السياسية- رصد:
د. عبد العزيز بن حبتور

تفجّر الصراع الدموي الثالث والجديد بين حلفاء الأمس وأعداء اليوم ليخلف المزيد من الضحايا والمآسي بين الطرفين اللدودين. هذا الصراع الجديد اندلع بعيد إعلان ما يُسمى المجلس الانتقالي الإدارة الذاتية في عدن والمحافظات التي يسيطر عليها بمعية الإمارات العربية المتحدة، لكنه لم يكن الصراع العسكري الأول ولن يكون الأخير مع ما يُسمى بالحكومة الشرعية ومقرها الرياض عاصمة السعودية، فالشعارات المُعلنة والمبطنة المحركة للصراع قادمة من زمن بعيد نسبياً وأساسها تلك الصراعات الدموية الذي تأسست عليها دولة جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية منذ اليوم الأول لنشؤها في الـ 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1967م، وقد أخذ منحى الصراع اليوم الطابع القبلي والمناطقي والقروي، لكن كانت تظهر للسطح بمسميات مُخادعه ومُضلله، وكان مسرح تقاتل الفرقاء طيلة فترات الصراع في مدينة عدن.
لقد بدأ الصراع العسكري المسلح بين حلفاء الأمس، وهُم المُستأجرون والتابعون لدولتي العدوان السعودي- الإماراتي في يناير/كانون الثاني 2018م، والثانية في أغسطس/آب 2019م، وكُل تلك الحروب العبثية بدأت بفصول الاقتتال في المرة الأولى والثانية في مدينة عدن، والحرب الثالثة تجري هذه المرة في منطقة الشيخ سالم على المدخل الشرقي لمدينة زنجبار عاصمة محافظة أبين، ولازالت المعارك تدور وفقاً لقاعدة الكَرْ والفَرْ، وهذه المرة تدور المعارك بين الطرفين وفي جميع فصول الاحتراب بين الجنوبيين أنفسهم فحسب.
حرب بين أفراد القبيلة ذاتها والمنطقة ذاتها والدين والمذهب والعرق ذاته، لكن الشعارات هُنا تختلف، فمن يطلقون على أنفسهم مُسمى (القوات الشرعية) قد حضروا من حضرموت وشبوه وأبين وعدن وبمساندة محدودة من مأرب والبيضاء وربما من محافظات أخرى، هُم حضروا إلى محافظة أبين بهدف الوصول إلى (عاصمتهم) السياسية والاقتصادية المؤقتة عدن كما يقولون، لكي يؤمِّنوا للحاكم العسكري السعودي وحداته العسكرية والأمنية ومعسكراته ومواقعه كي تكون آمنة ضد أية مقاومة للوجود السعودي الأجنبي على أرض عدن والمحافظات المحتلة المجاورة لها، ولكي تكون مصالحه الاستراتيجية في أمان واستقرار للبدء بتنفيذ مشاريعه الاحتلالية المستقبلية، وهو الهدف الرئيس من العدوان التي شنّته المملكة العربية السعودية وحُلفاؤها على الجمهورية اليمنية في صبيحة الـ 26 مارس/آذار 2015م.
أمّا مَنْ يُسمّون أنفسهم (بالمجلس الانتقالي) الانفصالي فهم اتباع الإمارات العربية المتحدة، وهُم قد عبّروا عن انفسهم بوضوحٍ شديد منذ اليوم الأول لتأسيسهم المدعوم من الإمارات المتحدة، بأنهم عملاء تابعون للإمارات ومُنفذون لسياستها ومنها سياسة انفصال جنوب اليمن عن شماله ومن بين إنجازاتهم الهزيلة بأنهم طردوا المواطنين اليمنيين المنتمين لمحافظات تعز وإب والحديدة من عدن، وقيل لهم أنتم مطرودون لأنكم مواطنون شماليون غير مرحب بكم في أرض (الجنوب العربي) كما يحلو لقياداتهم البائسة إطلاق هذا المصطلح الاستعماري البريطاني ومحاولة تعميمه على المواطنين البسطاء من العوام، مُعممين لغتهم العنصرية المناطقية البغيضة على خطابهم الإعلامي والسياسي، والإنجاز الثاني لهم هو نهب الممتلكات الخاصة والعامة بما فيها نهب أراضي مستقبل جامعة عدن الاستراتيجية، وأخيراً نهبوا أزيد من خمسة عشر مليار ريال خصصوها لحملتهم العسكرية باتجاه أبين.
ما هو حجم التناقض والتباين في المواقف والمصالح بين دولتي العدوان السعودي- الإماراتي؟ أم هو التناقض بين الاتباع والعملاء لـ (قوات الشرعية بقيادتها السياسية والعسكرية الرابضة في الرياض) أم في (القوات التابعة للمجلس الانتقالي الانفصالي وقادته المنبطحين في أبوظبي)؟
أولاً: تقول المعطيات السياسية الجيواستراتيجية والمواقف العامة بأن السعودية والإمارات ليس لديهما سياسة خارجية مستقلة، وأنّهما بَلَدان يدوران ضمن الفلك الأميركي الشامل ولا يستطيعان حتى مجرد التغريد خارج ذلك السرب والنطاق الأميركي بمصالحه السياسة والاقتصادية وحتى الثقافية، ومؤخراً توطّدت علاقتهما بسبب سياسة التطبيع الخفي والمعلن مع العدو الإسرائيلي الصهيوني، وبالتالي فإن سياساتهما تُستنْسخ من الأسياد وليس لهما قرار مستقل، وكل الشواهد والمسار التاريخي لكِلتا الدولتين محكومةٌ بتلك الروابط والالتزامات الأمنية والعسكرية والاقتصادية.
التاريخ يدُلنا بشيءٍ من السردية المحزنة في قيام المملكة العربية السعودية بالتعاون مع العدو الإسرائيلي في التآمر على الجيوش العربية مُنذ العام 1967م مما تسبَّب في نكسة حزيران، وكذلك التآمر في إسقاط النُظُم القومية العربية في كلٍ مِن مصر والعراق وسوريا وليبيا واليمن والتآمر على الجزائر، وكذلك التآمر العلني والصريح على حركة المقاومة للمشاريع الأميركية الصهيونية وهو الخط الممتد من إيران والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن.
ثانياً: المنطق السياسي والعسكري والاستراتيجي لا يشير إلى أن هناك تناقضاً بين مصالح دولتي العدوان السعودي- الإماراتي، فهما يُنسِّقان عملياتهما العسكرية من غرفة العمليات العسكرية بالرياض وتحت إشراف الخُبراء العسكريين والفنيين الأميركيين والبريطانيين، ولديهم مظلة عالمية واحدة هي مجلس الأمن الدولي وهم مدعومون عسكرياً واستخباراتياً غربياً كاملاً، إذاً كيف سيكون ذلك التناقض في المصالح الاقتصادية والسياسية وحتى الجغرافية؟
ثالثاً: في العهد العدواني السعودي الجديد على اليمن، أي في زمن الملك سلمان بن عبدالعزيز وابنه المدلل وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، ظهر تقارب وتماهٍ وثيق بين الرياض وأبوظبي، وظهر ذلك في استيراد السعودية لجميع الخبرات (الثقافية) من الإمارات العربية المتحدة بهدف توطين الثقافة الغربية في المدن السعودية، ولأجل تلك الغاية فتحت المملكة العربية السعودية أبوابها ونوافذها وأجواءها لاستيراد تجارب المجتمع الغربي غير المنُضبط أخلاقياً وفقاً للتعاليم الإسلامية المعروفة في أرض الحرمين الشريفين وهي ثقافةٍ دخيلة بالمطلق على المجتمع السعودي الذي عاش قرابة ثمانية عقود في النسخة الثالثة للدولة السعودية، عاش هذا الزمن من التشدد والغُلو والتطرف في تنفيذ تعالم الدين الإسلامي من خلال دعم مؤسساته الدينية بعينها (كهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) والرموز الفكرية الدينية لحركة الإخوان المسلمين وغيرها، وتلك السياسات كانت مبنية على أن مؤسسي فِكرة الحِلف التاريخي بين الشيخ محمد بن عبدالوهاب مؤسس الفكرة الوهابية والأمير محمد بن سعود أمير منطقة الدرعية مؤسس الدولة السعودية الأولى، اللذين تعاهدا على مبدأ الدم بالدم والهدم بالهدم، وفجأةً ومن أجل استرضاء دوائر الاستخبارات في الولايات المتحدة الأميركية والحركة الصهيونية تم الانقلاب على الإرث الثقافي الممتد لقرابة ثلاثمائة عام واستبدالها بسياسة الغربنة المفضوحة والتي تعد أحد توجهات مشيخة الإمارات العربية المتحدة منذ التأسيس، نعم حكام السعودية الجدد تعلّموا مِن خبرة آل نهيان بعد وفاة الشيخ زايد بن سلطان رحمة الله عليه، تعلّموا استيراد موسيقى الجاز، الديسكو الصاخبة، الفلامنجو الراقصة، الأوركسترا الفيلهارمونية الملكية، السيمفونيات الإيطالية الشهيرة، ومطربي العالم للغناء والرقص، لا توجد لدينا أيُّ تحفظات تجاه ما يعملونه داخل بلدانهم، لكن تحفظنا الكبير واعتراضنا على إنها تُجرى في أرض الحرمين الشرفين وهي أرض مُقدّسة فلا يجوز تدنيسها، وهي قبلة المسلمين جميعاً فلا يحوز البتة بأن تجرح مشاعرهم على مستوى العالم برمته.
رابعاً: طالما طرفا العدوان يمتازان بكل هذه المميزات والتحالف الوثيق بينهما، إذاً لماذا يتقاتل (الجنوبيون) في محافظة أبين اليوم، وقبلها تقاتلوا بوحشيةٍ عجيبة في عدن وسقطرى، عِلماً بأنهم روّجوا بسذاجةٍ مُفرطة طيلة السنوات الماضية لمبدأ التسامح والتصالح بين فرقاء العمل السياسي الجنوبي، وفجأةً ينقلبون على ما التزموا به في الجمعية الخيرية ردفان في العام 2007م وأصبح القتل في ما بين رفاق الأمس بالبطاقة الشخصية، وهم يُكررون جريمة ما حدث في 13 يناير/كانون الثاني 1986م.
ما أشبه الليلة بالبارحه، يُكررون ذات الجريمة ولكن بدماءٍ جديدة، تناسوا في زحمة التسابق على خدمة المشروع الاحتلالي الجديد السعودي- الإماراتي كل ما وعدوا به المواطنين البسطاء من القيم السامية للتسامح والتصالح، وفي لحظةٍ عابرة قذفوا بكل ما التزموا به تحت جنازير الدبابات وإطارات الشاصات، إنه الزمن وحده الذي يكشف للعالم كله كل حيلهم وألاعيبهم وتفاهاتهم.
خامساً: المتقاتلون اليوم من الطرفين على رمال (الشيخ سالم والطرية وعُبر عثمان وجبل الكلاسي)، رفعوا ذات يوم شعاراتٍ برّاقة كاذبة عن القضية الجنوبية وعددوا مظالم الناس التي حدثت بعد الوحدة اليمنية المباركة، وربما في جزئِها صحيح، لكنهم تجاهلوا بشكل تعسفي قضية شعبنا في الجنوب الذي تعرض لسيل من المظالم المؤلمة مُنذ فجر الاستقلال الوطني 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1967م وحتى صبيحة يوم الوحدة اليمنية المباركة عام 1990م، وكأنهم نسوا بغباء جرائم الاغتيالات السياسية لعلماء الدين ومشايخ القبائل والرموز السياسية من زمن السلاطين ووصلوا حتى لقتل الخريجين من الجامعات بهدف تجهيل الأمة كلها، وإصدار قرارات (بالتأميم) للملكيات الخاصة في كل شيء واعتبروا أنّ ذلك عملٌ ثوريٌ مشروعٌ، وحينما جاءت الوحدة اليمنية المباركة أعادت للمواطنين الجنوبيين كرامتهم وملكياتهم وعاداتهم الحميدة وهذا ما أغضبهم باعتبارهم بقايا من نسلٍ يتوق للعمل الإجرامي ومنها العمالة والارتزاق للأجنبي والقتل خارج القانون.
سادساً: رفعتم شعارات جوفاء وغير أخلاقية طيلة فترات احتجاجاتكم وفي مسيراتكم ومهرجاناتكم وقلتم بأن (دم الجنوبي على الجنوبي حرام) ومع أنّ هذا الشعار في مضمونه سخيف وأبله وغير ديني ولا إنساني، لكن المراقبين النجباء انتظروا أن تطبقوا ما تتشدقون به كذباً، لكنكم ظهرتم على حقيقتكم الإجرامية، وبأنكم بأمر من المحتل والضابط السعودي والإماراتي قتلتم العشرات والمئات وربما قد وصلتم الآلاف بالقتل والتعذيب والإخفاء وكلهم بالمناسبة جنوبيون أقحاح، ألا تُمثلون في أعمالكم الوحشية القذرة تجاه بعضكم البعض مهزلة القرن الحادي والعشرين وسيكتب التاريخ عنكم أقذع الأوصاف.
سابعاً: عدن أجمل مدائن بحر العرب والمحيط الهندي عمومًا وملتقى جميل لليمنيين من جميع المحافظات الذين يتوقون للاغتسال في خليج عدن والتمتع بهوائها النقي والتلذذ بما تجود به مطاعمها المنتشرة في أحياء المدينة، التي تتعرض اليوم لجوائح عِديدة أبرزها حُمّى الضنك والملاريا والمكرفس باللغة الشعبية واسمه العلمي مرض الشيكونغونيا Chikungunya وكذلك وباء فايروس كورونا، مع تراكم أطنان المخلفات والأتربة (الزبالات) في قلب المدينة وبقاء بعض الأحياء والشوارع تفيض بمياه الصرف الصحي مع وجود بقايا مياه الأمطار التي هطلت مؤخراً في عدد من الأحياء والشوارع، مع انقطاعٍ في خدمات الكهرباء لمدد تتجاوز 15 ساعة باليوم وانقطاع مياه الشرب عن عددٍ من أحياء المدينة في ظل هذا الصيف الحار الخانق.
كُل هذه الكوارث يتحملها المواطن العدني البسيط ولسان حاله يردد كيف كُنّا وكيف أصبحنا اليوم؟!!، مع كُل هذه الأهوال التي تعانيها عدن نلاحظ بأن فريقي التخاصم والاقتتال يتقاتلان بلا رحمةٍ في أبين وكُل طرف جهز (السامان) والمال والعتاد وحشد الجنود من أبنائنا اليمنيين الجنوبيين للإجهاز على بعضهم البعض، وبسبب ارتفاع صخب المدافع وزمجرة المجنزرات وناقلات الجُند لم يعودوا يسمعون أصوات أنين المرضى وبُكاء ذوي الأحبة المفقودين جرّاء الموت المتراكم الذي يصل يومياً في المتوسط ثمانين جنازه. تخيلوا معي أن هذا يحدث لأول مرة في تاريخ عدن في زمن الاحتلال السعودي- الإماراتي، الذين كَلّفوا عُملاءهم ومُرتزقتهم بالقتال على مشارف مدينة زنجبار.
الخُلاصة:
في مدينة عدن يموت الناس بالجملة، وعلى مشارف مدينة زنجبار يموتون بالعشرات ويأسرون بعضهم البعض بالعشرات، والمهم بأن قادة الفرقاء المتحاربين وأبناءهم وأحفادهم يعيشون في فنادق أبوظبي ومنتجعات الرياض، وكِلا الطرفين يرفع شعاراتٍ كاذبة، وأن قادة الفريقين تناسوا بأنهم يُنفذون سياسة حاقدة للمحتل المستعمر الأعْرَابي الجديد تجاه اليمن وشعبه العظيم، والله أعْلَمُ مِنّا جَمِيعاً.
• المصدر : الميادين نت
• تم نقل المقال حرفيا من المصدر لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع