"نيويوركر": جنون دونالد ترامب
السياسية – متابعات :
مجلة "نيويوركر" الأميركية تنشر مقالاً للكاتب دايفيد ريمنيك، يتحدث فيه عن كيف ينتهج الرئيس الأميركي دونالد ترامب "نظرية المجنون"، التي تقضي بإقناع العالم أنّه مستعد لفعل أي شيء، وأنه لا يمكن كبح جماحه، وذلك لتنفيذ أجندته، والضغط على الأطراف الأخرى. وذكر المقال التهديد بتطهير قطاع غزة مثالاً على ذلك.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
قبل أكثر من 500 عام، اقترح مكيافيلي، فيلسوف الممارسة السياسية والجمهوريات الحديثة، في كتابه "Discourses on Livy" أنه "في بعض الأحيان يكون من الحكمة للغاية التظاهر بالجنون". ويبدو أن ريتشارد نيكسون، وفقاً لرئيس أركانه هالدمان، قد توصل إلى نتيجة مماثلة، بقوله "أسميها نظرية الرجل المجنون يا بوب. أريد أن تعتقد فيتنام الشمالية بأنني وصلت إلى النقطة التي يمكنني فيها فعل أي شيء لوقف الحرب. وسنخبرهم أن نيكسون مهووس بالشيوعية، ولا يمكننا كبح جماحه عندما يكون غاضباً، وبيده الزر النووي، وسيكون هوشي منه نفسه في باريس خلال يومين متوسلاً من أجل السلام".
ويوم الثلاثاء، ظهر الرئيس ترامب، إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في القاعة الشرقية بالبيت الأبيض، وأعلن أنه يجب إجبار مليوني فلسطيني في غزة على الخروج من القطاع، وأنّ الولايات المتحدة ستستولي على غزة و"تمتلكها". ويبدو أنّ ترامب غير مهتم أن تمثل هذه السياسة تطهيراً عرقياً، فالأخلاق ليست مهمة عندما تكون هناك صفقة عقارية يتعين عقدها.
وقال ترامب: "لدينا فرصة للقيام بأمر قد يكون استثنائياً. لا أريد أن أكون لطيفاً، ولا أريد أن أكون رجلاً حكيماً، بل أريد بناء ريفييرا الشرق الأوسط، وقد يكون هذا الأمر رائعاً للغاية". (الريفييرا: "مكان مشمس للفاسدين"، على حد تعبير دبليو سومرست موغام). وتابع ترامب، مستنداً إلى المجال العقاري: "سنتأكد من أن الأمر يتم على مستوى عالمي". وكما أشار في وقت سابق من اليوم، "ليس من الضروري أن تكون منطقة واحدة، تأخذ مناطق معينة وتبني مساكن ذات نوعية جيدة، مثل مدينة جميلة أو مكان يمكنهم العيش فيه ولا يموتون، لأن غزة تُعد ضمانة بأنه سينتهي بهم المطاف بالموت".
وأعرب نتنياهو عن ثقته في أنّ الخطة "ستمهّد الطريق لتحقيق السلام مع المملكة العربية السعودية والدول الأخرى". في المقابل، أصدرت السعودية بياناً رسمياً رفضت فيه اقتراح ترامب، في حين وافق المؤيدون الأثرياء عليه. وغرد وزير الخارجية ماركو روبيو قائلاً: "إنّ الولايات المتحدة مستعدة لتولي القيادة في غزة وجعلها جميلة مجدداً".
وبينما كان ترامب يتحدث، لم يتمكن نتنياهو من إخفاء ابتسامة عريضة ستسبب له صداعاً في ما بعد. فهو لم يتخيل أن يحصل على هدية أعظم من الرئيس الأميركي أو على غطاء سياسي أكبر في الداخل. كان امتنانه غير محدود، وكان يعرف جيداً كيفية التملّق. فقال لترامب أمام عدسات الكاميرا: "لقد قلت هذا من قبل، وسأقوله مرة جديدة: "أنت أعظم صديق حظيت به إسرائيل على الإطلاق في البيت الأبيض. أعتقد، سيدي الرئيس، بأنّ استعدادكم لتجاوز التفكير التقليدي والتفكير الذي فشل مراراً وتكراراً، واستعدادكم للتفكير خارج الإطار التقليدي من خلال طرح أفكار جديدة، سيساعدنا على تحقيق كل هذه الأهداف".
وأشاد مؤيدو نتنياهو في الصحافة الإسرائيلية، مثل أميت سيغال من "القناة 12"، بهذه التصريحات. كما غرّد إيتمار بن غفير، أحد قادة جناح الضم في السياسة الإسرائيلية، قائلاً: "دونالد، يبدو هذا وكأنه بداية صداقة جميلة". وأخبرني عاموس هالايل، المراسل والمحلل في صحيفة "هآرتس" الليبرالية اليومية: "إنّ جناح اليمين مبتهج. فقد يكون ترامب مضللاً أكثر مما كنت أعتقد، إلا أنه يتمتع بطاقة أكبر من بايدن".
وهذه ليست المرة الأولى التي تصوّرت فيها عائلة ترامب، التي قامت باستثمارات مالية كبيرة في المنطقة في السنوات الأخيرة، غزة كمنتجع محتمل. وفي شباط/فبراير الماضي، قال جاريد كوشنر، صهر ترامب، خلال مقابلة له في جامعة "هارفارد" إنّ "ممتلكات الواجهة البحرية في غزة يمكن أن تكون قيمة للغاية. الوضع هناك سيئ، ولكن من وجهة نظر إسرائيلية سأبذل قصارى جهدي لإخراج الناس من المكان وتنظيفه". لقد انسحب كوشنر من سياسة البيت الأبيض، لكنه لا يزال يعد نفسه خبيراً استراتيجياً كبيراً في شؤون الشرق الأوسط. وفي مقابلته، قال كوشنر إنّ "الاعتراف بشكل استباقي" بالدولة الفلسطينية سيكون "فكرة سيئة للغاية".
وبعد مشاهدة المؤتمر الصحافي الذي جمع ترامب ونتنياهو، تحدتث مع مخيمر أبو سعدة، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر في غزة الذي يقوم بالتدريس هذا العام في جامعة "نورث وسترن"، فقال لي: "أنا مكتئب. لا أعرف حتى ما الذي سيحدث، لكنني أعلم أنّ الفلسطينيين يعارضون هذه الفكرة ويفضلون العيش في الخيام وعلى أنقاض منازلهم المدمرة بدلاً من مغادرة القطاع. ونحن نعلم جميعاً أنّ جارتينا، مصر والأردن، رفضتا هذه الفكرة". ويرى كلّ من العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أنّ زيادة عدد السكان الفلسطينيين في بلديهما تشكل تهديداً ديموغرافياً وسياسياً لنظاميهما. وعلى الرغم من أنّ كلا البلدين وقّعا معاهدات سلام طويلة الأمد مع "إسرائيل"، فإنه من غير الواضح كيف يمكن أن يؤثر اقتراح ترامب وابتهاج نتنياهو بتصريحاته على تلك المعاهدات.
وأخبرني آرون ديفيد ميلر، الدبلوماسي المخضرم ومحلل شؤون الشرق الأوسط، أنّ "رأسه كاد ينفجر" عندما كان يشاهد ترامب. وقال: "خلال 27 عاماً من العمل مع الديمقراطيين والجمهوريين، لم أحضر قط مؤتمراً صحفياً كهذا".
ويدرك ميلر بطبيعة الحال أنّ ترامب يسعى دائماً إلى إحداث صدمة ولعب دور الرجل المجنون، وبالتالي، تخويف منافسيه وتغيير شروط المناظرة. وافترض ميلر أنه ربما سيتبدد كل ذلك. فترامب عادة ما يقول أشياء فظيعة ويراقب كيف تصل إلى المتلقي، وفي كثير من الأحيان، ينأى بنفسه عن الاستفزازات التي أطلقها. (هل سيستولي على غرينلاند؟ وقناة بنما؟ ويجعل كندا الولاية الـ51؟) ربما يعتقد ترامب أنه سيكون قادراً على دعم نتنياهو في الداخل وإثارة ذعر قادة الشرق الأوسط الآخرين وإقناع إيران بالتوصل إلى اتفاق ينهي طموحاتها النووية واستكمال تسوية إقليمية أوسع بالتعاون مع السعودية. أو ربما يكون أداء ترامب الأخير جزءاً من استراتيجية "إغراق المنطقة" بالكثير من الفوضى والخطابات الخادعة، وبالكثير من المقترحات والتعيينات المؤثرة التي يحقق فيها على الأقل بعضاً من أعز طموحاته بينما ينسف الرأس الجماعية للمؤسسة على مدار الساعة.
ومع ذلك، لا بدّ أن يكون هناك ثمن لكل هذا الجنون. وحذر ميلر من أنّه على الرغم من أنّ ترامب قد يتراجع عن اقتراحه بالتطهير العرقي وبناء الريفييرا، فإنّ هذا الأداء "يعكس عقلية رجل غير جادٍ".
لقد اعتبر نيكسون نفسه مفكراً عميقاً في الاستراتيجية العالمية. ومع ذلك، من المهم أن نتذكر أنه، على الرغم من أنه قد أقنع نفسه بأن تصرفه هذا من شأنه أن يُخضع قيادة فيتنام الشمالية، فإن تلك الحرب المشؤومة انتهت بهزيمة أميركية.
إنّ قرار الرئيس باعتماد أسلوب التبجّح وتفعيل نظرية الرجل المجنون، لن يفعل شيئاً لتحقيق سلام دائم في الشرق الأوسط، وسيجلب العار للولايات المتحدة.
* نقلته إلى العربية: زينب منعم
* الكاتب: دايفيد ريمنيك
* المادة الصحفية تم نقلها حرفيا من الميادين نت