السياسية:

في متابعة لأغلبية تصريحات مسؤولي الدول التي تشارك اليوم في الحرب الأوكرانية، تتزايد بصورة لافتة الإشارة من جانب هؤلاء إلى الحرب العالمية الثالثة، أو إلى استخدام الأسلحة النووية، إذ يشير بعضهم إلى ذلك من باب التهديد بها كخيار ردع للطرف الآخر، ويشير آخرون إليه من باب التخوف من استهدافهم بهذه الأسلحة، وتسليط الضوء على خطورتها. يبقى اللجوء إلى هذا الخيار العسكري خياراً هستيرياً، ووارداً، بما يحمله من تداعيات مدمرة على العالم، وعلى الأقل، على بلد معين أو على عدة بلدان.

من الناحية التقنية، صحيح أن هناك أكثر من طرف يملك رؤوساً وقنابل نووية، وهي أطراف معروفة بصورة واضحة، بحيث تعلن عن ذلك بصراحة وتتباهى به من باب ردع الأعداء والخصوم، لكن هناك كثيراً من العناصر الأخرى التي تحتاج إليها هذه الدول، إذا ما أرادت أو قرّرت استخدام قدراتها النووية. ومن هذه العناصر، وسائل إطلاق الرؤوس النووية، ووسائل الاستعلام الدقيقة والكافية لتكوين المعطيات المطلوبة لتنفيذ استهداف نووي ملائم وناجح ومضمون.

لناحية وسائل الاطلاق، يمكن تصنيفها من ضمن القدرات الثلاث: الصواريخ الباليستية والقاذفات الاستراتيجية والغواصات أو السفن العسكرية القادرة على حمل الرؤوس النووية وإطلاقها. وهذه القدرات، عند مقارنتها ببعضها البعض بين الدول النووية، وتمييز الأرفع مستوى من بينها، أو الأكثر تقدماً وفعالية لناحية المسافات التي تقطعها، أو لناحية قدرتها على تجاوز الدرع الصاروخية، أو لناحية السرعة التي تحتاج إليها، ينخفض كثيراً عدد هذه الدول النووية القادرة على المنافسة عند قرار استخدام الأسلحة النووية. ويبقى منها مبدئياً، كل من روسيا والولايات المتحدة الأميركية، واستثنائياً مع إمكانات غير كاملة، فرنسا وبريطانيا، مع استفادتهما من قدرات أميركية من ضمن حلف شمال الأطلسي، الناتو. ولتكون في مقدمة هذه الوسائل، القدرات الروسية، التي تتفوق، باعتراف الغرب، في الصواريخ الباليستية فرط الصوتية، وبعض نماذجها بقدراتها الصاعقة، مثل سارمات وأفانغارد وكينغال، وأعلن عنها الروس مؤخراً، في رسالة حاسمة وصادمة، فهمها الناتو جيداً.

لناحية وسائل الاستعلام الدقيقة والكافية لتكوين المعطيات المطلوبة لتنفيذ استهداف نووي ملائم وناجح ومضمون، بحيث إن الأقمار الاصطناعية هي في مقدمة هذه الوسائل التي تؤمّن الإنذار المبكّر في مجال الردع النووي، لا شك في أن دول الناتو، أميركا وفرنسا وبريطانيا، تملك هذه الإمكانات، بصورة فردية، أو من ضمن منظومة الحلف للإنذار المبكّر، لكن تبقى ميزة الصاروخ الروسي سارمات، الذي في إمكانه الانطلاق حتى بعد تلقي ضربة نووية من العدو، وذلك ربما بسبب وجود قاعدة إطلاقه الاساسية تحت الأرض، وفي مكان آمن ضد الأخطار النووية، أو ربما بسبب قدرته على الطيران في أجواء مستهدفة بسلاح نووي، قادرة على إعطاء الروس فرصة تدمير العدو، حتى لو نجح الأخير في أن يكون البادئ أو المبادر إلى تنفيذ ضربة نووية، وهذا الأمر يجعل من الحاجة الرئيسة إلى وضعية الإنذار المبكّر في مجال الردع النووي، غير ضرورية للروس بصورة كاملة، بحيث مع امتلاكهم سارمات، يبقى لديههم القدرة على التفاعل نوويا ضد العدو الذي يسبقهم وينفذ ضربة نووية.

من هنا، بعد كلام بوتين الأخير الذي تعهد فيه توجيه ضربات سريعة وخاطفة إلى أي دولة تتدخل في الحرب الروسية في أوكرانيا، وإطلاق تهديده المباشر للغرب، قائلاً “إذا غامر أحد في التدخل من الخارج وشكل تهديدات غير مقبولة ذات طبيعة استراتيجية لروسيا، فيجب أن يعلم بأن ضرباتنا المضادة للانتقام ستتم بسرعة البرق”، مضيفاً أنه “سيكون لنا ردٌّ قاسٍ على كل من يفكّر في التدخل فيما يجري في أوكرانيا، أو يشكل تهديداً استراتيجياً لنا”. بعد هذا الكلام، هل يمكن اعتبار الأمر (تهديد بوتين الضمني أو المبطّن باستخدام النووي) جدياً وواقعياً وممكناً؟ أم أن الأمر ما زال ضمن منظومة الردع التي تمارسها كل الدول، وعلى رأسها طبعاً روسيا، بسبب الضغوط الضخمة التي تتعرض لها حالياً، في كل المستويات؟

في متابعة لمسار قرارت الرئيس بوتين الأخيرة، يمكن أن نستنتج منها أنه ينفّذ كل ما يقوله، مهما كانت خطورة ذلك وصعوبته وتداعياته، وخصوصاً إذا رأى أن الأمر يتعلّق بالأمن القومي الروسي، أو بمصلحة الشعب الروسي، وذلك بحسب التالي:

أولاً: اعتباراً من رسالته الشهيرة إلى الناتو قبل العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، والتي طلب فيها من الأخير وقف تمدده شرقاً، والتزاماً خطياً من أوكرانيا ومن الحلف ينص على عدم تسهيل انخراط كييف في حلف شمال الأطلسي أو رعاية ذلك الانخراط، بالإضافة إلى الاعتراف بسيادة روسيا على شبه جزيرة القرم، وبسيادة جمهوريتي إقليم الدونباس (لوغانسك ودونيتسك) واستقلالهما، وإلَّا، فسوف يقوم بما يلزم لتنفيذ ما طلبه من ضمانات بالقوة، وهذا الذي حدث، بحيث اتخذ قراره الجريء بتنفيذ العملية الخاصة في أوكرانيا بعد عدم حصوله على الجواب الملائم الذي يريده، على الرغم من كل الاعتراض، غربياً ودولياً، على عمليته، وعلى الرغم من تعرض روسيا وأغلبية مصالحها حول العالم، لعقوبات ضخمة، لم يتخيّل أحد أن هناك إمكاناً لأي دولة مهما كانت، في مواجهتها وتحمُّلِها.

ثانياً: على الرغم من صعوبات العملية العسكرية بعد انطلاقها، ومما قدمه الغرب لأوكرانيا من دعم غير مسبوق، في كل المجالات العسكرية والمالية والسياسية، وعلى الرغم من ظهور تعثّر معين لوحداته عند مداخل المدن الرئيسة التي حاولت مهاجمتها، وسقوط خسائر كبيرة للروس لم تكن متوقعة، فإنه تابع العملية بإصرار، وبقي كلامه ثابتاً، ومفاده أن أهدافه من العملية سوف تتحقق، بالمفاوضات أو بالحرب.

ثالثاً: بعد أن استوعب تداعيات العقوبات الضخمة على روسيا، وبعد أن بدأت تنخفض قيمة الروبل بصورة كبيرة مقارنة بالدولار واليورو، اتخذ قراراً جريئاً أيضاً يقضي بوجوب أن تدفع الدول “غير الصديقة “، والمقصود الأوروبية بصورة محدَّدة، ثمنَ الغاز الروسي بالروبل بدلاً من اليورو، وحيث كانت هناك خطورة كبيرة من أن تلجأ هذه الدول، بدعم أميركي، إلى وقف استيرادها للغاز الروسي والتحول إلى مصادر أخرى، بقي مصراً على هذه الآلية النقدية والمالية، وحصل له ما يريده، بحيث إن اغلبية الدول الأوروبية المستوردة للغاز الروسي بدأت تدفع ثمنه بالروبل، وبدأت قيمة الأخير ترتفع على نحو لافت، وتجاوزت أعلى معدل لها منذ عامين.

استناداً إلى كل ما سبق، وخصوصاً إلى ما يمكن استنتاجه بشأن التزام الرئيس بوتين تنفيذ ما يقوله أو ما يهدِّد به، لم يعد مستبعَداً أن نشاهد استخداماً روسياً لأسلحة نووية، بحيث إن من المؤكد أن يكون هذا الاستخدام مدروساً وغير متسرّع، وحافظاً لخط الرجعة، إذ كان لبوتين، منذ فترة، إشارة محددة إلى بريطانيا مفاده أنه سوف يمسحها عن الوجود، فيما لو تابع جونسون تصويبه غير الملائم على الروس. ومن الوارد جداً أن يطال هذا الاستهداف النووي بريطانيا، التي تقود مواجهة متشددة جدا ضد روسيا في كل الصعد. وكي يكون سقف المواجهة متدرّجاً ومدروساً، قد يعمد إلى استهداف إحدى الجزر البريطانية غير الآهلة والموزَّعة في المحيطات البعيدة، فتكون رسالة حاسمة وصاعقة، بأقل خسائر ممكنة للجميع.

* بقلم : شارل أبي نادر
* المصدر: الميادين نت ـ المادة الصحفية تعبر عن راي الكاتب