بين الصمود والإطاحة… ماذا ينتظر بوتين؟
أشد الانتقادات العلنية للحرب لا تأتي من اليسار الليبرالي في روسيا بل من اليمين القومي
السياسية: ماري ديجيفسكي *
أثار ما يبدو أنه سلسلة من الانتكاسات التي منيت بها روسيا أخيراً في أوكرانيا التكهنات حول ما إذا كان فلاديمير بوتين قادراً على الصمود كزعيم روسيا، وإن استطاع الصمود، فإلى متى. فالقادة المستبدون لا يفقدون مناصبهم حتى بعد خوض حملة عسكرية فاشلة – والمثال الأبرز هو صدام حسين الذي صمد في موقعه حتى بعد حرب العراق الكارثية مع إيران – ولكن عاجلاً أم آجلاً، يتنحى كثيرون منهم، لأن سلطتهم مرتبطة بشكل وثيق ببراعتهم القتالية الميدانية عندما يناديهم الواجب الوطني.
ولعل أكثر خسائر روسيا رمزيةً في أوكرانيا هي الهجوم الذي شن في 8 أكتوبر (تشرين الأول) على جسر القرم (المعروف باسم جسر مضيق كيرتش) – والجسر مشروع رائد كان قد أقدم عليه بوتين للربط بين البر الروسي وشبه جزيرة القرم عبر طرق وسكك حديدية.
وقد انتهت أعمال التشييد في عام 2018، بعد أربع سنوات من ضم روسيا لشبه جزيرة القرم. ويبدو أن الجسر تضرر جراء التفجير الذي حصل غداة احتفال بوتين بعيد ميلاده السبعين.
وقد أعيد بناء الجسر وتشغيله بسرعة فائقة، لكن بوتين لم يكن ليترك الحادثة من دون انتقام. ففي غضون 48 ساعة، شنت روسيا هجوماً صاروخياً في العمق طاول جميع أنحاء أوكرانيا، بما في ذلك – وللمرة الأولى – وسط العاصمة كييف.
من جهة أخرى، ليس الهجوم على جسر القرم سوى أحدث الدلائل على احتمال أن تخسر روسيا هذه الحرب. في الشهر الماضي، استعادت أوكرانيا السيطرة بالكامل على منطقة خاركيف الشمالية الشرقية، كما استعادت مدينة ليمان ذات الأهمية الاستراتيجية، وواصلت تقدمها في منطقة خيرسون الجنوبية بعد أيام فقط من إعلان بوتين ضمها إلى الاتحاد الروسي.
وتنعكس انتكاسات روسيا على ما يبدو أنه مزاج من القلق المتزايد الذي يسيطر على موسكو في شأن مسار الحرب. ففي آخر إعادة تموضع للقيادة العسكرية، عيّن بوتين أحد أبرز القادة الحربيين في الصراع السوري، الجنرال سيرغي سوروفيكين، لقيادة العمليات في أوكرانيا.
جاء قرار التعيين في أعقاب إعلان بوتين قبل ثلاثة أسابيع عن “التعبئة الجزئية” لجنود الاحتياط، وهي خطوة تشير إلى أن الحرب ستستمر لفترة أطول مما كان مخططاً لها، وأنها أسفرت عن خسائر أكبر من المتوقع. وكان الرد على قرار التعبئة أن انطلقت احتجاجات في شوارع مناطق كثيرة من روسيا، إضافة إلى نزوح أكثر من 200 ألف شاب هرباً من التعبئة.
وقد ترتب عن هذا القرار مزيد من التداعيات، إذ جاءت شكاوى علنية بسبب انتهاكات وتناقضات على لسان إحدى ركائز إدارة بوتين ألا وهي مارغريتا سيمونيان، رئيسة قناة RT الروسية، وغيرها من الشخصيات. وجاء اعتذار غير معتاد من الكرملين بسبب ارتكاب “أخطاء”، وهو إشارة من بين إشارات عديد أخرى تفيد بأن الكرملين قد لا يكون مسيطراً تماماً على قراراته.
أما الإشارة الأخرى فهي زيادة الانتقاد الصريح للحرب من قبل اليمين الروسي. فهؤلاء هم الأشخاص الذين أيدوا قرار بوتين بالذهاب إلى الحرب، لكنهم الآن قد فقدوا الثقة في كيفية خوضها. يعتبر هؤلاء أن القيادة الروسية غير كفؤة ويتهمون الكرملين “بالتساهل” مع أوكرانيا.
وكأن الصورة ليست قاتمة بما فيه الكفاية، أتت تقارير من خارج البلاد – من أوكرانيا وحلفائها الغربيين تحديداً – عن معارضة في الصفوف العسكرية الروسية وادعاءات بأن روسيا تنفد من الأسلحة والذخائر المهمة، كما “سربت” الولايات المتحدة تقريراً استخباراتياً مفاده أن أحد كبار “المطلعين” من داخل الكرملين (وهو مجهول الهوية) قد انتقد بوتين مباشرة في شأن مسار الحرب.
ومع ذلك، على رغم كل هذه السلبية، هناك أدلة ضئيلة – حتى الآن – على أن بوتين نفسه في مأزق أو معرض لخطر تحد وشيك. لقد تلاشت الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت في فبراير (شباط) وبعد صدور مرسوم التعبئة. وقد يكون السماح للناس بمغادرة البلاد قد وفر في الواقع نوعاً من صمام أمان ذكي. وبينما يرى بعض المراقبين الخارجيين أنه ثمة تنافس من أجل التقرب من الكرملين، فإن واجهة الوحدة الرسمية على الأقل بقيت متماسكة إلى حد كبير.
ثم مرة أخرى، في الأنظمة المغلقة على غرار النظام السائد اليوم في روسيا، أول ما قد يعلمه أي شخص عن تغيير في قمة الهرم هو بعد حدوثه، فقد جاء الانقلاب على ميخائيل غورباتشوف عام 1991 من حيث لا ندري. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أنه هزم.
كما تجدر الإشارة أيضاً إلى أن المعارضة العلنية الأشد للحرب لا تأتي من اليسار الليبيرالي في روسيا، بل من اليمين القومي، مما يعني أن الذين يشجعون من الخارج على إطاحة بوتين عليهم التنبه جيداً لما يتمنون. والحال أن أي زعيم جديد في الكرملين قد يكون عكس الشخص الذي يتمنونه تماماً.
ولكن هذا لا يعني أن مجيء زعيم جديد إلى الكرملين قد لا ينبئ بتغير جذري في السياسة الروسية قد يحافظ على ما أمكن من ماء الوجه ويقدم فرصة لبداية جديدة في العلاقات مع أوكرانيا والغرب. الأمر ممكن تماماً، ولكنه أيضاً قد ينتج نسخة أكثر تشدداً وقسوة من الزعيم الموجود حالياً.
وهنا يجدر بنا مناقشة فرضيتين أولهما هي استحالة عقد اتفاق سلام وبوتين ما زال في سدة الرئاسة. ويبدو أن الدول الغربية مجمعة على هذه الفكرة المؤسفة حقاً لأن الكرملين قد يكون قد بدأ برصد مصالح دبلوماسية جديدة.
عندما أعلن بوتين في 30 سبتمبر (أيلول) ضم أربع مناطق أوكرانية، تعثر في حديث عن استعداده لإجراء محادثات مع أوكرانيا. وفي الأيام الأخيرة الماضية، اقترح وزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف، في مقابلة أجريت معه لقناة التلفزيون الحكومية الروسية إطلاق محادثات تمهيدية مع الولايات المتحدة أو تركيا. وجاء بعدها “خطة السلام” الغريبة التي تقدم بها إيلون ماسك إضافة إلى مبادرة أخرى من قبل تركيا. حتى الآن، رفضت أوكرانيا كل هذه الاقتراحات وأشباه الاقتراحات، ولها أسبابها، لكن القتال مستمر والخسائر تتراكم.
إن رفض كييف خوض المحادثات – وإحجام الولايات المتحدة وأنصار أوكرانيا الغربيين الآخرين عن الالتزام بمحادثات من دون موافقة أوكرانيا – يستند إلى الاعتقاد أن أوكرانيا إما ستفوز أو يمكنها الفوز بهذه الحرب. تلك هي الفرضية الثانية التي قد تحتاج إلى أن نعيد النظر فيها.
تظهر الضربات الصاروخية الروسية التي أتت رداً على الهجوم على جسر القرم مدى رقعة القوة الروسية، فيما لو اختارت استخدامها. سواء كانت روسيا تخسر، أو على وشك أن تخسر، يعتمد أيضاً على أهدافها الحقيقية (على عكس تلك المنسوبة إليها من قبل الغرب). في تصريحات بوتين، تظل طموحات روسيا الإقليمية مقصورة على دونباس وطموحاتها الدفاعية إلى الحياد الأوكراني. وشدد بوتين في خطاب التعبئة الذي ألقاه على أن أهداف روسيا لم تتغير.
وثمة أيضاً حاجة إلى التنبه عند تقييم الحالة الفعلية لساحة المعركة والموارد الموجودة عند الطرفين. تأتي المعلومات حول الضحايا الروس وحالات الاستسلام حصرياً من مصادر أوكرانية. ربما تكون أوكرانيا قد أحرزت تقدماً في الشرق والجنوب، لكن انتصاراتها حتى الآن صغيرة مقارنة ً بالأرض التي لا تزال روسيا تحتفظ بها منذ الأسابيع الأولى من الحرب.
علاوة على ذلك، يتوقع الغرب منذ أشهر أن تنقص [يتقلص عدد] الذخائر الروسية، وبخاصة الصواريخ، ولكن من دون إثباتات فعلية على ذلك. قد يكون للعقوبات الغربية بعض التأثير على المدى الطويل، لكنها حتى الآن لم تؤثر سوى على أوروبا على مستوى رفع أسعار طاقة كثيراً.
أما بالنسبة لأوكرانيا، فهي لا تزال تعتمد بشكل كبير على الدعم الغربي، وهكذا ستظل. في استعادة ليمان من قبضة الاحتلال الروسي، كانت هناك خلافات بين المدنيين بسبب نقص حصص الإعاشة. ماذا لو أتى وقت تتضرر فيه إمدادات المياه والطاقة في أوكرانيا إلى درجة يصعب إصلاحها بسرعة؟ متى تبدأ المعنويات في الانهيار، وإن كانت ببسالة معنويات الشعب الأوكراني؟ متى وكيف يمكن للولايات المتحدة والدول الداعمة الأخرى أن تبدأ في التذمر من وطأة تزويد أوكرانيا بكميات أكبر من الأسلحة الأكثر تقدماً (على جميع الصعد، بما في ذلك أمن الغرب نفسه)؟
حتى لو كانت احتمالات هزيمة روسيا وانتصار أوكرانيا مبالغ فيها، فبالطبع هذا لا يعني أن بوتين آمن في الكرملين. عندما شن الحرب على أوكرانيا، ارتكب خطأ فادحاً في التقدير، قد يتعين عليه دفع ثمنه في نهاية المطاف، لكن بوتين هو الشخص المسؤول عن روسيا في الوقت الحالي، وإذا كان هناك أي محادثات يترتب إجراؤها فيجب أن تجرى معه. ولن تتغير انشغالات روسيا الرئيسة في حال قدوم زعيم جديد إلى الكرملين. فبصرف النظر عن هوية وميول من سيخلف بوتين، سيكون لديه المخاوف نفسها في شأن أمن روسيا وسهولة اختراق حدودها الغربية.
وعلى غرار ما قاله لورد بالمرستون وهنري كيسنجر كل على طريقته الخاصة: قد يأتي الأصدقاء والأعداء ويذهبون، لكن المصالح تظل هي هي. والمصالح هي ما يقع على عاتق أي زعيم وطني واجب الدفاع عنها، سواء كان زعيماً في موسكو أو كييف أو واشنطن أو لندن.
المصدر: اندبندنت عربية
المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع