اليمن… مسرح الكفاح ضد التطرف الديني!
في ظل الصراع المرير الذي نزفت له دماء اليمن طيلة سنوات عديدة مضت, اصبح من المرجح أنه يتم تحضير هذا البلد كساحة للاقتتال بين الجبهتين السنية والشيعية.
بقلم: جان سيلفستر مونغرونييه* (صحيفة ” أتلنتيكو” الفرنسية – ترجمة: محمد السياري– سبأ)
يُعَد اعتقال الإرهابي الفرنسي التابع لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، بيتر شريف، في جيبوتي في 16 ديسمبر من العام المنصرم وكذلك تسليمه إلى الحكومة الفرنسية، بمثابة جرس إنذار يلفت انتباهنا إلى أنَّ اليمن هي الأخرى تقع على خط المواجهة في مسيرة الكفاح ضد التنظيمات الجهادية العالمية. وبإمعان النظر في السيرة الجهادية لهذا المواطن الفرنسي الأصل يتأكد لنا أنَّ تلك مسألة أمر واقع: ففي إطار القانون الجنائي الدولي تم إدراج أسم بيتر شريف، الذي بدأ نشأته الجهادية على الأراضي الفرنسية، على قائمة الإرهابيين العالميين, وقد أنضم في بادئ الأمر إلى جبهة المقاومة العراقية للقتال ضد القوات الأميركية المتواجدة على أراضيها؛ ومن ثم تم القبض عليه وتسليمه إلى الحكومة الفرنسية، ليتمكن بعد ذلك من الفرار إلى اليمن والانضمام إلى تنظيم القاعدة في جزيرة العرب؛ ومن هنا تم الالتقاء بأحد الإخوة كواشي والاستعداد لضرب الأراضي الفرنسية؛ وفي يناير من العام 2015، قام الإخوة كواشي بتنفيذ الهجوم على مجلة “تشارلي إبدو” الأسبوعية الساخرة والذي أعلن التنظيم مسئوليته عنه آنذاك.
في واقع الأمر، ليست حقيقة أصول عائلة بن لادن بالأمر الذي يمكن الاعتماد عليه لإعطاء صورة واضحة عن الوضع في هذا البلد الحزين: فلطالما كانت اليمن إحدى المصفوفات الرئيسة الحاضنة للتطرف الإسلامي؛ ومنذ إعادة توحيد شطريه تحت قيادة الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، في العام 1990، لا يزال هذا البلد، الذي تزعزع إستقراره الإنقسامات وتهيمن عليه الخلافات القبلية والإقليمية منذ زمن لا يُسبر غوره، حيث يقبع في أحضان جدلية مميتة يصوغها التطرف الديني الأزلي القائم بين الطوائف الشيعية والسنية.
وفي ظل علاقته القوية مع الجماعات الإسلامية المعارضة للنظام في الرياض، شرع الشيخ مقبل الوادعي في تسعينات القرن الماضي في قيادة الخطاب الديني المناهض للطائفة الزيدية التي تمثل الأقلية الشيعية المؤسسة للحراك الحوثي في اليمن؛ ومنذ اللحظة الأولى، أستشف صناع القرار الإيرانيون في هذا الحراك فرصة لا تعوض لإنشاء نسخة محلية لـ”حزب الله” في الباحة الخلفية من المملكة العربية السعودية؛ وفي إطار موازٍ عمد تنظيم القاعدة إلى توظيف إمكانياته المتاحة لتنفيذ ضربة إنتحارية قوية ضد المدمرة الأميركية “يو أس أس-كول” في عدن في 11 أكتوبر من العام 2000.
في العقد التالي، أصبح اليمن بمثابة مسرح للصراعات متعددة الأطراف؛ وبتتبع الأحداث في هذا المسار ينتهي بنا المطاف إلى الحراك الحوثي الذي يخوض صراع مريراً في الوقت الراهن لإنتزاع زمام الأمور من الحكومة الشرعية للبلد.
وفي إطار آخر، عمل الصراع الدولي ضد الإرهاب، عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، على وضع هذا البلد في قلب ميدان الصراع ليصبح هدفاً رئيساً لطائرات الدرون ومحط إهتمام عمليات القوات العسكرية الخاصة. و في 6 يناير من العام الجاري، أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تمكن قواته العسكرية من القضاء على جمال البدوي، العقل المدبر لعملية الهجوم على المدمرة الأميركية يو إس إس-كول، الأمر الذي يحمل دلالة واضحة على مضي تلك العمليات نحو نهاية ليست بقريبة.
في أوائل العام 2011 ، تسبب عزل الرئيس التونسي السابق، زين العابدين بن علي، والرئيس المصري السابق، محمد حسني مبارك، في نقل عدوى ما يسمى بـ”الربيع العربي” إلى اليمن، الأمر الذي شجع على التمرد والتفكك وانهيار معايير القوى القبلية وأرتفاع حدة الخصومة بين الطوائف الدينية المختلفة. ولتوسيع دائرة نفوذهم، سارع الحوثيون إلى تأسيس ما عرف بـ”أنصار الشريعة”. وقبل ذلك بعامين، كانت العناصر الجهادية الموالية لبن لادن في السعودية واليمن تعمل على إعادة ترتيب صفوفها داخل “تنظيم القاعدة في جزيرة العرب” لتشكل بذلك درعاً لا ينبغي الإستهانة به.
ومن الناحية العملية، فقد كانت الظروف التي أفضت إلى استبدال الرئيس اليمني السابق بنائبه، عبد ربه منصور هادي، في أوائل العام 2012، سبباً رئيساً في الحد من فعالية الجهاز الأمني في البلاد وإضعافه إلى درجة خطيرة. وتبعاً لذلك عمد الحوثيون إلى إستغلال إتساع دائرة الفوضى ومغادرة جبالهم الشمالية، في سبتمبر 2014، للاستيلاء عسكرياً على العاصمة صنعاء قبل التوجه للسيطرة على ميناء عدن.
أما في المناطق الجنوبية من البلد فقد كانت الجماعات المتطرفة تعمل على تنظيم الهجمات الإنتحارية متعهدة بالولاء لتنظيم “الدولة الإسلامية” على غرار تلك التي كانت أعلنت سابقاً في مدينة الموصل العراقية.
وفي هذا السياق، شرع التحالف العربي، الذي أعدته المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في ربيع العام 2015، في التدخل في الشأن اليمني. وبعد فترة قصيرة من الإقامة الجبرية، تمكن الرئيس الشرعي للبلد من الفرار من صنعاء إلى العاصمة المؤقتة عدن ومن ثم إلى العاصمة السعودية، الرياض. وفي الوقت الذي كانت فيه قوات التحالف تؤكد على التزامها العسكري في مواجهة الحوثيين المدعومين لوجستياً وعسكرياً من قبل طهران، كانت أيضاً حريصة كل الحرص على مواجهة الخطر القادم من قبل الجماعات الجهادية المتطرفة ذات الطابع السني. وبعد أن تمكنت من إنتزاع عدن من أيدِ المقاتلين الحوثيين في يوليو 2015، شرعت القوات الإماراتية وحلفائها المحليون في السيطرة على مدينة المكلا في حضرموت وتحريرها من قبضة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب.
وبالعودة إلى الوقت الراهن، فإنَّ اعتقال إرهابي ينتمي إلى تنظيم القاعدة في جزيرة العرب – في حين أنَّ تورطه في الهجوم الذي وقع في فرنسا غير مؤكد بالأدلة القطعية – وكذلك القضاء على العقل المدبر للهجوم على المدمرة الأميركية هو في واقع الأمر من الأخبار السارَّة التي تضاف إلى قرار وقف إطلاق النار في مدينة الحديدة المتفق عليه في أواخر العام 2018. ولو أنَّ جماعة الحوثي كانت تحلت بالنوايا الصادقة في التخلي عن ميناء الحديدة الواقع على البحر الأحمر، فلا شك أن قضية مستقبل اليمن السياسي كانت لتصبح مطروحة وبكل جدية على طاولة الحوار.
ومع ذلك تظل الحقيقة المرة هي السائدة، حيث أنَّ وضع البلد لا يزال في غاية الهشاشة فضلاً عن الوضع الإنساني الذي بلغ مرحلة متقدمة من الخطورة. وبفرض أنَّ الحل الدبلوماسي كان ليصبح الخيار الأمثل لوضع حد لذلك الصراع الذي أشعل من قبل الحوثين، فإنَّ العصبية الدينية التي ينتهجها تنظيم القاعدة وتتصف بها ما تسمى بـ”الدولة الإسلامية” سوف تبقى مع ذلك أمراً واقعاً لا يمكن الخلاص منه؛ بل وعلى العكس من ذلك ستظل تستمد قوتها من حالة الفوضى السائدة في البلد.
وفي ظل ذلك الصراع الطويل لن تكون القوة العسكرية والتكنولوجيا المتقدمة التي يمتاز بها الغرب كافية لمواكبة التغيرات المستمرة على أرض الواقع. وعلاوة على ذلك، فإنَّ أيَّ إنسحاب محتمل من شأنه أن يزيد من تفاقم الحالة. لذا فمن المهم أن نفهم بأنَّ ممالك الخليج العربي-الفارسي، الممقوته في كافة أنحاء المعمورة، تتشارك المصلحة ذاتها في مكافح الميول الإرهابية لدى الجماعات الدينية المتطرفة التي تتعهد منذ تسعينيات القرن الماضي بالنيل منها عاجلاً أم آجلاً.
وعلى الصعيد السياسي، من المفترض أن يتم تشجيع إنشاء جبهات تجمع في آن واحد التشكيلات العلمانية والقوى القبلية التي لطالما أثبتت في الماضي أن اليمن لم تكن قط موطناً دائماً للصراعات والفوضى. وكنتيجة لذلك، سوف تظل الأطراف المعنية تراقب عن كثب التطورات الحاصلة في المناطق المحررة من قبضة الحوثيين بكل حذر واهتمام.
وخلاصة القول أنَّ القوى الغربية سترتكب خطأ جسيماً إذا ما اعتقدت أنها قادرة على الخروج من هذه المنطقة دون أن تعاني من تداعيات خطيرة في محيطها. كما أنَّ التعاطي بدبلوماسية لن يفي بالغرض ولن يحل محل الخيار العسكري لمكافحة الإرهاب، حيث يستلزم هذا الأخير التواجد الفاعل على أرض الواقع والمساندة الحقيقية من قبل القوى المحلية الحليفة. ومن هذا المنطلق لا شك أنَّ الممالك السنية في الخليج سوف تظل الشريك الإستراتيجي الأمثل لدى القوى الغربية العظمى.
* أستاذ في المعهد الفرنسي للدراسات الجيوسياسية وأخصائي بالشؤون العسكرية والإستراتيجية.