السياسية : خالد الحداء

تحتفظ ذاكرة العالم بالعديد من العلامات الفارقة المرتبطة بصورة مباشرة باليمن السعيد الأرض والإنسان، ومثل البن اليمني إحدى تلك العلامات، خلال القرون الماضية، بتسجيله حضورا بارزا لدى محبي وعشاق القهوة على مستوى العالم.

ولا غرابة في أن يرتبط البن كمحصول بالهوية والحضارة اليمنية حيث عُرفت اليمن منذ القدم بأشهر أنواع البن وتميز بجودته العالية وشهرته الواسعة على مستوى العالم ، يعتبر البن من المحاصيل القديمة في اليمن، غير أن انتشار زراعة شجرة البن على المستوى العالمي كان له تاثيرا سلبيا على موقع ومكانة اليمن كبلد رائد في انتاج وتصدير محصول البن.

وعلى الرغم من المشاكل التي تواجه الزراعة عموما ومحصول البن خصوصا إلا أن هناك جهود حثيثة للنهوض واستعادة مكانة اليمن في هذا المجال، وفي هذا السياق سجل الحضور المجتمعي دورا متقدما في الترويج الداخلي والخارجي بهدف تطوير زراعة البن، باعتباره محصول تاريخي مرتبط بالهوية اليمنية الجامعة بالإضافة إلى أن التأكيد على أن قهوة البن من المحاصيل النقدية التي تسهم في دعم الاقتصاد اليمني بالعملة الصعبة ، ولاعتماد مئات الاف من اليمنيين على محصوله لتحسين دخلهم المادي.

وفي هذا السياق سعى مجموعة من الناشطين إلى تحشيد الجهود في سبيل التأكيد على أهمية زراعة شجرة البن على نطاق واسع ومع مرور الوقت تبلورت فكرة على ضرورة أن يكون هناك يوم “عيد وطني” لشجرة البن وبالفعل أعُلن الثالث من مارس من كل عام “عيد موكا” تيمنا بالشهرة الواسعة للقهوة اليمنية التي عُرفت عالميا بـ موكا كوفي ” Caffe Mocha”. وارتبطت التسمية بمدينة المخاء اليمني “القريب من باب المندب” لكونه ميناء التصدير الرئيسي لمحصول البن خلال الفترة ما بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر، ويرجح العديد من الباحثين أن قهوة الموكا “الموكاتشينو” قد أخذت الأسم من ميناء المخاء.

وتنتشر زراعة البن في العديد المحافظات اليمنية من الشمال إلى الجنوب، وتنمو الاشجار في الوديان حيث المناخ الدافئ والأكثر رطوبة، وفي سفوح الجبال والمدرجات الجبلية، وعلى ارتفاعات تتراوح بين 700 و2400 متر فوق سطح البحر.

ويختلف نوعية ولون وجودة البن تبعاً لتضاريس ومكان زراعته وطريقة العناية به، كذلك يختلف اشكال اشجار البن فهناك ما يُسمى بالبن الدوائري والعديني والتفاحي، ويرتبط اسم البن بالمنطقة التي زرع بها فعلى سبيل المثال هناك  البن المطري والعديني واليافعي والاسماعيلي والرازحي والحمادي والحيمي والريمي والأهجري.

المسار التاريخي

يختلف الباحثين في البدايات الأولى لزراعة شجرة البن في اليمن إلا أن أغلبهم يشير بانه عُرف قبل بداية التاريخ الميلادي، وتشير العديد من المراجع البحثية الى أن مصدر البن اليمني هو مرتفعات جنوب إثيوبيا، ومنها انتقل الى اليمن، وتوسعت زراعته في الاراضي اليمنية في القرن الخامس عشر الميلادي، وفيما يخص تناول القهوة فهناك من يربط المتصوفين اليمنيين في القرون الوسطى بابتكار القهوة كشراب يساعدهم على العبادة وطول السهر ليلاً .

ازدهرت زراعة وتجارة البن في القرن السابع عشر الميلادي ، بداية ظهور الاستعمار الأوروبي للعالم، بعد أن عُرف البن لدى التجار والشركات في أوروبا ، من خلال البحارة البرتغاليين الذين تعرفوا على قهوة البن بعد أن رست سفنهم على السواحل الغربية لليمن، ومع مرور الوقت تصاعد إنتاج البن مع تزايد التنافس بين مختلف الشركات الاوروبية “الهولندية والبريطانية والفرنسية” على البن اليمني حتى القرن الـ18الميلادي.

تشير الباحثة اليمنية، أروى الخطابي، إلى أن “العثمانيين عندما تمكنوا من طرد البرتغاليين من سواحل البحر الأحمر في عام 1538 ، دشَّن عهدا جديدا من التجارة عبر ميناء المخاء، وهو الاسم الذي تحول إلى ماركة عالمية (COFFEE MOCKA).

وفي سبيل تعزيز مكاسبهم سعى العثمانيين إلى فرض الضرائب على البضائع  في السفن التجارية الداخلة للبحر الأحمر  من خلال اجبارها على التوقف في ميناء المخاء، ويعتقد بان هكذا اجراء ساهم في تعريف العالم بالبن كسلعة يمنية يسهل تصديرها إلى العالم الخارجي، وتشير بعض المصادر إلى أن شركة هولندية قامت بتصدير البن إلى العالم بعد انشائها مصنعا لذلك في مدينة المخاء في بداية القرن الثامن عشر وبعد سنوات انشأت  شركة فرنسية مصنعا بغرض التصدير، وعزز التنافس من حركة التجارة الدولية بين ميناء المخاء وموانئ العالم.

غير أن ذلك لم يستمر طويلا خاصة مع نقل فكرة زراعة شجرة البن إلى المناطق المكتشفة حديثا ،في ذلك الوقت، وحسب الكثير من المصادر فأن تجار وشركات القهوة الاوروبيون أرادو التخلص من الاحتكار العثماني لسلعة البن اليمنية، بالإضافة إلى ان زيادة الطلب على البن على مستوى العالم لم يكن أن يلبيه الإنتاج اليمني وجرى نقل واستنبات شجرة البن في العالم الجديد في امريكا الجنوبية ولتصبح البرازيل وكولومبيا مع مرور الوقت في صدارة الدول المستحوذة على التجارة الدولية لمنتوج القهوة.

البن اليمني علامة فارقة وتحديات كبيرة

ساهمت الظروف المناخية والبيئة المتنوعة التي تزرع فيها شجرة البن في تحسين جودة المحاصيل، والذي اعتبر في المرتبة الاولى عالميا في مقياس الجودة، حيث يرزع في المرتفعات الجبلية الغربية والوسطى والجنوبية، وفي المدرجات الجبلية، الممتدة من اقصى شمال اليمن في مديرية رازح بمحافظة صعدة مرورا بجبال المحابشة في محافظة حجة ومرتفعات بني مطر في محافظة صنعاء ووديان محافظتي ريمة وذمار ومدرجات العدين وبني حماد بمحافظتي أب وتعز وصولا إلى منطقة حزر في جبال يافع جنوب اليمن.

ولكن تغير هذا الوضع، بل تغير كليا، فعلى الرغم من هذا التميز لقهوة البن اليمني إلا أن الواقع اليوم يشير إلى غير ذلك حيث شهدت الزراعة اجمالا تراجع كبيراً خلال العقود الماضية سواء من حيث المساحة المزروعة أو كميات الإنتاج أو الأيادي العاملة، ولم تكن زراعة البن استثناء لتلك القاعدة ، حيث تراجع التصدير لمحصول البن إلى ما دون 20 ألف بعد أن كان يقارب 50 ألف طن سنويا، وتقدر المساحة الزراعية المخصصة للبن حالياً في اليمن، بنحو 35 إلف هكتار، وتشير الاحصائيات الرسمية خلال عقد التسعينات من القرن العشرين أن زراعة وتجارة البن كانت تشكل داعما للاقتصاد اليمني وللكثير من الاسر اليمنية

وفي هذا السياق يذكر الاستاذ في كلية الزراعة بجامعة صنعاء الدكتور منصور الضبيبي بأن زراعة البن في اليمن للأسف الشديد في حالة تراجع مستمر، سواء من حيث مساحة المحصول أو كميات الإنتاج أو معدلات الإنتاج بالنسبة لمساحة الأرض المزروعة وبأن معدلات الإنتاج انخفضت من 579 طناً إلى 565 طناً للهكتار الواحد، ويضيف الضبيبي أن “مناطق زراعة البن لم تشهد أي تطوير في بنيتها التحتية، من طرق وكهرباء وخدمات أخرى مقارنة مع المناطق الأخرى”.

ويرى عدد من الخبراء أن هناك اسباب مباشرة وغير مباشرة في تراجع زراعة وتجارة شجرة البن على مستوى البلد:-

الأسباب المباشرة

  1. شحة الأمطار ومياه الابار تؤثر سلبيا خاصة في بداية زراعة شجرة البن، وتختلف كمية وجودة المحصول من الشجرة الواحدة فالري المناسب ينتج محصول ذات جودة وكمية كبيرة قد تصل للشجرة الوحدة حوالي ما بين 40 كيلو جرام وفي الجفاف تنخفض الإنتاجية الى ما دون ربع الكمية.
  2. أغلب المزارعين يستخدمون نفس الطرق القديمة ، التي تعود لمئات السنين، في زراعة وحصاد البن.
  3. تردد المزارعين في غرس الشتلات الجديدة وتفضيلهم الاشجار المعمرة والتي يبلغ معدل اعمار بعضها ما يقارب ستين عاما، على الرغم من ضعف انتاجها، وتفضيله استنبات غراس تقليدية غير مهجنة وملقحة اعتقادا منهم بأنه سوف يؤثر على جودة المحصول.
  4. محدودية استخدام الأسمدة الكيميائية نظراً لارتفاع أسعارها، والاعتماد على الطرق التقليدية في تسميد أشجار البن.
  5. هجرة المزارعين إلى المدن أو خارج البلد، إضافة إلى ضعف الخبرة عند المزارعين الجدد وارتفاع كلفة العمالة.
  6. انتشار الأمراض والحشرات، وعدم توفر الخدمات الزراعية للمكافحة في حقول البن.
  7. شجرة البن بحاجة لفترة تمتد إلى 5 سنوات، لتثمر، والمزارع يبحث عن العائد السريع، ولا يكون “البن” أحد الخيارات.

لا غرابة في توجه المزارعين امام هذا الكم الهائل من العراقيل للتخلي عن زراعة البن لصالح القات، وتشير الاحصائيات إلى أن المساحة المزروعة بالقات تقدر بـ 166 ألف هكتاراً عام 2018 مقارنة بـ 35 ألف هكتاراً للبن في نفس السنة، وهو ما يعني أن مساحة زراعة أراضي شجرة القات تشكل حوالي خمسة أضعاف مساحة شجرة البن، تجدر الإشارة إلى أن العائد الربحي شكل عائقا رئيسيا، فمحصول البن لا يعطي مردوداً سريعا للمزارعين مقارنة بالبدائل الآخرى، فمحصول البن يتم قطافه مرة واحدة في الموسم بالمقابل شجرة القات تنتج مرات عديدة، إضافة إلى ارتفاع سعره بصورة مستمرة وسهولة وسرعة تصريفه في السوق المحلي بينما محصول البن مرتبط بسعر القهوة عالميا.

الأسباب غير المباشرة

1- انخفاض التأهيل تجاه اساليب الحصاد والتجفيف للمحصول خاصة وأن مشاكل الجودة تحدث في الحصاد والتجفيف والتخزين.

2- يواجه محصول البن عوائق متعددة منها  النقل، والطحن والتسويق وضعف التسويق الداخلي والخارجي.

3- تصدير البن  إحدى المعضلات الرئيسية التي سببها الحصار المفروض على البلد.

4- اعتماد المزارعين على المجهود اليدوي الفردي والمعدات الزراعية التقليدية التي لا يزال المزارعون في اليمن يستخدمونها، واعتمادهم على النظم القديمة التي ورثوها عن أجدادهم في زراعة البن، وعدم ادخال الوسائل الحديثة في الزراعة كالري المقنن خاصة وان مناطق زراعة البن غالباً ما توجد في المدرجات الجبلية.

5-  انقطاع الديزل والبنزين أثر سلبيا على الزراعة.

6- تفتت ملكية الأراضي الزراعية التي تتشظى بين الورثة وبالتالي ضعف المردود.

7- زيادة الاستهلاك لمحصول البن على المستوى المحلي، مع تزايد عدد سكان، انعكس سلبا على كمية التصدير إلى الخارج .

8- محدودية دور البحث العلمي في حل مشكلات البن الإنتاجية والمكافحة الحيوية للآفات والأمراض التي تصيب اشجار البن.

9- ضعف الإرشاد الإنتاجي والتسويقي.

10- تشتت المساحة الزراعية وتوزعها على مناطق مختلفة ومتباعدة يصعب الوصول إليها.

وأخيراُ، بالرغم من مجموعة العوائق التي تحيط بزراعة وتجارة البن  إلا أنه يجب التذكير على أنه  محصول استراتيجي مطلوب عالميا يسهل تصديره ، دون عراقيل، للعالم والحصول على العملة الصعبة، وبالتالي رفد الاقتصاد الوطني بالمردود الكبير، وعليه فالتحرك الجدي والمدروس يستوجب إحداث نقل نوعية تجاه كل ما له علاقة بالبن، وينظر للقرار الحكومي بحظر استيراد البن وقشوره وغلاته بأنه خطوة في الاتجاه الصحيح بهدف الحماية والتطوير والتوسع في انتاج محصول البن اليمني.