الذي وصفه الجنرال “أوري أور”، قائد المنطقة الشمالية في “جيش” الاحتلال الإسرائيلي في ذلك الوقت، بأنه الصدمة الأقوى لـ”جيش الاحتلال الإسرائيلي” في لبنان.

وقد بلغت المحصلة النهائية للعملية البطولية 74 قتيلاً، و27 مفقوداً، وفق اعترافات الناطق العسكري الإسرائيلي. بعد عام من تفجير مقر الحاكم العسكري في صور، هاجم فدائي آخر مقر مخابرات العدو الإسرائيلي في المدينة نفسها، بواسطة سيارة “بيك آب” مفخخة، حاول حراس المقر إيقافه من دون جدوى، وتمكّن بعد تجاوزه الحاجز الرئيسي، وثلاثة سواتر ترابية أخرى من تفجيرها أمام المبنى الرئيسي مباشرة، نتج من العملية مقتل 29 جندياً إسرائيلياً، وإصابة عشرات آخرين. استمرت بعد ذلك سلسلة العمليات التي قادتها المقاومة الإسلامية في لبنان، بطرق وأشكال مختلفة، موقعة مئات القتلى والجرحى في صفوف العدو، إلى أن استسلم أخيراً، واتخذ قراراً بالهروب من الجحيم، على حد وصف قائد صهيوني في العام 2000، تاركاً وراءه عملاءه من “جيش لحد ” ليواجهوا مصيرهم المحتوم.

 

خاتمة

بعد هذا الاستعراض لعدة نماذج مقاوِمة، أدت في بعضها إلى نتائج مبهرة، وفي البعض الآخر، ما زالت تراكم نقاط انتصار، قد تُفضي في مرحلة ما إلى تحقيق النصر الحاسم، يجب أن لا نغفل، أو نُسقط من حساباتنا تلك المرحلة التاريخية من عمر المقاومة الفلسطينية الشجاعة والبطلة، تلك المقاومة التي، رغم محدودية الإمكانيات، وقلة النصير، والحصار المطبق من أكثر من اتجاه، حققت نجاحات مذهلة في فترة زمنية معينة، بلغت ذروتها من بداية انتفاضة الأقصى، وحتى العام 2006 تقريباً، حيث نفذت عشرات العمليات الاستشهادية في قلب مدن العدو، أوقعت مئات القتلى، وآلاف الجرحى من الجنود والمستوطنين الصهاينة، وكادت أن تؤدي إلى هجرة معاكسة، وهروب كبير من الدولة المستوطنة، في اتجاه دول العالم المختلفة.

وبغض النظر عن الأسباب الكامنة وراء توقف هذه الموجة من العمليات، وهل هي ناتجة من قرار ذاتي من قبل فصائل المقاومة لظروف هي أعلم بها، أو نتيجة ضربات أمنية تعرضت لها خلال السنوات التي شهدت تلك السلسلة من العمليات، فإن التفكير مجدداً في اللجوء إلى الأسلوب نفسه، وتطويره بطريقة تسمح بجني ثمن إضافي على صعيد الخسائر البشرية والاقتصادية لـ”دولة” العدو، سيؤدي من دون أدنى شك إلى تغيير مفصلي في استقرار “الكيان العبري”، وفي طريقة تعاطيها مع القضية الفلسطينية، وحجم العدوان الذي تشنه عليه، وإذا لم تنجح في إرغام العدو الإسرائيلي على الخروج من الأرض التي يحتلها إلى غير رجعة، ورفع يده عن شعبها وناسها الطيبين، فإنها على الأقل ستحد من حجم تغوّله وعدوانه، وستكف يده وإن بنسبة معينة، عن ممارسة مزيد من عمليات القتل والإجرام بحق المواطنين الفلسطينيين العزّل.

 

  • المصدر: الميادين نت
  • المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وتم نقله بتصرف وليس بالضرورة عن رأي الموقع