وليد القططي*

يتفهم المرء أنْ تُهاجَم المقاومة الفلسطينية المسلحة من أبواق الكيان الصهيوني وحلفائه في الغرب وأنظمة التطبيع، أمّا أنْ تُهاجَم من فلسطينيين تحت الاحتلال الصهيوني، فمن الصعب تفهّم ذلك، وخاصة إذا ما اقترب هذا الهجوم من تجريم المقاومة بالمفهوم السياسي. وفي الجانب الآخر يُبالغ بعض أنصار المقاومة المسلحة في الدفاع عنها، إلى درجة تقترب من التقديس، بمعنى العصمة من الخطأ، وما بين تجريم المقاومة المسلحة وتقديسها يوجد النقد كوسط معتدل بين التطرّفين. وانطلاقاً من هذا الفهم، تأتي هذه المناقشة لتُلقي الضوء على المقاومة المسلحة من حيث الشرعية والمبدأ والممارسة، واستعراض بعض وجهات نظر منتقديها ومناقشتها.

اكتسبت المقاومة الفلسطينية المُسلّحة شرعيتها من وجود المحتل الصهيوني على الأرض الفلسطينية، والحق الطبيعي والإنساني والديني والوطني في الدفاع عن النفس ومقاومة المحتل والعمل على طرده من الأرض المحتلة، وهو حق كفلته كل الأعراف الإنسانية، والمواثيق الدولية، والقوانين الأُممية، التي أعطت الحق لأصحاب الأرض المحتلة في الثورة على سلطة الاحتلال وقوة الطاغوت ومقاومتها وطردها بالوسائل كافة، بما فيها الكفاح المُسلّح، من أجل الحرية والاستقلال، وهذا موثّق في قرارات الأمم المتحدة، ودول عدم الانحياز، والمؤتمر الإسلامي، والوحدة الأفريقية، والجامعة العربية، وكل المؤسسات الدولية القانونية والسياسية.

وحق المقاومة المُسلّحة أثبتته كل فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية داخل منظمة التحرير الفلسطينية وخارجها، لدى حركتي الجهاد وحماس، بمختلف مرجعياتها الفكرية والسياسية؛ فالميثاق الوطني الفلسطيني – قبل التشويه – اعتبر “الكفاح المُسلّح الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، وهو بذلك استراتيجية وليس تكتيكاً”. والوثيقة السياسية لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين اعتبرت أنَّ “الكفاح المُسلّح ضد العدو الصهيوني هو الأسلوب الرئيسي الاستراتيجي في كفاحنا… لا يجوز التخلّي عنه قبل دفع العدوان وتحرير فلسطين”. والوثيقة السياسية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) اعتبرت “أنَّ مقاومة الاحتلال بالوسائل والأساليب كافة حق مشروع… وفي القلب منها المقاومة المُسلّحة التي تُعدّ الخيار الاستراتيجي”.

بناءً على تلك الشرعية الطبيعية والدولية والوطنية، تُعتبر المقاومة المُسلّحة من حيث المبدأ حقاً مشروعاً ومقدّساً للشعب الفلسطيني المكتوي بنار الاحتلال الصهيوني، وإنكار هذا الحق أو تحريفه يُعدّ انتهاكاً لحق شرعي ومقدس للشعب الفلسطيني وطليعته الثورية، وهو كمَن يُنكر أو يُحرّف حقه في تحرير وطنه والعودة إليه، لأنه الطريق الوحيد للتحرير والعودة، وهذا لا ينفي الحق في نقد المقاومة المُسلّحة كممارسة بشرية، بل إنَّ حق النقد هو واجب ينبغي تحويله إلى نهج ثابت لضمان استمرار مسيرة المقاومة عن طريق اكتشاف نقاط القوة لتعزيزها ونقاط الضعف لعلاجها، وانطلاقاً من أنَّ المقاومة فعل بشري غير معصوم من الخطأ والزلل، ومُعرّض للانحراف والاعوجاج.

وإذا كانت المقاومة المسلحة عملاً إنسانياً غير مقدّس، فينبغي أنْ لا تتحوّل إلى صك غفران يُعفي أصحابها من التعرّض للنقد، أو يأخذ أهلها امتيازاً خاصاً يُضفي على سلوكهم العصمة، أو ينال منظّروها رخصة مفتوحة لاحتكار الصواب… ولضمان عدم حدوث ذلك التقديس، يجب أنْ يبقى التمييز حاضراً بين المقاومة المُسلّحة كمبدأ وحق، والمقاومة المُسلّحة كممارسة وسلوك، ويجب أنْ تبقى المقاومة المسلحة وسيلة وطنية مركزية لمشروع تحرير فلسطين لا (قبيلة) تطبّق مبدأ “انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً” داخلياً. وينبغي أن تظل مشروعاً موحِّداً للشعب والأمة بعيداً عن مفهوم (الفرقة الناجية) تُطبّق حكم التكفير والتخوين على كل ما عداها…  وبعيداً عن التجريم والتقديس يُمكن مناقشة بعض الانتقادات الموجّهة إلى المقاومة المسلحة.

من هذا النقد أنَّ المقاومة المُسلّحة تُجهض الانتفاضة الشعبية، وهي فرضية خاطئة وفكرة مغلوطة وقول مخالف للتجربة والواقع. فالمقاومة المُسلّحة عندما توقع خسائر بشرية في صفوف العدو – جيشاً ومستوطنين – كان هذا الأمر وما زال يُعطي الشعب الفلسطيني الثقة بنفسه وبمقاومته، ويعزّز تماسكه الداخلي، عندما يرى جلّاده يتألم ويُعاني كما يتألم ويُعاني، وهذه الثقة والاتزان يدفعان الجماهير المنتفضة إلى مزيدٍ من الثورة والتضحية وتصعيد الانتفاضة والثورة. ونقد مشابه له مفاده أنَّ المقاومة المسلحة تُسبّب المعاناة للناس من جرّاء انتقام الاحتلال منهم بالقتل والاعتقال والهدم، فهذا النقد يُحمّل الضحية (الشعب) جريمة الجلاد (الاحتلال)، وهو نوع من (لوم الضحية) لنفسها، ونوع مبالغ فيه من (جلد الذات)، وكلاهما شعور سلبيّ يُصيب بعض الناس في زمن الهزائم وتكرار الفشل، فيسبّب اليأس والإحباط… الخروج منه يتم بالمقاومة التي تخلق الثقة بالله وبالنفس فردياً وشعبياً.

وكذلك النقد القائل بعدم جدوى المقاومة المُسلّحة لعدم وجود التكافؤ العسكري مع العدو، وهذا النقد صواب في حالة الحروب العسكرية التقليدية بين جيشين نظاميين، أمَّا في حالة حروب التحرير الوطنية المعتمدة على حرب العصابات ضد جيش نظامي، كحالة الثورة الفلسطينية وجيش الاحتلال الإسرائيلي، فإنَّ التكافؤ العسكري غير ضروري وغير مطلوب، ولم يكن موجوداً في تجارب حركات التحرير الوطني في العالم، ومع ذلك حققت النصر لاعتمادها على إرادة القتال والصمود، واستنزاف العدو بإبقاء المقاومة مستمرة، ومراكمة نقاط القوة والإنجازات الصغيرة… وقريب من هذا النقد ما يُقال عن أنَّ تكلفة المقاومة المُسلّحة البشرية والمادية كبيرة مقارنة بخسائر العدو، وهذا صواب لو كانت حروب التحرير تُحسب بعدد الخسائر وحجمها – رغم أهميتهما – ولكنها تُحسب بالنتيجة النهائية للحرب، وبمقدار التقدم نحو هدف مشروع التحرير، وإلاّ لاعتُبرت كل الشعوب التي خاضت حروب التحرير في العالم وانتزعت حريتها واستقلالها قد خسرت الحرب؛ لأنَّ خسائرها فاقت خسائر مُحتليها أضعافاً مضاعفة، كالشعب الجزائري أمام فرنسا، والشعب الفيتنامي أمام أميركا.

وهناك نقد يشكّك في المقاومة المُسلّحة، لأنها مرفوضة من (المجتمع الدولي)، ويدعو إلى المقاومة الشعبية السلمية، لأنها مقبولة من (المجتمع الدولي). ولتفنيد هذا النقد، ينبغي التوضيح أنَّ (المجتمع الدولي) الذي يُراهن عليه هؤلاء هو الغرب بوجهيه الأوروبي والأميركي المسؤول عن نشأة دولة (إسرائيل) ومنحها الشرعية الدولية وأسباب الحياة والبقاء، ولا يزال يُغطّيها سياسياً واقتصادياً، باعتبارها رأس حربة لمشروعه الاستعماري، وبالتالي لا يُراهن عليه… كما أنَّ المقاومة السلمية لا تَصلح مع كيان إحلالي استيطاني قام على العنف وإدامة العنف، ومع صراع وجود لا ينتهي إلّا بزوال الكيان الصهيوني من الوجود.

وآخر نقد سنناقشه ضد المقاومة المُسلّحة هو اتهام فصائلها بأنّها مرتبطة بأجندة أجنبية ومصالح غير وطنية، ويُشار هنا بالتحديد إلى الجمهورية الإسلامية في إيران، ومعها كل محور المقاومة، ومناقشة هذا النقد تأخذنا إلى قاعدة مهمة فحواها أنَّ أي تحالف هدفه تحرير فلسطين ويدعم المقاومة الفلسطينية المسلحة كوسيلة لخدمة هدف التحرير هو أجندة وطنية فلسطينية لا أجندة خارجية أجنبية؛ فتحالف المقاومة الفلسطينية مع الدول والحركات والقوى خارج فلسطين يجب أن تحكمه بوصلة القدس وفلسطين قُرباً أو بُعداً… وهذا ما تلتزم به المقاومة الفلسطينية، وبالتحديد حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وعلاقتها بمحور المقاومة وغيره.

بناءً على حقيقة أنَّ المقاومة المُسلّحة ضد الاحتلال كمبدأ وممارسة تُعتبر حقاً للشعب الفلسطيني وواجباً على طليعته الثائرة، وأنَّ نقد المقاومة المُسلّحة بعيداً عن التجريم والتقديس والمساس بالمبدأ حق وواجب للشعب والثورة، فإنَّ ذلك مطلوبٌ وضروريّ كي لا تنحرف المقاومة عن هدف تحرير فلسطين، وكي لا تنحرف بوصلة بندقيتها عن مقاتلة الكيان الصهيوني، وكي لا تنفصل المقاومة الفلسطينية عن حاضنتها الشعبية ومحورها المقاوم وأخلاقها الإنسانية، والنقد مطلوب كذلك كي لا تتحول المقاومة إلى مجرد حزب يتقمّص دور القبيلة في الجاهلية، أو مجرد تنظيم تسكنه روح الفرقة الناجية.

* المصدر :الميادين نت

* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع