شرحبيل الغريب*


للمرة الخامسة على التوالي، في غضون أسبوع، تعيد صفّارات الإنذار، التي دوّت في مدينة يافا المحتلة، رسم خريطة فلسطين في وعي المحتل الإسرائيلي، عندما تردد صداها في العمق الإسرائيلي بعد وصول صاروخ "فلسطين 2" فرط الصوتي، والذي أطلقته القوات المسلحة اليمنية نصرةً لمظلومية الشعب الفلسطيني، وإسناداَ لمقاومته في قطاع غزة، لتؤكد أن فلسطين ليست وحدها.

الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة، التي تطلقها القوات المسلحة اليمنية، تقطع مسافة تصل إلى 2040 كيلومتراً، وتصل إلى قلب فلسطين المحتلة، في غضون 11 دقيقة ونصف دقيقة، كأول بلد عربي يمتلك هذا النوع من الصواريخ، الأمر الذي يجعل هذه الصواريخ، التي تحمل رأساً متفجراً، تحمل في الوقت ذاته رسائل سياسية وعسكرية، تبعث تأثيراً كبيراً في المشهد الساخن منذ عام وأكثر، في مواجهة حرب إسرائيلية متواصلة على قطاع غزة، ساندتها كل قوى محور المقاومة ودوله بأغلى ما تملك، بصورة متوازية أو متفاوتة.

ثمة سؤال يطرح نفسه في هذا السياق: لماذا يقف اليمن مع غزة؟ والجواب هنا واضح وضوح الشمس في وضح النهار، لكن البعض يعيش عمى البصر والبصيرة. هي الأخلاق والقيم والمبادئ، وعلى رأسها فلسطين هي البوصلة. واليمن، كحزب الله في لبنان، وغيره، ساند غزة ووقف معها في وجه الغطرسة الأمريكية الإسرائيلية، وحرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي المستمر، بحق شعب أعزل، ودعماً لمقاومة صامدة عنيدة.

سجل اليمن، كما سجل حزب الله، مواقف محفورة في الذاكرة والوجدان، وكانا صوت فلسطين يوم صمت العالم أجمع، وتخلى عنها القريب والبعيد، فكانا نِعْم السند والحليف، ليؤكد اليمن من جديد أن التهديدات لا تخيفه، وأن معركة إسناد غزة مستمرة وواضحة، وهي ليست خياراً، بل واجب، وأن معركة كسر الهيمنتين الإسرائيلية والأمريكية مستمرة.

ثمة رسائل سياسية وعسكرية متعددة تبعثها صواريخ اليمن التي باتت تصل إلى العمق الإسرائيلي، وتضرب أهدافها بدقة:

الرسالة الأولى: أفسدت الصواريخ اليمنية فرحة نتنياهو وتبجحه مؤخراً بعد أن خرج بصورة استعراضية بنجاحه في القضاء على قوى ودول في محور المقاومة، وتفكيك ساحات المساندة وجبهاتها بعد انهيار النظام في سوريا، وزعمه نجاح "إسرائيل" في فرض شرق أوسط جديد في المنطقة، يصب في مصلحتها ومصلحة حلفائها في الدرجة الأولى، وادعائه أن حماس بقيت وحيدة يمكن تركيعها على طاولة المفاوضات، وانتزاع ما فشلت في تحقيقه على مدار الأشهر الماضية.

الرسالة الثانية: أثبت اليمن، عبر قواته المسلحة، أنه قادر على توجيه ضربات مركزة من صواريخ فرط صوتية، بعد أن روّج نتنياهو مؤخراً أنه لم يعد هناك صفّارات إنذار تدوي في "إسرائيل"، ويجب أن تعود الحياة في "إسرائيل" إلى طبيعتها، ليعود اليمن ويجدد ويثبت معادلة الإسناد من جديد.

الرسالة الثالثة: سجلت فشلاً جديداً لكل منظومات الدفاع الجوية في "إسرائيل"، ومعها منظومة الدفاع الجوي، "ثريد"، التي وصلت مؤخراً خصيصاً لصد هذا النوع من الصواريخ الباليستية.

الرسالة الرابعة: الإصرار على خيار الإسناد للمقاومة والشعب الفلسطينيَّين في قطاع غزة حتى يتوقف العدوان ويُرفع الحصار. وهذا الموقف يدلّل على أن اليمن بمنزلة الظهر الذي لا ينكسر، فلم تُخفه الغارات الجوية ولا التهديدات، وهو ماضٍ في إسناد غزة حتى النهاية.

الرسالة الخامسة: تبعث رسالة واضحة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، مفادها أن المعادلة الحاضرة في هذا المشهد هي معادلة الندية ولغة النار، وأنه عند مهاجمة اليمن لن يبقى أيٌّ من الخطوط الحمر في المواجهة، وستكون المصالح الأمريكية مشروعة كبنك أهداف للقوات المسلحة اليمنية.

الرسالة السادسة: إطلاق هذا النوع من الصواريخ في غضون أسبوع، وما رافقه من تصريحات ومواقف يمنية، مؤشر على احتمال ارتفاع حدة إطلاق مثل هذه الصواريخ وتصاعدها خلال الفترة المقبلة، وضربها مواقع حساسة في "إسرائيل"، على قاعدة، مفادها أن المواجهة مفتوحة وبلا حدود أو أسقف. وهذا يعني أننا أمام ترقب مشهد قد نكون فيه أمام تطورات دراماتيكية ونوعية في المرحلة المقبلة. وهذه الرسالة أكدها الناطق الرسمي باسم حركة أنصار الله في اليمن، وقال بوضوح "إننا سنستهدف العمق الإسرائيلي وكل المنشآت الحساسة، بمختلف مستوياتها، ولا خطوط حمر لدينا في ردنا على العدوان، ولن نلتزم أي قواعد اشتباك مع العدو".

ردود الأفعال في "إسرائيل" تعكس حالاً من الفشل والتخبط والإرباك نظراً إلى نجاح الصواريخ الباليستية اليمنية في الوصول إلى أهدافها، وإظهار العجز في التصدي لها أمام فشل كل منظومات الدفاع الجوية وإحباطها والتصدي لها.

كما أن تأثير هذه الصواريخ في واقع "إسرائيل" كبير، سياسياً واقتصادياً وحتى عسكرياً، وهذا ما يجعلنا نتوقف أمام اعتراف جنرال إسرائيلي سابق في جيش الاحتلال، عقّب على الصواريخ اليمنية الأخيرة، قائلاً إن "اليمنيين جهاديون مؤمنون، ولديهم القدرة على إلحاق الضرر بنا، وقدرتنا على مواجهتهم ليست فعالة بما فيه الكفاية".

ويضيف قائلاً:" لقد فازوا ليس فقط على إسرائيل فقط، بل على السعودية أيضاً، ولم تتمكن من هزيمتهم".

كالعادة، نحن أمام حقائق يصعب إخفاؤها. فالحقيقة الأولى هي أن "إسرائيل" لا تكشف، ومن خلفها إعلامها الذي يخضع لرقابة عسكرية مشددة، الأهداف التي تصل إليها هذه الصواريخ، وكل ما تُظهره إحدى الشظايا لصاروخ مضاد سقط هنا وهناك لتمرير الحادثة، لكن الأمر يُظهر مخاوف من تصاعد الهجمات، ويشير إلى أن الصواريخ الأخيرة، التي ضربت العمق الإسرائيلي، متباينة عن التي كانت تُضرَب سابقاً.

الحقيقة الثانية أكدها اعتراف المتحدث السابق باسم "جيش" الاحتلال الإسرائيلي، بأن الصواريخ اليمنية أصابت أم لم تصب، هي بالفعل تشل "إسرائيل"، والملايين يدخلون الملاجئ، وكل ما فعلناه لم يردعهم، وكذلك ما كتبه المراسل العسكري لصحيفة "معاريف" الإسرائيلية، آفي أشكنازي، الذي قال إن "إسرائيل لا تعرف كيف تواجه اليمن، وعلينا أن نقول بصوت عالٍ إنها غير قادرة على مواجهة تحدي أنصار الله من اليمن. لقد فشلت إسرائيل في مواجهة أنصار الله من اليمن، واستيقظت متأخرة جداً عن مواجهة التهديد القادم من الشرق".

كل ما سبق ليس بعيداً عن الحقيقة، التي اعترف بها المحلل العسكري رون بن يشاي لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، والتي قال فيها إن "هناك صعوبة كبيرة في مواجهة اليمن، وخصوصاً بسبب البعد الجغرافي ومحدودية الموارد الاستخبارية. ومن الصعب تنفيذ عمليات فاعلة لتعطيل وسائل إنتاج الصواريخ والطائرات المسيرة وإطلاقها. وهناك مشكلة رئيسة أخرى، هي أن اليمنيين لا يتأثرون بالضربات، ولا شيء يمنعهم من مواصلة القتال".

الحقيقة الثالثة أن الصاروخ اليمني نجح في تجاوز كل الدفاعات الجوية الإسرائيلية والأمريكية، ولم تستطع التصدي له، وهذا يُعَدّ هزيمة للصناعة الإسرائيلية العسكرية ولأميركا ولسمعتها أمام مرأى العالم ومسمعه.

الحرب مع اليمن تتباين عن أي حرب كانت. "إسرائيل" دخلت فعلياً في دوامة ومستنقع طويلين جداً، بل في حرب استنزاف حقيقية مع اليمن. الجغرافيا المعقدة في اليمن تجعل "إسرائيل" تقف عاجزة أمامها. ‏وفي الحقيقة، فإن "اسرائيل" لا تقرأ اليمنيين بصورة صحيحة، ولا تقدّر بدقة مدى إصرارهم على التحرك ضدها. بمعنى أدق، فإن "إسرائيل" تعيش اليوم ورطة وكارثة بسبب الحرب مع اليمن. والمسألة بسيطة هي أن مستوطني الكيان سيبقون يعيشون طوال أعوام في حياة الرعب، بعد أن تلاشت كل نظريات الردع الإسرائيلي على مدار عام وأكثر في حرب مع حماس وحزب الله، لم تضع أوزارها بعد.



* المقال نقل من الميادين نت ويعبر عن وجهة نظر الكاتب