السياسية:

تتزامن، في هذه المرحلة التاريخيّة الدقيقة، تحوّلات كبرى بمستوياتها الثلاثة الدوليّة والإقليميّة والمحليّة، تقود الولايات المتحدة الأميركيّة وجهها السافر وسط فاعلية دول أخرى قائمة وممسكة بعناصر القوّة أو صاعدة تعي كيف تحجز مكانها ومكانتها وأدوارها في حركة الاجتماع السياسي والاقتصادي والثقافي العالميّ من دون إثارة غبار غليظ أو ضجيج فَجْ.

تتناغم وتتفاعل تلك التحوّلات الظاهريّة المتزامنة، بشكل متسارع، تستنفر معها الخديعة كل ألاعيبها على مختلف الجبهات. ويكاد المرء لا يرفع رأسه حتى تحدث وقائع ذات طابع استراتيجيّ ونوعيّ، أو تكتيكيّ، يأتي من خارج المألوف بنحو مباغت ليسلب الاهتمام ويشدّ الأنظار في مديات زمنية قريبة ومتقاربة. تتشابك بعض الأذرع جذريًا وعضويًا ووظيفيًّا نحو أهداف شاملة محدّدة وواضحة؛ لقد وضع مجرمو العصر مآربهم على درجة مرتفعة من شره التسلّط والاستكبار الذي لا يعرف التوقّف.

ثمة لحظة حضاريّة تعاند فيها الهيمنة الأميركيّة من أجل المحافظة على وضعها واستتباب سيطرتها في قيادة العالم، ولا مانع لديها من أن تهتز دول أو أنظمة حكم أو حكّام أو أن تنشط الإبادة والمجاعة والهجرة القسرية من أجل غاياتها المضمرة والمعلنة؛ فتسوّغ كل وسيلة ببراغميّتها العالية، بينما يتّجه العالم نحو تعدّدية المراكز في جزء حقيقيّ من ديناميّات عميقة وواقعيّة تتحرّك بمسارات أخرى موازية ومتعاكسة، لا تخفى على بصير. إذ لم تعد سياسة الأقطاب تستحوذ على اختزال المشهد ما بعد العولمة والمجتمعات الهشّة والثقافة السيّالة والهجينة ومشاريع القاتل الاقتصادي وتبعات الذكاء الاصطناعي؛ بينما تقع القطبيّة الواحدة على خط معضلاتها وأزماتها نحو تراجع أو أفول، وهي نقطة جديرة بالتأمل.

لذلك؛ تستنفر الولايات المتحدة الأميركيّة كلّ قوّتها، عساها تفرض إيقاعًا ما، يلبّي طموحاتها ويستجيب لمعالجة مأزقها في الثقافة والاقتصاد والمجتمع والسياسة.

في هذا الإطار، وعلى توقيت الممر الهندي، ضرب زلزال في منطقة غرب آسيا من أجل ولادة دمويّة لشرق أوسط جديد خاضع ومستحوذٌ عليه بالكامل، بعد أن مهّد له بمسار معقّد من "السلام" والحروب بأنواعها.

ما الجديد؟
أمران: التحوّل والتزامن. التحوّل عبارة عن حاصل التغييرات الاجتماعيّة الأساسيّة والعميقة، لا سيّما العسكريّة_الأمنيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، والناجمة عن مجمل العوامل والفواعل والطفرات المعرفيّة والأحداث الاستراتيجيّة المؤثّرة والقرارات المصيريّة، وعن صيرورة التاريخ بكليّته إلى واقع جديد. والتزامن هي لحظة التحوّل المشتركة أو الموازية التي تصيب المستويات الدوليّة والإقليميّة والمحليّة في آن، بتفاعل خطير وحاد. هذا ما تفصح عنه مسارات عدة تنشط فيها الحروب والانقلابات والحصار والعقوبات وإعادة تكوين السلطة والفتن والاحتلال والعدوان ومنع إعادة الإعمار وفرض المجاعة والتخيير بين الاستسلام أو النار من أجل القضاء على المقاومة في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران، وكل إرادة تنسجم معها في العالم، أفرادًا وجماعات. وهذا ما يعكسه سلوك "دونالد ترامب"، وهو يطلق جشعه لاستلاب الأراضي وفرض التهجير وإهانة الحكّام واستراداد أموال بمفعول رجعي عجيب، وينفّذ رسومه الجمركيّة، فيستكمل العالم معه لحظة انعطاف يضع الاستقرار العالمي والإقليمي والمحلّي للدول الأخرى أمام مصائرها كرمى لاستعادة العصر الذهبيّ الأميركيّ الموهوم. أمام هذا الواقع؛ ثمّة من يقول إن الدول الكبرى والإقليميّة "مشغولة بهمومها" فيدعو اللبنانيّين - على سبيل المثال لا الحصر- إلى "حلّ مشكلاتهم بأنفسهم"؛ وطبعًا، بإرشاد الناصح الحصيف!

التوصيف الدقيق للواقع يفيد بأن الدول الكبرى والإقليميّة التابعة لها ليست مشغولة بهمومها داخل حدودها، من دون العبث بخارجها، ومن دون ممارسة أقسى الإملاءات لمن يذعن لها، وأقصى العقوبات والحروب والمؤامرات لمن يعقد النيّة على مواجهتها، ومن دون إبداع أثرى عمليات التأثير الإعلامي والاستلاب الثقافي، والسلب الاقتصادي والسطوة السياسيّة بخداع وإبهار مستدام للرأي العام، في تنوّع الأبعاد والأساليب والمصادر والمراحل والمستويات.

لا يختلف اثنان أن منظومة الهيمنة العالميّة، ومنذ تفرّدت الولايات المتحدة الأميركيّة في قطبية آحاديّة، وهي تقف باستكبار على "الهجوم" عساها تهرب من مواجهة معضلاتها الداخليّة العميقة. وفي السياق عينه، يكشف التاريخ أن المهيمِن لا يسود إلّا إذا استسلم له المهيمَن عليه، وإلا فإن الجبروت الأميركيّ ليس قدرًا ويمكن أن يُقاوم، بل ويجب أن يُقاوم بذكاء وإبداع، ونظام وفوضى.

صحيح، أن المنطقة أصابتها تبدّلات جذريّة، وثمة أحداث حصلت تفوق مجرياتها اليوم في تسارعها ورقعتها وضبابيتها أوضاعًا سابقة، لكن هذا لا يعني أنه لم يعد اليوم من نقطة ارتكاز ثابتة في النظام الإقليميّ العربيّ والإسلاميّ، وأن معالم الصراع العربيّ- الإسرائيليّ تبدّلت إلى غير رجعة؛ وأن الدخول إلى مرحلة غير مسبوقة على مستوى العالم والمنطقة ولبنان بات قدرًا! .. والصحيح، أن كثيرًا من مجريات، اليوم، هو جزء من ديناميّات الأمس كانت استشرفته قيادة جبهة المقاومة مبكّرًا وبنحو سديد، فانخرطت في مواجهته وأنجزت انتصارات وموازين ردع خدمت لمدة طويلة. والصحيح، أيضًا، أن المقاومة لم تفقد بعد نقطة ارتكازها ولا قضيّتها ولا مجموعة كبيرة من عناصر قوّتها، وأن الصراع "العربيّ والإسلاميّ" بوجه الأميركيّ- الإسرائيلي اشتد وبلغ مراحل متقدّمة لا سابق لها، إقرارًا بقوة جبهة المقاومة وصمودها الإعجازي الكبير.. بل يمكن القول، إن دخول العالم والمنطقة والأوضاع المحليّة إلى مرحلة غير مسبوقة هو عتبة من الصراع لم تقفل على نهايتها؛ إنما تقع على حافة ملتبسة لا يمكن إنكار خطورتها، كما لا يمكن التسليم لصخبها.

لذلك؛ تقاتل المقاومة إلى جانب حلفائها، ولا يمكن أن تتنازل عن عقيدتها وأمنها القوميّ الوطنيّ وعن وحدة اجتماعها السياسي المقاوم والعام، وهي المستقيمة في مسار إحباطها لمشاريع الهيمنة. ولم يسجّل لها التاريخ أنها ارتضت وقوع "حرب الآخرين على أرضها"، بل واجهت المنظومة الاستكبارية، رأسًا وأذرعًا، وهي تعي مصالح مجتمعها جيّدًا، ولذلك، تقيس دائمًا خطواتها بميزان حكمتها مع التزامها الشجاعة إمساكًا وفعلًا؛ وهي تحدّق بترقّب حذر لتلك التحوّلات المتزامنة بمستوياتها المختلفة، وتراها تهديدًا تكمن فيها فرصتها للقيام بواجب الدفاع من دون الخضوع أو الرضوخ أملًا بنصر ناصع باتت أمانة التضحيات جديرة به.

* المادة نقلت حرفيا من موقع العهد الإخباري ـ عبد الله عيسى