كرامة العرب تبدأ من غزة
السياسية || محمد محسن الجوهري*
كرامة العرب تبدأ من غزة، فلا قيمة لأي مشروع عربي لا يحمل همَّ الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعلى رأسها غزة فمن هناك يُكتب التاريخ العربي الحقيقي والمشرِّف، وما دون ذلك ليس سوى مشاريع زائلة، حتى لو وفَّرت بعض مظاهر الرفاهية الاقتصادية، كما هو الحال في بعض الدول الخليجية، حيث تُسخَّر الأموال لشراء الصمت على حساب الكرامة والحرية، فلا يكون للفرد فيها حقٌّ في أن يعتبر نفسه إنسانًا ذا قيمة ما لم يكن مستعدًا للتضحية بحياته أو مواجهة النفي والتشريد.
وسط هذا الجمود الأخلاقي والتخاذل الرسمي في العالم العربي، برزت غزة كاستثناءٍ مذهل، لتثبت زيف الادعاءات القائلة بأن العرب فقدوا القدرة على الفعل والتأثير. غزة اليوم هي الدليل القاطع على أن العربي قادرٌ على صنع المعجزات إذا تمسك بدينه وثوابته، ولولا صمودها الأسطوري لما بقي معيارٌ يفرِّق بين الحق والباطل في حياة الأمة بأكملها. لكنها مشيئة الله أن يخلق غزة بهذه القوة والكرامة، كما يخرج الحي من الميت، فبفضلها استطعنا أن نميز الخبيث من الطيب، وأن نعرف الرجال من أشباه الرجال، كما قال الله تعالى: "مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ" (آل عمران: 179).
وكان الأولى بالأمة أن تحتفي بهذا النصر الكبير، وأن تلتف حول غزة ورجالها، لكنها سنة الخيانة أن يتآمر الساقطون أخلاقيًا على خيار الأمة، وها هم حكام العار يهرولون إلى أعتاب البيت الأبيض طلبًا لرضا السيد الأمريكي، يباركون الجرائم الصهيونية، بل ويكافئونها بمئات المليارات، بينما غزة تُحاصر، ويُجوَّع أهلها، ويُحرمون من أبسط مقومات الحياة. ولا يمكن تبرير هذا التخاذل إلا بأن النفوس المريضة تنحني طواعية أمام أعدائها، وتستبدل الولاء لشعبها بالولاء للمحتل، ولو كان ذلك على حساب أمنها القومي ومستقبلها.
لكن إرادة الله تجري بما لا يشتهون، فلو كان لمؤامراتهم أن تنجح، لاختفت القضية الفلسطينية منذ عقود لكنها تأبى إلا أن تبقى مشتعلة في قلوب الأحرار. لقد حاولوا طمسها، وحاولوا استبدالها بقضايا ثانوية، لكنهم فشلوا وبقيت القدس رمزًا خالدًا، يؤرق المحتل ويحرّك ضمير كل حر. وكما قال الشاعر محمود درويش:
"ونحن نحبُّ الحياةَ إذا ما استطعنا إليها سبيلا"
أما من انحرف عن هذا الطريق، فإن سنن الله ماضية فيه، وسيرى عاجلًا أم آجلًا أنَّ البقاء للصادقين المخلصين، وأن فلسطين ستبقى قضية الأمة المركزية، وأن غزة ستظل شعلة الكرامة التي تنير درب الأحرار، مهما تكالب عليها الأعداء.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب