"الفتح الإسلامي" في مواجهة الحدود والاحتلال
السياسية || محمد محسن الجوهري*
ليس أهل الإسلام من يمنعون الناس من التحرك في أرض الله بكل حرية وأمن، بل إن الأصل في شريعتهم أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وأن الناس جميعاً ضيوف على هذه البسيطة، لا يجوز لأحد أن يستبد بها أو يقطع أوصالها، قال تعالى:﴿وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ﴾ [الرحمن:10].
أما وضع الحدود المصطنعة، وتشديد الحواجز، والتضييق على حركات الشعوب، فهي سماتٌ رسخها أهل الكفر والاستكبار، إذ هم وحدهم من يحتلون الأرض ويقسمونها وفق مصالحهم، ثم يقيّدون حركة البشر بشروط مجحفة لا علاقة لها بالدين أو بالإنسانية.
ولهذه الأسباب جاءت الفتوحات الإسلامية، فهي لم تكن سعياً وراء توسع إمبراطوري أو طمعاً في ثروات الأمم، بل كانت رسالة لتحرير الإنسان من قيود الطغيان والاحتلال، وردع الظلم، وفتح البلاد أمام الحركة بكل أمن وحرية. وكان أولها فتح مكة، بعدما حاول كفار قريش حصرها والتضييق على زوارها، مع أن الله قد جعلها مثابة للناس وأمناً، قال تعالى: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [آل عمران:97]، فجاء الفتح ليعيد لها رسالتها الأصلية: بيت الله لجميع الناس، لا يُمنع عنه أحد بغير حق.
ومن مقاصد الإسلام أن تكون الأرض لله، يتحرك فيها عباده بلا خوف ولا حرج، بل بلغ الأمر أن جعل الشرع لــ"ابن السبيل" – وهو المسافر الغريب المنقطع عن بلده – نصيباً من الزكاة، فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ... وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [التوبة:60]، وذلك تأكيد على أن الحركة في الأرض حق مكفول، وأن على الأمة الإسلامية أن تهيّئ الأمن والكرامة لكل عابر سبيل، بغض النظر عن هويته أو وجهته.
وقد جسّد التاريخ الإسلامي هذه المبادئ؛ فحين فُتحت الشام والعراق ومصر لم يجد الناس إلا تحريراً من ظلم الضرائب الباهظة والتمييز العرقي الذي فرضته الإمبراطوريات السابقة، حتى إن كثيراً من الشعوب استقبلت الجيوش الإسلامية باعتبارها جيوش خلاص، لا جيوش احتلال. وهكذا انتشرت الفتوحات لا بقوة السيف وحده، بل بعدالة النظام ورحابة المنهج.
أما في واقعنا اليوم، فقد أعاد الاستعمار الحديث إنتاج الحدود المصطنعة التي مزّقت الأمة الواحدة، فجعلت أبناء الملة الواحدة يعيشون غرباء عن بعضهم البعض، يُمنع المسلم من دخول أرض أخيه المسلم إلا بتأشيرات مهينة وإجراءات طويلة، بينما تُفتح الأبواب على مصاريعها للغزاة والمحتلين والمستثمرين الأجانب الذين ينهبون خيرات البلاد دون عائق. وهكذا استبدلت الأمة شرع الله بقوانين وضعية جائرة، وبدل أن تكون "دار الإسلام" فضاءً مفتوحاً للمسلمين، تحولت إلى جزر متنافرة تُدار من غرف السفارات الغربية، ويتحكم فيها منطق الاستعمار أكثر من منطق الأخوة والعقيدة.
وبدل أن تكون الأمة جسداً واحداً يشد بعضه بعضاً، صارت أشلاء متفرقة، كل جزء منها مرهون بحدود سايكس بيكو التي خطّها المستعمر بيده، فصارت الحدود السياسية حواجز نفسية وثقافية واقتصادية، تقطع أوصال الأمة وتزرع بين أبنائها العصبيات الضيقة والولاءات المشبوهة. وهذه واحدة من أكبر صور الردّة الحضارية عن روح الإسلام، الذي جاء ليكسر الحواجز بين الناس، ويذيب الفوارق المصطنعة، ويقيم وحدة العقيدة والوجهة، تحت شعار القرآن الكريم:﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:92].
ولئن كان الفتح الإسلامي في جوهره رسالة تحررية، فإنه اليوم يفضح زيف الشعارات الغربية التي تتغنّى بالحرية وحقوق الإنسان وهي تُمعن في تقسيم الشعوب واستعبادها. فالفتح لم يكن توسعاً سياسياً ولا احتلالاً، بل كان مشروعاً إنسانياً شاملاً يهدف إلى تحرير الإنسان من عبودية الإنسان، وإعادته إلى رحاب عبودية الرحمن، وإقامة عالم تسوده العدالة والكرامة. ولنا في قول ربنا تعالى حجة بالغة: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ﴾ [الحج:41].
فهذا هو جوهر الفتح: إقامة العدل والحق، لا بناء الأسوار والحدود.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب

