السياسية:

أجرت فرنسا نحو 17 تجربة نووية بين عامي 1960 و1967، كانت 11 منها في الجزائر بمنشآت عسكرية مُخصَّصة للفرنسيين، بعد حصول الجزائر على الاستقلال في 1962.

ويقبع الكثير من المُخلَّفات والنفايات الناتجة عن تلك الاختبارات، بما في ذلك الدبابات والمروحيات والطائرات التي استُخدِمَت لاختبار الإشعاع، مدفوناً في الرمال: ما يصل إلى 3 آلاف طن، وفقاً لتقديرات الفرع الفرنسي للحملة الدولية لإلغاء الأسلحة النووية. 

وحتى الآن، تتسرَّب سميَّة هذه المُخلَّفات إلى البيئة والناس ومحاصيلهم وماشيتهم، حيث يستمر الماضي في تلويث الحاضر. 

عشرات الآلاف من الجزائريين يتعايشون مع آثار التجارب النووية الفرنسية

ورغم كلِّ العقود التي مرَّت، لن تكشف الحكومة الفرنسية عن تفاصيل النفايات المدفونة في الرمال أو موقعها الدقيق. لا أحد متأكِّدٌ من عدد الأشخاص المصابين، وبحسب تقرير لقناة الجزيرة أشار إلى الفجوة بين التقديرات الفرنسية والجزائرية، فإن ما بين 27 ألف و60 ألف شخص، بالإضافة إلى أحفادهم، ربما يتعايشون الآن مع آثار التجارب النووية في جنوبي الجزائر. 

لكن ما هو مؤكَّد أن المنطقة لا يزال الإشعاع ينبض فيها. وقد حملت الرياح من جنوبي الجزائر رمال الصحراء إلى الأراضي الفرنسية في وقتٍ سابقٍ من هذا الشهر، وكُشِفَ لاحقاً أن هذه الرمال مُشِعَّة. 

يبتسم عبد الكريم التهامي، في أواخر السبعينيات من عمره، أثناء إجراء مقابلة مع صحيفة The Independent البريطانية، عبر الفيديو من ولاية تمنراست الجزائرية، معه وهو مسترخٍ على كرسيه ويصف التجارب النووية الفرنسية التي أُجرِيَت بالقرب من منزله وإرثها الوحشي الذي لا يزال قائماً إلى يومنا هذا. 

يتذكَّر عبد الكريم أحد الاختبارات الأولى، ويقول للمترجم واصفاً الانفجار الذي بلغ حجمه 70 كيلوطناً -ثلاثة أضعاف الانفجار الذي دمَّر ناغازاكي اليابانية- والذي وقع على بُعد 180 كيلومتراً من قريته في فبراير/شباط 1960: “أخبر الفرنسيون الناس بفعلتهم بعد الذعر، إذ شعروا أن الأرض تهتز.. كان عمري 17 عاماً في ذلك الوقت. لم نشاهد أيَّ دخان”. 

وقال: “شعرنا أن الأرض تهتز”، وقال إنه حتى الجنود الفرنسيين ووزراء الحكومة والعلماء الذين اجتمعوا لمراقبة الاختبار لم يتوقَّعوا أن يكون الانفجار مدمِّراً للغاية، ووصف الاختبار بأنه كان “الأسوأ”. 

لم يبدأ سكَّان المنطقة في ملاحظة إصابة الناس بأصنافٍ متعدِّدة من مرض السرطان إلا في وقتٍ لاحق، وقد ارتفعت حالات التشوُّهات الخلقية إلى أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. 

أوضح عبد الكريم قائلاً: “علمنا جيِّداً الآثار التي يمكن أن تُحدِثها الأسلحة النووية وإشعاعاتها على الناس”. وعلاوة على ذلك، بصفته مُدرِّساً للغة الفرنسية في القرية، كان هو في وضعٍ أفضل من غيره لمشاهدة انتشار المرض. وقال: “لقد فهمنا ما كان يجري، ومع مرور الوقت، بدأنا نلاحظ تأثير الإشعاع على مواليدنا وأطفالنا”. 

أجيال تتناقل الأمراض والتشوهات

نُقِلَت الانفجارات اللاحقة تحت الأرض، إلى المنشأة الجبلية في قرية إكير بولاية تمنراست، حيث أُجرِيَ 13 اختباراً آخر، اثنان أكبر من ذلك الأول، بما في ذلك الاختبار الكارثي الذي أُجرِيَ عام 1962. 

انفجرت العبوة بقوة 40 كيلوطناً، والتي كان من المُفتَرَض احتواء انفجارها داخل عمود مُغلَق من سفح الجبل، وأدَّت إلى سقوط الصخور المُشِعَّة في الصحراء، مِمَّا أدَّى إلى تلويث الجنود والمراقبين، وكذلك المناطق الريفية المحيطة. 

وبحسب بحثٍ أجراه صحفيون جزائريون بعد ذلك، فإن السحابة المُشِعَّة انجرفت فوق قرية ميرتوتك، على بُعدِ 60 كيلومتراً. تُوفِّيَ 17 شخصاً بعد ذلك بوقتٍ قصير، ولا يزال الكثيرون في ميرتوتك مرضى. 

وعند تفكيك القواعد قبل تسليمها للجيش الجزائري عام 1967، ذهب كلُّ شيءٍ إلى الرمال، من مُخلَّفات الحياة العسكرية اليومية، إلى المواد المعروفة بتلوُّثها بالانفجار، مثل الطائرات والدبابات المُستخدَمة لاختبار النشاط الإشعاعي، إلى الحطام المنبعث مباشرةً من قلب الانفجارات نفسها. كلُّ ذلك ذهب تحت طيّ الصحراء، بعد تسلم القوات الجزائرية هذه المواقع. 

تراب وطعام مسموم 

بالنسبة لعبد الكريم، الذي يبعد 180 كيلومتراً، فالنتيجة هي حقيقة يومية في حياته. قال: “قريتنا بها محاصيل ونباتات وأشياء من هذا القبيل، ولكن عندما يأكل أطفالنا الطعام فإنهم يُصابون بالأمراض. يُولَد أطفالنا مُشوَّهين بسبب الثمار التي نأكلها من التربة المسمومة”. 

يتوقَّف مؤقَّتاً للسماح للمترجم بترجمة ما قال، ثم يضيف: “أودُّ أن أقول إن الناس في قريتي يعيشون رغم كلِّ الأضرار. بالطبع سأكون ذاتياً عندما أتحدَّث عن مسقط رأسي. يشعر المرء دائماً بالحنين إلى المكان الذي وُلِدَ فيه. الناس هنا يعيشون بسلام، ويقبلون العيش كما هو، لذا لن يفكِّروا أبداً في مغادرة قريتهم”. 

ترسم لقطاتٌ بثَّها التلفزيون الجزائري قبل عامين صورةً مُروِّعة للحياة في المنطقة. تكشف اللقطات أن آباءً من قريةٍ بالقرب من موقع الاختبار في رقان يُظهِرون أطفالهم، وجميعهم وُلِدوا بإعاقاتٍ جسدية أو عقلية شديدة نتيجة النشاط الإشعاعي. 

وبالإضافة إلى النقص في المستلزمات الطبية، تقول الطبيبة المحلية، خيرة حرزاوي: “هناك الكثير من حالات الأجنَّة المُعوَّقين، وهناك عددٌ لا يُحصَى من حالات الإجهاض”. 

مطالبات بتقديم تعويضات وتجاهل فرنسي

قبل 11 عاماً، انضمَّ عبد الكريم إلى جماعة Taourirt، وهي جماعة تركِّز على العمل مع الفرنسيين بالإضافة إلى جمع البيانات المتبقية عن الاختبارات. 

وفي حين أن ذلك ليس هو الهدف الأساسي للجماعة، من المأمول أن يتَّجه البعض نحو دعم مطالبات التعويض بموجب قانون مورين لعام 2010 الذي ينصف ضحايا الاختبارات الفرنسية في الجزائر وجزيرة بولينيزيا في المحيط الهادئ. 

واعتباراً من العام الماضي، جاءت 1427 مُطالَبة من بولينيزيا، مدفوعةً بجهودٍ مُنسَّقة من المجتمع المدني. وفي الأسبوعين الماضيين، وبفضل الأبحاث الرائدة التي أجرتها عدة مجموعات، بما في ذلك جامعة برينستون، يمكن أن يرتفع هذا الرقم في النهاية إلى أكثر من 100 ألف. 

وعلى النقيض من ذلك، فإن الجزائر، التي عاقها عددٌ مُقيِّد من شروط التعويض والحاجز الطبيعي القائم بين المتحدِّثين باللغة العربية والعملية التي تهيمن عليها اللغة الفرنسية، فقد قدَّمَت 53 طلباً فقط، وواحد منهم فقط هو الذي نجح.

عربي بوست