العرب بين العولمة والتجزئة.. هل انتهى عصر الدول الإقليمية؟
السياسية || محمد محسن الجوهري*
من الواضح أن عصر الدول الإقليمية المستقلة التي تفرض سيادتها بمعزل عن التكتلات والتحالفات الدولية قد ولى، ليحل محله عالم تحكمه المصالح الكبرى والتحالفات العابرة للحدود. وما نراه في العالم العربي اليوم يؤكد أن زمن القوميات الجزئية قد انتهى فعليًا، ولم يبقَ منه سوى أطر شكلية تستخدم فقط لحماية المصالح الغربية في المنطقة.
فعلى سبيل المثال، نجد أن بعض الدول العربية منكفئة على ذاتها عندما يتعلق الأمر بالقضايا المصيرية كقضية قطاع غزة، حيث تكتفي بالمواقف الرمزية دون خطوات فعلية لدعم الشعب الفلسطيني، لكنها سرعان ما تصبح جزءًا من المنظومة العالمية عندما يتعلق الأمر بالمصالح الخارجية والتنسيق مع القوى الكبرى. أما في سورية، فقد تحولت القضية السورية منذ عام 2011 إلى ساحة لصراع القوى العالمية، وباتت أطراف الداخل مجرد أدوات تنفذ أجندات خارجية. وعندما تمكن حلفاء واشنطن من الإمساك بزمام السلطة، طُلب منهم عدم التدخل في الشأن الفلسطيني، والتغاضي عن الاحتلال الإسرائيلي لمناطق سورية، بذريعة التركيز على الشأن الداخلي، رغم أن هؤلاء أنفسهم جاؤوا بدعم خارجي ولم يكونوا يومًا معبرين عن مصالح البلاد أو وحدتها الوطنية. بل إنهم امتدادٌ لجماعات لا تعترف بالحدود الجغرافية بين الدول الإسلامية، مما يجعل فكرة "السيادة الوطنية" مجرد شعار فارغ.
في اليمن أيضًا، نرى حكومة صُنعت في أروقة السفارات الغربية، خاضعة بالكامل للأجندات الأجنبية وتتحرك تحت ستار الوطنية لخدمة مصالح الخارج، بينما تفشل في فرض سلطتها الفعلية حتى على المناطق التي تدّعي السيطرة عليها، والتي لا تزال فعليًا تحت قبضة التحالف السعودي-الإماراتي، وهو التحالف الذي يعمل وفقًا لمقتضيات المشروع الصهيو-أمريكي. وما يحدث في اليمن ليس استثناءً، بل هو جزء من نمط عام يعكس كيف فقدت الدول العربية قدرتها على امتلاك قرارها السيادي.
أما على صعيد المواقف السياسية، فإن القومية المحلية والانكفاء على الذات يبرزان فقط عندما يتعلق الأمر بالقضايا الكبرى مثل القضية الفلسطينية. فبينما ترفض الدول العربية التوحد لمساندة فلسطين بشكل عملي، نجدها تبادر للانضمام إلى تحالفات دولية، مثل التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، رغم أن هذه التحالفات تخدم أجندات لا تتفق بالضرورة مع المصالح الوطنية لهذه الدول. وهكذا، تبدو الدول العربية كأنها تفصل بين سياساتها المحلية ومواقفها من القضايا الإقليمية، بحيث تتبنى خطابات وطنية داخل حدودها، بينما تخضع بالكامل لمتطلبات القوى الكبرى في القضايا الخارجية.
إننا نعيش في زمن أصبحت فيه الكيانات الصغيرة بلا قيمة حقيقية، حيث تحول العالم إلى قرية موحدة بفعل العولمة بفضل الإعلام، والشبكة العنكبوتية، ومواقع التواصل الاجتماعي. ولم يعد من المنطقي أن تنعزل أي دولة عن محيطها، خصوصًا الدول العربية التي تعتمد على الاستيراد في كل شيء، من الغذاء إلى الملابس الداخلية. وهذا ما يجعل الحديث عن "الوطنية" من قِبل بعض القادة مجرد نكتة لا يصدقها أحد، لا في الداخل ولا في الخارج.
لكن العولمة التي غيّرت كل شيء لم تنجح في تجاوز القضية الفلسطينية، فهي الوحيدة التي لا تزال مستثناة من هذا النظام العالمي، إذ يُراد لها أن تبقى معزولة، يعاني شعبها الأمرَّين من الاحتلال والحصار. ويكاد العرب لا يتذكرون أنهم كيان واحد إلا عندما يكون الحديث عن فلسطين، وعندما تتناول وسائل الإعلام معاناة الفلسطينيين، تراهم ينظرون إليهم كأنهم غرباء، وذلك لأن القضية الفلسطينية تذكرهم بمسؤولياتهم التاريخية والدينية التي يحاولون التهرب منها. ولهذا السبب، يُراد للفلسطينيين أن يظلوا في وضعهم الراهن إلى أجل غير مسمى.
إن العالم العربي يواجه تحديًا وجوديًا يتمثل في فقدان القرار المستقل والخضوع لإرادات القوى الكبرى. ولم يعد هناك مجال للحديث عن السيادة الوطنية في ظل التبعية الاقتصادية والسياسية المتزايدة. وما لم يدرك العرب أن مصيرهم مرتبط بمصير بعضهم البعض، وأن قوتهم تكمن في وحدتهم لا في تجزئتهم، فإنهم سيظلون أداة لتنفيذ مخططات الآخرين. إن القضية الفلسطينية ليست مجرد اختبار للمواقف، بل هي المعيار الحقيقي لقياس استقلالية القرار العربي. وإذا استمر هذا النهج من التجاهل والتبعية، فإن الدول العربية ستبقى رهينة لعبة المصالح الدولية، بلا وزن أو تأثير حقيقي في مجريات الأحداث.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب