عصري فياض*

بعد عدة اشهر على وفاة الفتاة الايرانية الكردية (مهسا أميني) في أحد مراكز شرطة الآداب في إقليم كردستان، تتواصل أعمال الإرهاب والشغب في عدة محافظات إيرانية من قبل بعض المنفذين لخطط شيطانية تحركها أيادٍ خبيثة، ومخدوعين بقصد إسقاط الثورة الإسلامية في إيران التي مر على تجذرها في الأمة الإيرانية نحو أربعة عقود، قادت الشعب الإيراني من النقيض إلى النقيض، من التبعية إلى الاستقلال وبناء الشخصية الوطنية، من الليبرالية الدائرة في الفلك الأمريكي إلى الإسلامية المبنية على النظرة الإيمانية الشاملة للحياة وفق مدرسة محمد وآل بيت محمد، من دولة كانت تُسخِّر مقدرات الشعب لمنفعة حكامها وخدامهم، إلى دولة تُسَخِّرْ نفسها لمصالح وخير الشعب الإيراني، لذلك لو قست بكل مقاييس العلم والمعرفة أين كان الشعب الإيراني قبل الثورة وبعدها، لاكتشفت حدية صعود المؤشرات في كل المجالات ليس نحو الافضل فقط، بل نحو الاميز على مستوى البشرية على وجه الأرض، وبزمن قياسي قد يكون فريدا وغير مسبوق في تجارب الشعوب والأمم على مر التاريخ.

ولكن هذه التجربة المتألقة نجاحا والتي اصدمت ــ بفعل التغيير الايجابي الذي حصل ــ وبشكل جدي وكبير مع مصالح قوى أخرى متنفذة في العالم بشكل سلبي، فكان لا بد من الصدام والتنافر وشن الحروب المتنوعة، ومحاولة القضاء على هذه الظاهرة التي لم يكن الخوف من وجودها فقط، بل كان وما زال الخوف أن تنتقل هذه التجربة إلى المحيط والمنطقة والعالم، لأن من أساسيات الثورة الإسلامية كان ولا زال هو مساعدة المظلوم والمقهور اينما كان، وخاصة في بلاد العرب والمسلمين، لأن ذلك يتطابق ويتماشى مع جوهر تلك الثورة، الامر الذي أفزع القوى الاستكبارية الظالمة والمتجبرة، وجعلها تهب لحصار إيران، وتعمل في الليل النهار على مدى أكثر من أربعة عقود على رسم الخطط والتصورات وتنفيذها، أو محاولة تنفيذها لوأد الثورة وحصارها ومنع خروج تجربتها للخارج بالاحتواء أولا، أو بالقتال ومثال ذلك حرب الخليج الأولى ثانيا والحصار والعقوبات الغير مسبوقة في التاريخ من حيث الكم والمسافة الزمنية ثالثا، ومحاولات إشعال الدسائس والفتن الداخلية عبر تفعيل النوازع العرقية والطائفية في ايران وإذكائها رابعا، خاصة وأن إيران بلد مكوّن من نحو ستة عشر عرقا منها الفرس (51%) والكرد (24%) والجيلاك (8%) والاذريون (7%) واللور (7%) والتركمان والعرب والبلوش (2% )، والباقي عرقيات مختلفة قليلة، أما عن الديانات، فالغالبية العظمى من الشعب الإيراني ( 99% ) يدين بالإسلام، وبغالبية للمذهب الشيعي الذي يبلغ اتباعه ( 89%)، والطائفة السنية (10%) ، وباقي النسبة أي (1% ) هم مسيحيون أرمن وزردشت ويهود.

وهذا التنوع الديني والعرقي، أسال لعاب القوى الاستكبارية وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والعدو اللدود للجمهورية الإسلامية وهي ”إسرائيل“، وبعض الدول المحيطة ومنها وعلى رأسها السعودية أن تقوم بإذكاء النعرات العرقية والطائفية بقصد ضرب النظام الايراني من الداخل، بعد أن فشلت كل المخططات الأخرى وفي جميع جوانبها على اسقاط الثورة الايرانية من الخارج بكل الوسائل التي استخدمت بما فيها حرب الظلال الدائرة بشراسة بين إيران و”اسرائيل ” في أكثر من شكل ولون من تصفيات وتفجيرات وشن هجمات هنا وهناك وحرب سفن وهجمات سبرانية، وكانت آخر محطات استخدام لهذه الحروب ما يجري الآن في إيران من إشعال الفتن المفتعلة، والتي يبدوا انها تأخذ صورة أعنف هذه المرة، وتحمل بصمات الآمر المتوتر ومشدود الاعصاب الذي تصل أوامره للمرتزقة على الارض، فيُلَبْي الامر وينفذه على وقع صراخ أسياده الذين فقدوا اعصابهم من هذا الصمود الاسطوري والحكمة الفردية والصبر الاستراتيجي في إدارة الازمات والخروج منها بإسقاطها على الدوام بالضربة القاضية.

إن هذا التشكيل المعادي لإيران والذي وصفه اللواء حسين سلامة قائد الحرس الثوري الإيراني بانه شيطاني، يفتح صفحة مع ايران في الداخل وهو الذي تتراكم أمامه ملفات الفشل الكبيرة في تجارب معاداة ايران او النيل منها، والسبب بسيط أن الثورة الاسلامية ليست في عقل ووجدان النظام فقط، بل انها متجذرة فكرا وممارسة في عقل وقلب ووجدان الشعب الإيراني، ومنذ اندلاع هذه الموجة من اعمال الارهاب والشغب، خرج الشعب الايراني بالملايين في جميع المدن والبلدات الايرانية بتلقائية، وفي أكثر من مرة ليؤكد رفضه ونقمته من أولئك الاعداء، ووقوفه بالجسد والروح مع ثورته الإسلامية، واستعداده للتضحية بكل ما يملك من أجلها، وأن هذا الشعب هو خط الدفاع الاول والأخير عن هذه الثورة، قبل أن تخرج الدولة بقواها الواسعة والمتجذرة عقائديا وهي قوى الأمن الداخلي والشرطة والحرس الثوري الإيراني (نحو نصف مليون عسكري) وقوات الباسيج (إثني عشر مليون متطوع) والجيش الإيراني (نصف مليون عسكري).

وبالرغم من أن هذه الأعمال الأخيرة يشارك فيها إرهابيون متنوعون، ومغرر بهم كُثر، يلتقون على موائد أسيادهم لتنفيذ ما يقومون به بقلوب شتى، فمثلا المخدوعون من الأكراد، سيدهم الحزب الكردي الإيراني المعادي للثورة، والذي مركزه أربيل، والمتعاون بشكل كبير مع الموساد ”الاسرائيلي”، وكذلك مجموعة ما يسمى ” مجاهدي خلق”، أما الطرف التكفيري فهو مرتبط أكثر بالولايات المتحدة الأمريكية والسعودية، وهذا التنوع وهذه المرجعية هي أول عوامل الضعف، والضعف الثاني هو شعار هذه الأحداث الذي كان الدعوة للتخلص من غطاء الرأس، ليصل إلى المطالبة بحرية كاملة من ارتداء اللباس للنساء أو التعري والسفور، وهذا مستحيل مع نظام يتمسك بالقيم الإسلامية، ويعتبر أساس من أساسيات الدين والثورة، ومستنكر ومرفوض لدى الغالبية الساحقة من الشعب الإيراني، والضعف الثالث هو أن إيران بالرغم من الحصار المشدد المفروض عليها، إلا أنها وبالاقتصاد المقاوم، وبالرغم من الأزمات الاقتصادية العالمية استطاعت أن تكون أقل دول المنطقة من حيث اسعار المواد الاستهلاكية خاصة الأساسيات، فإذا أخذت أي سعلة وقارنتها بما تباع في إيران، وما تباع في دول المحيط لوجدها الأقل ثمنا، كما أن المشكلة الأبرز التي كانت تواجه المجتمع الإيراني وهي الحاجة لمليون شقة سكن للأزواج الشابة، قد تم حل معظمها خلال فترة قياسية وهي فترة قدوم حكومة إبراهيم رئيسي للسلطة، حيث تم بناء مئات الالاف من هذه الاسكانات التي ساهمت في حل أكبر مشكلات الشباب الإيراني، وهذا إنجاز كبير، أضف إلى ذلك رابطة جأش القيادة الايرانية سواء كانت الروحية أو الحكومية أو العسكرية رغم مقدراتها والقوة التي تملكها، فهي لا تزال تتسم بالصبر والتروي كصياد واثق من نفسه ومن سلاحه، هاجمه وحش في الغابة، فأول مؤشرات الانتصار هو الثبات والثقة، وما سياسة الصبر الاستراتيجي إلا توجه يتماشى مع المثل الايراني الذي يقول ” أقتل عدوك بخيط صوف “، وهذه السياسة التي شبهها كثير من الكتاب والمراقبين الإيرانيين بسياسة “نسيج السجاد ” أصبحت معروفة، وقد تمكنت القيادات الايرانية المتعاقبة على احتواء وتدمير المخططات التي حيكت ضدها في الماضي.

إن اللعب على نار الفتن والعرقيات أو النغم الطائفي التكفيري قد يكون قد اصاب بعض المجتمعات والبلدان في اماكن كثيرة من العالم منها ما جاء بالنتائج المدمرة لتلك المجتمعات وتلك البلدان ومنها من فشل، لكن الحقيقة التي لا زالت تغيب عن أذهان اعداء ايران الاغبياء أنهم يتعاملون مع إيران وكأنها مجتمع أو دولة مشابهة لكثير من الدول المجتمعات التي استهدفت أو هي في عين الاستهداف، وهذا ما يجعلهم من الحمقى، إيران مجتمع وبلد مختلف، وهذا هو السر الذي لم يعيه كل أعداء إيران لغاية الآن، والشيفرة التي لم يحللها ولم يقرأها الذين يكنون الحقد على هذا البلد.

لذلك، وأمام خاصية إيران وثورتها، ثورتها المستلهمة من أكبر ثورة في تاريخ البشرية، وهي الثورة الحسينية التي استلهمت من نورها كل الثورات الانسانية التي قاومت الظلم والاستعمار على امتداد ألف وثلاثمائة وتسع وسبعين عاما، وأمام تشتت أهداف الاعداء، وتماسك الشعب الإيراني وقيادته المخلصة، فإن هذه الأعمال الإرهابية، وأعمال الشغب المفتعلة لن تستطيع بلوغ أهدافها، وستنال ما نالته المخططات السابقة، وسيصبح ملف فشل إضافي أمام تلك القوى المعادية ظلما لإيران، في الوقت الذي سيعطي إيران قوة جديدة من التماسك والتقدم والرفعة والمكانة بين شعوب العالم الحر الرافض لما تبقى من الهيمنة الأمريكية والصهيونية والاستكبارية والرجعية.

كاتب فلسطيني

* المصدر: رأي اليوم

* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع