الوطن العربي.. اختراقٌ من الداخل قبل الغزو من الخارج
مبارك حزام العسالي*
الوطن العربي اليوم أشبه بقطعةٍ من الجبن السويسري، مملوءةٍ بالفراغات الداخلية رغم ما يبدو عليها من تماسكٍ خارجي، كيانٌ ينخر فيه العدم كما وصف جان بول سارتر، وتفاحةٌ معطوبة من الداخل على حَــدّ تشبيهه أَيْـضًا.
إنّ الهيمنة عليه لم تأتِ لأنّ العدوّ أقوى؛ بل لأنّ الجسد العربي أضعف، مثلما قال طيب تيزيني: العين لا تُقهر بالمخرز إن لم تكن العين مريضةً من الداخل.
لقد تحوّل الضعف العربي إلى منظومةٍ ثقافيةٍ وسياسيةٍ كاملة، تتمثل في سيادة القُطْرية على حساب الوعي القومي.
كُـلّ قُطرٍ بات يرفع شعار أنا أولًا: مصر أولًا، الأردن أولًا، الكويت أولًا..
وكأنّ الوطن العربي مجموعةُ جزرٍ منفصلةٍ لا يجمعها تاريخٌ ولا مصيرٌ مشترك.
ومن هذا التشرذم وُلد الصلح المنفرد، فبدأت كامب ديفيد لتجعل سيناء أولى من القدس، ووادي عربة لتُقدّم الرخاء الاقتصادي على كرامة الأُمَّــة، حتى بات السلام مع العدوّ الصهيوني بوابةَ "الرضا الغربي" و"جذب السياحة"، لا خيانةً للثوابت ولا طعنةً في خاصرة فلسطين.
رفض العدوّ الصهيوني منذ البداية المفاوضاتِ الجماعيةَ مع العرب؛ لأنه يعلم أن الوحدة قوة، وأنه إن استطاع أن يُجزّئهم تمكّن من فرض إرادته على كُـلّ قطرٍ منفردًا.
وهكذا تحقّق له ما أراد، فكلما ضعف الوعي القومي، قويت قبضته، وكلما زاد التشتت، اتسع الاختراق.
أما مظاهر الاختراق الداخلي فهي كثيرة، تبدأ من تأخّر الإصلاح السياسي والاجتماعي، وتمرّ بتفجير المجتمعات من الداخل نتيجة القهر والفساد، وتنتهي بالاحتراب الأهلي الذي يُحوّل الوطن إلى ساحةٍ لتصفية الحسابات.
وحين يُسدّ أفق التغيير الطبيعي، تنشأ حركاتُ العنف، ويُدفع الشباب إلى الهجرة، ويُعاد إنتاج المعارضة في الخارج تحت مظلةٍ أجنبية، فتُستثمر الدماء العربية في مشاريع الغير، لا في نهضة الأُمَّــة.
ولعلّ اليمن اليوم يُقدِّم نموذجًا صارخًا للاختراق العربي الحديث؛ فقد تحوّل البلد من ساحةِ صراعٍ؛ مِن أجلِ التحرّر والسيادة إلى ساحةِ استقطاب دوليٍّ وإقليميٍّ تُدار بالوكالة.
استُخدمت فيه الشعارات نفسها التي استُخدمت في بلدانٍ أُخرى: “الشرعية”، “التحالف”، “استعادة الدولة”، لكنها كانت في جوهرها بوابةً لاختراق الإرادَة الوطنية وتمزيق النسيج الداخلي.
فبدلًا من أن يُستعاد القرار اليمني من الداخل، جرى تفكيكه باسم الإنقاذ، واستُقطبت قوى داخلية لتكون أذرعًا للقوى الخارجية، فغابت السيادة، وضاعت البُوصلة، وأصبح اليمن عالقًا في حالةٍ مُنهِكة: لا سلمٌ يرسخ، ولا حربٌ تنتهي.
تتبدّل العناوين السياسية، لكنّ النتيجة واحدة: استمرار استنزاف الشعب، وتكريسُ الانقسام، وغيابُ المشروع الوطني الجامع الذي كان يمكن أن يصنع توازنًا في وجه التدخلات.
وهكذا يتحقّق أحد أخطر أشكال الاختراق، حين تتحول قوى الداخل إلى أدوات في يد الخارج، وحين يُستبدل الوعي الوطني بالمصالح الفئوية، فيتحوّل الوطن إلى ساحةٍ مفتوحةٍ للمساومات والوصايات.
لقد رأينا كيف تحوّل الصراع الداخلي إلى أدَاة من أدوات التفكيك.
فلبنان الذي صمد أمام العدوان الصهيوني غرق في انقسامه الداخلي، والجزائر التي واجهت الاستعمار لقرنٍ من الزمان استنزفتها حربٌ أهلية أكلت أبناءها، والسودان الذي كان يُبشّر بوحدة وادي النيل تمزّق بين الشمال والجنوب والغرب.
التاريخ يُعيد نفسه، تمامًا كما سقطت الأندلس يوم تناحر ملوك الطوائف واستعان بعضهم بالأجنبي على أخيه العربي.
ولم يتوقف الاختراق عند السياسة والمجتمع، بل وصل إلى الأرض ذاتها.
فالقوات الأجنبية باتت حاضرةً في أوطاننا: غزوٌ مباشر هنا، وقواعدُ عسكريةٌ هناك، وأساطيلُ ترابط على سواحلنا.
لم يعُد الاستقلال يعني السيادة على الأرض، بل غدا شعارًا يُرفع بينما القرار يُملى من الخارج.
وحين تُستباح الأرض، تُستباح القيم.
فلسطين اليوم نموذجٌ للاختراق المركّب؛ أرضٌ محتلّة، وشعبٌ محاصر، وعدوٌّ يُمعِن في القتل والتجويع، فيما الأنظمة تتذرع بـ"السلام العادل" و"الحوار البنّاء".
هكذا تحوّلت الأحلاف إلى شِراكٍ جديدة، تُصنَّف فيها الدول بين "معتدلة" و"متطرفة"، و"صديقة" و"مارقة"، لتُعاد هندسة المنطقة وفق مصالح المستعمر الجديد.
ومن مظاهر الاختراق أَيْـضًا أن بعض النظم التي كانت تتبنى الخطاب القومي والموقف الصُّلب ضد الاستعمار والصهيونية، عادت لتتبنى خطاب "الاعتدال" والانفتاح على الغرب، متخليةً عن حلم الوحدة والتحرّر.
تغيّر الاتّجاه من الشرق إلى الغرب، من التعاون في السلاح إلى الاستثمار في رأس المال، من خطاب المقاومة إلى تبرير التطبيع.
وتسعى القوى الدولية إلى جذب الأطراف العربية إلى مشاريع عابرةٍ للهوية، كالعولمة الاقتصادية أَو التحالفات الإقليمية الجديدة التي تُفرغ العروبة من مضمونها، حتى بات البعض يُفكّر بربط بحره ببحر العدوّ، ويُهمل ما بينه وبين إخوته العرب.
أما النفط الذي كان يُفترض أن يكون مصدرَ قوة، فقد أصبح سلاحًا بيد غيرنا يُستخدم لحماية مصالحهم لا مصالح الأُمَّــة.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب
* المسيرة نت

