السياسية:

منذ تولي الرئيس جو بايدن منصبه، أصبح واضحاً أن أمريكا تعتبر الصين المنافس الأبرز لها وتعتبرها تمثل تهديداً للنظام العالمي القائم، فما هو هذا النظام الذي تقصده واشنطن بالتحديد؟

ورغم أن بعض المراقبين يرون أن سياسة إدارة بايدن مع الصين قد تحسنت مقارنة مع سياسة إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب من خلال التركيز على ضرورة إصلاح الولايات المتحدة من الداخل والاعتراف بالحاجة إلى التعاون مع الصين في بعض المجالات، إلا أن تبني الإدارة الحالية لفكرة “النظام العالمي”، وعلاقة الولايات المتحدة والصين به سطحي أكثر من اللازم، ومضلل بدرجة كبيرة، بحسب تحليل لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.

كانت العلاقات بين بكين وواشنطن قد وصلت إلى مرحلة خطيرة من التصعيد، تجلت في اشتعال حرب تجارية بين البلدين وتبادل فرض الرسوم على البضائع والمنتجات، ثم ازدادت سخونة التوتر مع تفشي وباء كورونا حول العالم ووصف ترامب الوباء بأنه نتيجة “لفيروس صيني”، وتوقع كثيرون أن هزيمة ترامب سوف تخفف من حدة التوتر، لكن حقيقة الأمر هي أن العكس تماماً هو ما يحدث.

أمريكا تهاجم الصين، لكن على أي أساس؟

وشهد اللقاء الرسمي الأول بين الجانبين توجيه وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين في خطابه لمجموعة من المسؤولين الصينيين رفيعي المستوى في أنكوراج بولاية ألاسكا يوم 18 مارس/آذار انتقادات حادة للمسؤولين الصينيين بسبب تصرفاتهم التي “تهدد النظام القائم على القواعد ويضمن الاستقرار العالمي”، ورد مدير مكتب اللجنة المركزية للشؤون الخارجية يانغ جيتشي على ذلك باتهام الولايات المتحدة بالتعالي والتدخل في شؤون الصين.

ووصف بلينكين للصين بأنها تهديد لـ “نظام قائم على القواعد” يعكس لغة إدارته في “التوجيه الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأمريكي” الصادر في 3 مارس/آذار، وكذلك “استراتيجية الأمن القومي” لعام 2017 التي أصدرتها إدارة ترامب، والتي وصفت الصين بأنها تهديد وجودي للنظام العالمي “الحر والمفتوح” الذي تقوده الولايات المتحدة.

الرئيس الصيني شي

فهذا الخطاب يعكس ميل واشنطن لتصور النظام العالمي الحالي على أنه نظام ليبرالي مترابط قائم على قوانين ومعايير ومؤسسات وتحالفات يعزز بعضها بعضاً، وتدعمه الولايات المتحدة وحلفاؤها، ومن هذا المنظور، تسعى دول مثل الصين وروسيا إلى قلب هذا النظام واستبداله بنظام أكثر انفلاتاً وقمعية.

نظام عالمي تتصوره أمريكا لكنه غير موجود

لكن هذه الفكرة خاطئة تماماً، إذ إن نظاماً عالمياً بهذا الشكل لم يكن موجوداً يوماً، ولم تكن علاقة الولايات المتحدة- أو خصومها- بالنظام الحالي بسيطة إلى هذا الحد مطلقاً، وهذا المفهوم الخاطئ له مخاطره. فالمبالغة الشديدة في تقدير طبيعة التهديد الذي تشكله الصين “للنظام العالمي” الحالي قد تعيق تعاوناً مهماً بين الولايات المتحدة والصين في قضايا مثل تغير المناخ، ويؤدي إلى رد فعل مبالغ فيه ومؤذٍ في السياسة الخارجية الأمريكية، وفي أسوأ الأحوال قد يدفع الصين لتبني موقف عدواني أكبر مما كانت لتفعل.

وبدلاً من أن تتبنى الإدارة هذا المسار الخطير، يتعين عليها أن تعترف بحقيقة النظام العالمي: وبأنه في الواقع سلسلة من القواعد المنفصلة والمتناقضة أحياناً، التي تحكم مجالات تبدأ من التجارة والحد من التسلح وتنتهي بالقانون الإنساني الدولي. والصين، مثلها مثل الولايات المتحدة، تربطها علاقات متفاوتة بكل هذه القواعد، وفقاً لأليستر إيان جونستون من جامعة هارفارد، تؤيد بعضها، وترفض البعض الآخر أو تسعى لتغييره.

وهذا الفهم يرسم صورة أكثر دقة وتفصيلاً للتحدي الذي تمثله الصين، فهو يمكّن الولايات المتحدة من تحديد المجالات التي يمكن أن تتعاون فيها مع الصين لتوطيد بعض القوانين، التي قد تحتاج إلى التفاوض عليها مع الصين ودول أخرى للتوصل إلى اتفاق يحمي الحقوق الأساسية لجميع الأطراف، والتي يجب أن تحد فيها من نفوذ الصين.

لا بديل عن التعاون بين بكين وواشنطن

تغير المناخ، على سبيل المثال، أحد المجالات التي تتطلب نظاماً دولياً متعاوناً للتخلص من انبعاثات الكربون والإغاثة في حالات الكوارث والتخفيف من حدتها. وهو مجال يسهل فيه التعاون مع الصين. إذ أصبحت الصين نفسها مؤخراً رائدة في مجال المناخ، إذ تدعم اتفاقية باريس وهدف التخلص من انبعاثات الكربون بحلول عام 2060. وبإمكان الولايات المتحدة والصين، باعتبارهما أكبر اقتصادين في العالم، تولي القيادة عن طريق تبني أهداف أكثر طموحاً للتخلص من انبعاثات الكربون، وبإمكانهما تقديم المساعدة المالية والتكنولوجية للبلدان النامية لتسريع انتقالها إلى مرحلة التخلص من الانبعاثات الكربونية وبناء قدرتها على التكيف مع تغير المناخ.

وفي الأنظمة الأخرى، مثل حرية الملاحة، توجد مساحة أمام الولايات المتحدة والصين ودول أخرى للتفاوض على اتفاقيات لتوضيح مواطن الغموض في القانون الدولي الحالي. فلدعم تفوقها البحري العالمي، توفر الولايات المتحدة أقصى قدر من حرية الملاحة، وتؤكد أن السفن العسكرية لها الحق في “الطيران والإبحار والعمل حيثما يسمح القانون الدولي بذلك”. 

ورغم هذا الخطاب الأمريكي، لا تسعى الصين إلى تهديد حرية ملاحة السفن التجارية، التي يعتمد عليها اقتصادها بشكل كبير. وحتى في المجال العسكري، تعتمد الصين، مثل الولايات المتحدة، على حرية ملاحة سفنها الحربية التي تنشط بعيداً عن شواطئها. وإذا قررت الولايات المتحدة الحد من عمليات مراقبتها على طول الساحل الصيني وحرية عمليات الملاحة بالقرب من جزر بحر الصين الجنوبي المتنازع عليها، فمن المرجح أن تعرب الصين عن دعم أقوى لحرية الملاحة العسكرية بالنظر إلى قوتها البحرية المتنامية. وفي الوقت نفسه، بإمكان واشنطن وبكين العمل مع دول أخرى في المحيطين الهندي والهادئ للتوصل إلى تفاهم حول حقوق السفن العسكرية الأجنبية في المناطق الاقتصادية الخاصة.

وبطبيعة الحال، فإن توجه الصين مع بعض الجوانب الأخرى لقانون نظام البحار المتعلق بالموارد البحرية أكثر رجعية. ويتجلى ذلك بشكل واضح في مطالبتها غير المحددة بحقوق تاريخية في بحر الصين الجنوبي، ومطالبتها بالسيطرة على موارد في مساحات شاسعة من المحيط حول مجموعات من الجزر البحرية الصغيرة المتنازع عليها. وهذه المزاعم المبالغ فيها لا بد أن تلقى معارضة، ولكن يتعين على الولايات المتحدة أن تحذو حذو رابطة دول جنوب شرق آسيا ASEAN في الدعوة إلى حل نزاعات بحر الصين الجنوبي وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وليس تنفيذ عمليات حرية ملاحة من جانب واحد قد تؤدي إلى زعزعة استقرار الوضع.

وأخيراً، في الأنظمة العالمية المتعلقة بحقوق الإنسان والحكم المحلي، يجب على الولايات المتحدة مواجهة نفوذ الصين عن طريق تعميق مشاركتها في تعزيز وإصلاح تلك الأنظمة. ففي الأنظمة التي لم تتشكل بشكل كامل بعد، مثل إدارة الإنترنت، تحاول الصين تشكيل المعايير بطرق تنحاز لسيادة الدولة وسيطرتها. ويتعين على الولايات المتحدة أن تدافع بقوة عن امتيازاتها وأولوياتها في هذا النظام، وبعضها لم يُحدَّد بعد على المستوى المحلي، ولكن لا بد أن تنتهج سياسة أكثر انفتاحاً وأقل تدخلاً من الحكومة في إدارة الإنترنت.

وفي المجالات الأخرى التي تتصرف فيها الصين على أنها قوة محافظة ترفض مراجعة المعايير الليبرالية، مثل رفضها لمعيار “مسؤولية الحماية”، يجب على الولايات المتحدة التأكيد على حاجة المجتمع الدولي إلى التعاون للرد على الانتهاكات الإنسانية الجسيمة. وفي الوقت نفسه يجب على واشنطن أن تدرك أن استخدامها المكثف للعقوبات الاقتصادية لمعاقبة انتهاكات حقوق الإنسان وتدخلاتها الإنسانية العسكرية لا تسبب في كثير من الأحيان ضرراً إنسانياً مباشراً غير مقصود فحسب، بل لها أيضاً نتيجة متوقعة تتمثل في زيادة رفض مثل هذه المراجعة الليبرالية للمعايير. وإذا كانت واشنطن ترغب في تعزيز معايير حقوق الإنسان الليبرالية، فعليها أن تتبنى نهجاً أكثر ليبرالية يركز على الدبلوماسية ويعتمد على القوة الناعمة والنمذجة، وليس الإكراه الاقتصادي والعسكري.

وفي الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة إلى التكيف مع نظام عالمي متعدد الأقطاب وصين تتنامى قوتها وأهميتها، يتعين عليها تحاشي تصوير الصين على أنها تهديد للنظام العالمي ككل، حيث إنه عارٍ عن الصحة وهدّام. إن فهماً أكثر دقة وخطاباً أقل مانوية سيساعد الولايات المتحدة على وضع استراتيجية أفضل، وتحاشي خصومة تشبه الحرب الباردة، وتحديد المجالات التي يجب أن تتركز عليها جهود العمل مع الحكومة الصينية أو ضدها.

عربي بوست