السياسية || محمد محسن الجوهري*

رغم تطبيع بعض الدول العربية مع "إسرائيل" في السنوات الأخيرة، فإن تاريخ العلاقات يثبت أن "إسرائيل" تتعامل مع هذه الدول كأدوات تخدم مصالحها فقط. فحينما رفضت بعض الدول استقبال المهجرين الفلسطينيين، بدأ نتنياهو وترامب في ممارسة الضغوط العلنية على هذه الدول في إشارة إلى أن التعاون مع "إسرائيل" لا يعني بالضرورة ضمان الولاء المتبادل، بل قد يتحول إلى ابتزاز سياسي.
كنا نتوقع من الكيان الصهيوني أن يكون ممتناً لشركائه العرب في عدوانه الإجرامي على قطاع غزة، وكان المفترض أن يظهر ناطق الاحتلال وهو يشكر السعودية ومصر والأردن وغيرها من الأنظمة العميلة لـ"إسرائيل"، لكن ما حدث كان مخالفاً لكل التوقعات، وها هو نتنياهو وشريكه ترامب يتندرون على عملائهم ويتوعدونهم بسوء العذاب في حال رفضوا تهجير سكان غزة ورفضوا استقبالهم. وهذا هو البدهي بالنسبة لليهود، فنتنياهو وترامب وغيرهم من قادة الاحتلال لا يرون في الأنظمة التي تهادنهم سوى أدوات مؤقتة، وما إن تبرز عقبة أمام مخططاتهم، حتى يبدأ التهديد والابتزاز، سواء بالتصريحات العلنية أو بالضغوط الخفية. ولعل التهديد بتهجير الفلسطينيين إلى دول الجوار وفرض ضغوط على الحكومات العربية لقبولهم هو جزء من هذه السياسة الابتزازية.
لكن السؤال الأهم: متى يدرك أولئك "الحلفاء" أن الرهان على الاحتلال خاسر، وأن من يبيع وطنه وأمته بثمن بخس، لن يحظى إلا بالخيانة والمهانة؟ منذ نشأة الكيان الصهيوني عام 1948، اعتمد على شبكة واسعة من الحلفاء والعملاء لتحقيق أهدافه التوسعية، سواء من الدول أو الجماعات أو حتى الأفراد. إلا أن العلاقة بين "إسرائيل" وأدواتها لم تكن يومًا قائمة على الشراكة المتكافئة، بل لطالما استخدمت هؤلاء كأدوات مؤقتة لتحقيق غاياتها، ثم ألقت بهم عند انتهاء الحاجة إليهم. وكما كان جزاء المهندس سنمار الذي ألقى به الملك في قاع القصر بعد أن أتم بناءه، فإن من يخدم الاحتلال لا يلقى سوى الإهانة والنكران.
أحد أبرز الأمثلة على هذا النكران هو مصير سعد حداد، قائد ميليشيا "جيش لبنان الجنوبي"، الذي دعمته "إسرائيل" خلال احتلالها لجنوب لبنان. لعب حداد دورًا محوريًا في خدمة الاحتلال حتى أنه أعلن "دولة لبنان الحر" ككيان تابع لـ"إسرائيل". لكن بعد أن انسحبت "إسرائيل" من لبنان عام 2000، تركت عناصر الميليشيا لمصيرهم، حيث تم اعتقال بعضهم ومحاكمة آخرين، بينما عاش الباقون في المنفى بـ"إسرائيل" كلاجئين منبوذين.
وكذلك أنطوان لحد، الذي خلف سعد حداد في قيادة "جيش لبنان الجنوبي"، واصل تعاونه مع "إسرائيل" حتى اللحظة الأخيرة قبل انسحابها عام 2000. إلا أن مصيره كان مشابهاً لسلفه، حيث لم تمنحه "إسرائيل" الحماية التي وعدته بها، واضطر للعيش في المنفى داخلها مع شعور بالخذلان، وانتهى به المطاف كلاجئ لا قيمة له، وعانى من التهميش حتى وفاته.
مثال آخر هو شاه إيران محمد رضا بهلوي، الذي كان أحد أهم الحلفاء الإقليميين لـ"إسرائيل" في الشرق الأوسط خلال النصف الثاني من القرن العشرين. قدمت إيران في عهده دعمًا اقتصاديًا وعسكريًا كبيرًا لـ"إسرائيل"، بما في ذلك إمدادها بالنفط. ومع ذلك بعد الثورة الإسلامية عام 1979م، لم تحاول "إسرائيل" إنقاذ الشاه عندما فرّ من بلاده، ولم تقدم له ملاذًا آمنًا، بل تجاهلته تمامًا بعد أن فقد قيمته الاستراتيجية.
"إسرائيل" لا تؤمن إلا بالمصلحة، وأي تحالف لا يخدم أهدافها بشكل مباشر يصبح عبئًا يجب التخلص منه. ما إن يحقق العميل أو الدولة المطلوب منه، حتى يصبح عبئًا غير ضروري. "إسرائيل" تتكيف مع المتغيرات الدولية، وقد تضحي بحلفائها السابقين لكسب حلفاء جدد. الحفاظ على العملاء يكلف موارد، و"إسرائيل" تفضل التخلص منهم بدل الاستمرار في دعمهم. في بعض الحالات، تفضل "إسرائيل" التنصل من المسؤولية عن حلفائها إذا كانوا متورطين في جرائم حرب أو انتهاكات صارخة.
التاريخ مليء بالأمثلة التي تثبت أن الرهان على "إسرائيل" خاسر، ورغم ذلك، لا تزال بعض الأنظمة والمجموعات تعقد اتفاقات معها ظنًا أنها ستضمن لها الحماية والدعم. لكن كل من سلك هذا الطريق، وجد نفسه في النهاية وحيدًا يواجه مصيره المحتوم دون أن تلتفت إليه "إسرائيل"، ومن يعتقد أنه سيكون شريكًا دائمًا لذلك الكيان الغاصب، عليه أن يراجع دروس التاريخ، لأن الخيانة هي القاعدة، والوفاء هو الاستثناء الذي لم يحدث حتى الآن.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب