القوة الصاروخية.. ركيزة اليمن لتحرير الإرادة وضمان المستقبل
السياسية || محمد محسن الجوهري*
لقد دفعت اليمن ثمناً باهظاً لسياسات الخنوع والتبعية التي فرضها عملاء الخارج عبر عقود، فتحوّل البلدُ إلى ساحةٍ للصراعات المُدمرة، وضاعت حقوق الأجيال تحت وطأة الفقر والضعف. لكن الصحوة جاءت متأخرةً وحاسمة؛ فبعد أن أدرك اليمنيون أن السلام الحقيقي لا يُستجدى، بل يُفرض من موقف قوة، انطلقوا لبناء ترسانةٍ عسكريةٍ متطورة، جعلت من الصواريخ الباليستية والمسيّرات سلاحاً للردع والحماية.
لم تكن الصواريخ اليمنية مجرد أدوات حرب، بل تحوّلت إلى رادعٍ استراتيجيٍ غيّر معادلات القوى في المنطقة. فبفضل دقتها وتأثيرها، تمكّن اليمن من إجبار التحالف السعودي - الإماراتي على التراجع عن عدوانه، بعد أن جعل مصالحهما الحيوية تحت التهديد المباشر. كما أجبرت هذه القوةُ واشنطن وحلفاءها على إعادة حساباتهم، ففشلت في تشكيل تحالفٍ إقليميٍ لحماية سفنها، بل باتت مصالح "إسرائيل" نفسها - لأول مرة - في مرمى النيران، مما هزّ أسطورة الأمن الإسرائيلي وأعاد الأمل لفلسطين.
هذه القوة لم تكن انتصاراً عسكرياً فحسب، بل قاعدةً صلبةً لاقتصادٍ وطنيٍ مستقل. فبتطوير الصناعات العسكرية، ستُفتح آفاقٌ واسعةٌ لاستثماراتٍ عملاقةٍ في البنية التحتية، وتوطين التكنولوجيا، وتوفير فرص العمل لأبناء اليمن، بعيداً عن شروط المانحين والهيمنة الخارجية. كما ستصبح اليمن - للمرة الأولى - شريكاً إقليمياً فاعلاً، قادراً على حماية ممراته البحرية، والتفاوض من موقع الندية، وفرض وجوده كقطبٍ مؤثرٍ في معادلات الأمن والطاقة الدولية.
بدأت القصة مع ضربات مصفاة "أبقيق" النفطية في 2019، التي أوقفت 50% من إنتاج السعودية النفطي (5.7 مليون برميل يومياً)، وفقاً لتقارير "بلومبيرغ"، مما كشف هشاشة المنظومة الأمنية الخليجية رغم دعمها الغربي. هذه الضربة، وغيرها من الهجمات الدقيقة على عمق الإمارات والسعودية، أجبرت الرياض وأبوظبي على التراجع عن عدوانهما، والدخول في مفاوضاتٍ غير مسبوقة مع صنعاء. حتى واشنطن التي حاولت تشكيل تحالفٍ لحماية سفنها في البحر الأحمر عام 2023، فشلت في إقناع حلفائها العرب، وفق "وول ستريت جورنال"، مما عرّض مصالح "إسرائيل" للخطر، ورفع تكاليف الشحن البحري 300%، بحسب شركة "كلاركسونز".
على الصعيد الإقليمي، غيّرت اليمن قواعد اللعبة. فبعد أن اعترف رئيس الموساد الإسرائيلي "دافيد بارنيعا" عام 2023 بأن صواريخ اليمن تهدد إيلات، هجر 15% من سكانها المدينة، كما فشلت "القبة الحديدية" في اعتراض 70% من الصواريخ اليمنية، مما أجبر 40 شركة طيران عالمية على إلغاء رحلاتها لتل أبيب، بحسب "الغارديان". هذا التوازن الجديد أكسب اليمن مكانةً رمزيةً كمدافعٍ عن القضية الفلسطينية، بينما حوّل عدوه الإسرائيلي إلى كيان مُهدد لأول مرةٍ في تاريخه.
التاريخ يقدم دروساً واضحة: ففيتنام، التي حوّلت حربها ضد أمريكا إلى فرصةٍ لبناء صناعة عسكرية حققت نمواً اقتصادياً بنسبة 8% سنوياً، وكوبا التي صدّرت لقاحاتٍ عالميةً بعد تحويل بنيتها الدفاعية، تؤكد أن اقتصاد الحرب قد يكون بوابةً للنهوض. واليمن اليوم أمام فرصةٍ تاريخيةٍ لتحقيق نقلةٍ مماثلة: فمصانع الصواريخ يمكن أن تتحول إلى مراكز أبحاث للطاقة المتجددة، كما فعلت الصين مع شركة "CASC" الفضائية. وموانئ باب المندب التي تعبر منها 20% من تجارة النفط العالمية، قادرةٌ على جني 30 مليار دولار سنوياً إذا أُحسن استثمارها، كما فعلت سنغافورة.
الخلاصة أن اليمن لم يعد ذلك البلد الضعيف الذي يُدار من الخارج، بل تحوّل إلى لاعبٍ إقليميٍ يُفرض حساباته بقوة الصواريخ وحكمة الاستثمار. فالقوة العسكرية، عندما تُوظف لخدمة الاقتصاد والسيادة، تصنع أمماً قادرةً على اختراق المستحيل.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب