دبلوماسية الكوارث.. ومعركة الزلزال
أكثم سليمان *
الزلزال الذي ضرب سوريا جاء فرصةً سانحة في عيون الغرب الجماعي لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، خصوصاً مع انقلاب السحر على الساحر بعدما تحوّل سيف “الإجراءات الإنسانية” من سيف للغرب إلى سيف عليه بعد انكشاف الآثار الكارثية للإجراءات القسرية الأحادية.
من عرض اليونان المساعدة على “العدو التركي” إلى فتح أرمينيا لحدودها مع “العدو التاريخي” تركيا، ومن اتصال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والملك الأردني عبد الله الثاني بالرئيس السوري بشار الأسد إلى وصول طائرة مساعدات سعودية… تمتد مساحات وتُخرق خطوط تماس بتسارع وبطريقة يسميها أهل الاختصاص “دبلوماسية الكوارث”.
وهي دبلوماسية تقوم أولاً على مبدأ تجاوز الخلافات والاختلافات أمام هول كارثة طبيعية، وتقوم ثانياً على استغلال هذا التجاوز للتأسيس إلى ما هو أعمق وأبعد مدىً من دون نبش أوراق الماضي وملفاته. لكن الزلزال الأخير الذي ضرب سوريا وتركيا سيدخل التاريخ على أنه أول ظاهرة لما يمكن تسميته “معارك الكوارث”.
فبينما كان كثير من السورين يلملمون أشلاء أحبتهم ويودّعون بيوتهم، وكان كل السوريين يمسحون دموعهم ويشمّرون عن أذرعهم لتقديم العون لإخوانهم، تفتق ذهن خبراء الناتو عن فكرة الاستثمار في الزلزال لتحقيق ما لم يستطيعوا تحقيقه في سنوات الحرب والحصار. أي أنهم قرّروا خوض “معركة الزلزال” بدلاً من ممارسة “دبلوماسية الكوارث”.
ظهر ذلك جلياً من خلال تحركات أميركية وغربية في إطار حملة إعلامية ودبلوماسية واسعة في الأيام القليلة الماضية هدفها الأوحد: إجبار “النظام” السوري بعد كارثة الزلزال على القبول بقرار ملزم من قبل مجلس الأمن الدولي بفتح معابر إضافية مع تركيا، تُضاف إلى معبر باب الهوى المفتوح حالياً.
وتعود قضية المعابر إلى تموز/يوليو 2014 حين أصدر مجلس الأمن بالإجماع القرار 2165 الذي تقدمت به الأردن وأستراليا ولوكسمبورغ ويسمح عملياً للمنظمات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة وشركائها بتقديم المساعدات عبر الحدود من دون موافقة الدولة السورية.
ركّزت الحملة الغربية في تلك السنوات الصعبة على الناحية الإنسانية لتبرير خرق السيادة السورية، وهو ما فشلت به اليوم. فبين 2014 و2023 تغيّرت كثير من الأمور الميدانية والسياسية سورياً ودولياً، ما أتاح لدمشق وبدعم من الحليف الروسي تحقيق العديد من الإنجازات الدبلوماسية على رأسها الإبقاء على معبر مفتوح واحد فحسب بدءاً من صيف 2020، ولاحقاً التمديد للقرار الدولي لمدة ستة شهور بدلاً من عام كامل مع ملاحظة دورٍ للمعابر الداخلية بين مناطق الحكومة والمناطق خارج سيطرتها، إضافة إلى تضمين دعم مشاريع ما يُسمّى التعافي المبكر في نص القرار.
وكان آخر تمديد لهذا القرار-الذي يمثّل حلاً وسطاً سورياً ودولياً -قد اعتُمد في مجلس الأمن بداية هذا العام، ومرّ بسلاسة وهدوء أعادهما بعض المراقبين إلى وجود اشتباك روسي غربي في أوكرانيا لا يتيح فتح جبهات أخرى جديدة.
لكن الزلزال الذي ضرب سوريا جاء على ما يبدو فرصةً سانحة في عيون الغرب الجماعي لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، خصوصاً مع انقلاب السحر على الساحر بعدما تحوّل سيف “الإجراءات الإنسانية” من سيف للغرب إلى سيف عليه بعد انكشاف الآثار الكارثية للإجراءات القسرية الأحادية أي العقوبات الغربية ضدّ سوريا على ضحايا الزلزال وفرص نجاتهم، وبعد اتضاح ازدواجية المعايير في التعامل مع الكارثة السورية مقارنة بالتعامل مع تلك التركية.
ارتفعت بعد الزلزال صيحاتٌ تطالب برفع العقوبات الغربية الأحادية على سوريا بدل رفعٍ جزئي ومؤقت لبعض أوجهها كما فعلت وزارة الخزانة الأميركية نهاية الأسبوع الماضي. وجاءت تلك الصيحات من قبل جهات دولية فاعلة كروسيا والصين ومن قبل جهات إنسانية وكنسية وشعبية وإعلامية، امتدت من الداخل السوري إلى المحيط العربي وصولاً إلى داخل المعسكر الغربي نفسه.
لتبدأ محاولات الغرب استعادةَ “المبادرة الإنسانية”، مرةً من خلال تصريحات إعلامية على طريقة وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك الأسبوع الماضي عن أن جرافات الإنقاذ لا تصل إلى السوريين لأن “النظام السوري” يغلق الحدود، وليس لأن هناك عقوبات مفروضة على سوريا، على حدّ وصف الوزيرة. ومرةً، وهو الأمر الأخطر، من خلال التخطيط لمشروع قرار في مجلس الأمن تحت البند السابع (استخدام القوة العسكرية) يجبر سوريا على فتح كل المعابر وإلا فالحرب أو أقلّه التشهير الإعلامي.
بكلمات أخرى: التخطيط لاستخدام الزلزال وتبعاته الإنسانية على الجميع من أجل ضرب السيادة السورية وابتزاز دمشق مجدّداً، بحجة إنسانية هي حماية السوريين في شمال غرب البلاد من غضب الطبيعة هذه المرة. وتواترت التصريحات الأميركية الرسمية عشية جلسة مجلس الأمن يوم الاثنين الماضي لتتقاطع مع حملة غربية – وعربية وسورية معارضة أحياناً – في وسائل الإعلام وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، وفحواها: ضحايا الزلزال هم “ضحايا الأسد”، والدولة السورية ليست مؤهلة للتعامل مع الكارثة، مرة لانعدام رغبة، ومرة لفقدان قدرة، ومرّات لغياب ذمة.
انطلاقاً من هنا يمكن فهم الخطوة التي اتخذتها الحكومة السورية على أعلى المستويات مؤخراً بالتوافق والاتفاق مع منظمة الأمم المتحدة بأقسامها المعنية بفتح معبرين إضافيين هما باب السلام وباب الراعي لمدة ثلاثة شهور – من دون مجلس أمن وقرارات دولية وفصل سابع. لتسحب دمشق بذلك البساط من تحت أقدام المخططين الغربيين دبلوماسياً وإعلامياً، والذين لم يكونوا يتوقعون مثل هذه الخطوة وخرجوا خائبين من اجتماع مجلس الأمن الأخير، تتردد في آذانهم كلمات الجانب الروسي المستند إلى القرار السوري: “موافقة الحكومة السورية على فتح المعبرين كافية ولا حاجة لقرار دولي، فهذه أرض سورية باعتراف كل أعضاء المجلس، ومن حق سوريا أن تمارس السيادة عليها، ولا دخل لمجلس الأمن بهذه المسألة السيادية”.
نجت دمشق من فخّ سياسي محكم لم يكن يتعلق بمعابر أو مساعدات إنسانية، بل بضرب السيادة السورية من باب الزلزال، ونجحت في تحقيق هدف مزدوج: ضرورة تقديم المساعدات العاجلة لسكان شمال غرب سوريا، مع الحفاظ على السيادة السورية من خلال اتفاق ثنائي بين الحكومة في دمشق والأمم المتحدة على فتح المعابر الإضافية، لا من خلال قرار في مجلس الأمن من دون مشاركة دمشق.
كما حافظت سوريا على مصداقيتها، فحين تقول الدولة السورية إن كارثة الزلزال هي حالة استثنائية أكبر من أن تسمح بإبقاء الإجراءات الأحادية والقسرية التي يفرضها الغرب على البلاد تحت شعار العقوبات، فإن الحالة الاستثنائية نفسها تفرض على دمشق الإجراء الاستثنائي الذي تمثّل بفتح معابر إضافية عبر الحدود، بدل انتظارِ سماح المجموعات المسلحة بدخول المساعدات عبر “المعابر الداخلية” بين مناطق سيطرة هذه الجماعات ومناطق الدولة، أو التمترس خلف مقولات عامة حول عدم جواز استفادة الإرهاب من المساعدات.
يبقى أخيراً انتظار الهزّات الارتدادية لمعركة الزلزال، فالمؤشرات تدل على توترات مقبلة بعد خسارة الغرب للمعركة. وعلى امتداد الأفق السوري لا أثر للجرافات التي تحدثت عنها وزيرة الخارجية الألمانية آنالينا بيربوك وباقي الساسة الغربيين.
المصدر: الميادين نت
المقاله الصحفية نقلت حرفيا من المصدر وتعبر عن جه نظر الكاتب