"fpif": الأزمة المضاعفة للسياسة الخارجية الأميركية
السياسية:
موقع "Foreign Policy in Focus" الأميركي ينشر مقالاً للكاتب جون فيفر، يتحدث فيه عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية في عهد دونالد ترامب وجو بايدن، وكيف يمكن أن تكون في حال فاز ترامب برئاسة جديدة أو في حال فازت كامالا هاريس.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرف:
مع اقتراب موعد الانتخابات المقررة في عام 2024، تواجه الولايات المتحدة جدلاً صارخاً حول دور البلاد في الشؤون الدولية. وقد وصفت وسائل الإعلام بشكل عام موقف جو بايدن وكامالا هاريس بالأممي في مقابل وصفها موقف دونالد ترامب بالانعزالي. إذ يُشيد الفريق الحالي في البيت الأبيض بأهمية المعاهدات الدولية مثل اتفاق باريس بشأن تغير المناخ، بينما أمضى الرئيس السابق معظم فترة ولايته في منصبه في محاولة بناء جدار، وحتى خندق، على طول الحدود الجنوبية مع المكسيك لإبعاد المهاجرين غير الشرعيين. وقد شدد كل من بايدن وكامالا هاريس، المرشحة الديمقراطية المحتملة للرئاسة، على أنّ الولايات المتحدة "ستعود" إلى المجتمع الدولي. في المقابل، أصر ترامب على أنّه سيجعل أميركا دولة "عظيمة مرة أخرى"، بغض النظر عما قد تفكر فيه أو تفعله الدول الأخرى.
لكن المرشحين الرئيسين في الانتخابات الرئاسية لا يملكان حقيقة مثل هذه المواقف الواضحة. فقد تبنى كل من بايدن وهاريس الكثير مما يسمى بالمواقف الانعزالية لترامب، ومن ضمنها الرسوم الجمركية الأعلى والسياسات الحدودية الأكثر تشدداً، وراهن الحزب الجمهوري على نسخته الخاصة من الأممية، على الرغم من كونها مجموعة غير ليبرالية. بينما يستجيب مرشحو كِلا الحزبين الرئيسين للقلق المشترك الذي يطارد نخبة السياسة الخارجية في الولايات المتحدة: فكيف يمكن للولايات المتحدة أن تحافظ على هيمنتها العالمية في الوقت الذي تشهد فيه تراجعاً نسبياً في مكانتها؟
ومن غير المرجح أن تتوقف نتيجة الانتخابات الرئاسية على قضايا السياسة الخارجية، بغض النظر عن مدى هيمنة أزمة غزة على العناوين الرئيسة في الوقت الراهن. إذ يميل الأميركيون إلى اختيار رئيسهم على أساس الصفات الشخصية وحالة الاقتصاد الأميركي. إلّا أن نتائج انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر، سيكون لها وقع كبير على مسار السياسة الخارجية الأميركية، على الرغم من تقارب مواقف المرشحين بشأن بعض القضايا الرئيسة مثل التجارة والهجرة.
قلق سائد
لقد أدى التراجع النسبي لقوة الولايات المتحدة منذ التسعينيات - نتيجة صعود الصين وقوى الجنوب العالمي مثل الهند والبرازيل، وتصلب الكتلة غير الليبرالية من الدول التي تقودها روسيا بشكل غير رسمي - إلى توليد أزمتين على مستوى السياسة الخارجية الأميركية. الأزمة الأولى، تتمثل بالقلق المضني الذي يعتري النخبة "العولمية" في واشنطن بشأن قدرة الولايات المتحدة على تصدّر أقرانها داخل النظام الدولي الليبرالي (وما يرتبط به من مخاوف من أن هذا النظام ذاته معرض لخطر الانهيار). وهذا القلق يؤثر بشكل أساسي على الحزب الديمقراطي، على الرغم من أن مجموعة صغيرة من الجمهوريين "التقليديين" وبعض المستقلين يتشاركون هذا القلق.
أمّا الأزمة الثانية، فتتعلق بقدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على مكانتها الاستثنائية في العالم إذ تتميز بتفوقها العسكري، وضوابطها الصارمة على الحدود، واستقلالها في مجال الوقود الأحفوري، وانتهاكها القوانين الدولية. وقد أصبح هذا القلق يسيطر على الحزب الجمهوري الذي استولى عليه دونالد ترامب بشكل مطّرد، على الرغم من أنه يمكن العثور على نسخ منه لدى قادة الحزب السابقين (رونالد ريغان) والقادة المحتملين (باري جولد ووتر). كما يميل بعض الديمقراطيين المتشددين في هذا الاتجاه.
في حقبة سابقة، كانت لعبة شد الحبل في الولايات المتحدة بين هذين التوجهين، العولمة في مقابل الاستثنائية والأول بين متساوين في مقابل التوجه الأول فحسب، تتلخص في تناقض واضح بين الأممية (الليبرالية) والقومية (ضيقة الأفق). إلاّ أن العالم قد تغير في العقدين الماضيين وأضحت القومية غير الليبرالية تهيمن على الجغرافيا السياسية. وباتت السياسات الحكومية في الدول الشيوعية مثل كوريا الشمالية والصين مدفوعة حالياً بشكل رئيس بهذا التنوع في القومية؛ وكذلك الحال بالنسبة إلى الأنظمة غير الشيوعية مثل مصر وأذربيجان، وحتى في الكثير من الأنظمة السياسية الديمقراطية رسمياً مثل السلفادور والمجر. إذ تسيطر هذه القومية غير الليبرالية الآن على مساحة كبيرة من الكوكب منها روسيا، والصين، والهند، وجزء كبير من الشرق الأوسط، وأجزاء من أفريقيا وأميركا اللاتينية، ونسبة متزايدة من الاتحاد الأوروبي. ويؤكد زعماء هذه البلدان حقهم السيادي في فعل ما يحلو لهم داخل حدود بلدانهم، في مقابل تفضيلات القوى المهيمنة والمؤسسات الدولية والمنظمات غير الحكومية الليبرالية. وغالباً ما تعكس برامج هؤلاء "السياديين" مطالب القوى الاستثنائية داخل الولايات المتحدة.
وبالتالي، إذا فاز دونالد ترامب في تشرين الثاني/نوفمبر، فلن يكون قومياً معزولاً يعترض على المجتمع الدولي، بل سيمثل نوعاً جديداً من الأمميين يعمل مع أبناء جلدته حول العالم على مشروع مشترك. وسيكون لديه خيار التعاون مع أصحاب السيادة الآخرين في هجوم واسع النطاق على النظام العالمي المتمثل بنظام التجارة الحرة، والقوانين التي تحكم اللجوء، واتفاق باريس بشأن تغير المناخ وغيرها من الجهود للخروج من عصر الوقود الأحفوري. وسيواجه تعاونه مع قوميين غير ليبراليين آخرين بعض القيود الواضحة، تماماً مثلما واجهت القوى اليمينية المتطرفة في أوروبا صعوبة في التوحد عبر الحدود. كما ستكون هناك اختلافات أيديولوجية (حول "إسرائيل" وروسيا، على سبيل المثال)، ونزاعات تجارية، وصعوبة عامة في الاستثنائيات المتنافسة. ولكن الرغبة المشتركة في إعادة كتابة قواعد نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية قد تساعد هذه الجهات الفاعلة شديدة الاختلاف.
وفي حال فازت البطاقة الديمقراطية في تشرين الثاني/نوفمبر، فإنّ فترة الولاية الأولى لإدارة بايدن تشير إلى أنّ نهج السياسة الخارجية للمرشحة المحتملة كامالا هاريس لن يختلف كثيراً عن نهج ترامب، كما يمكن أن توحي المزاجات الأيديولوجية المختلفة للمرشحين. فعلى سبيل المثال، لم تحافظ إدارة بايدن على الرسوم الجمركية المفروضة على الصين في عهد ترامب فحسب، بل زادتها في عام 2024. وعلى الرغم من أنّ بايدن وهاريس دفعا بأكبر تمويل للطاقة النظيفة في تاريخ الولايات المتحدة، فإن إدارتهما سهلت أيضاً إنتاج النفط والغاز الطبيعي بشكل قياسي، وهو الأمر الذي دافع عنه ترامب أيضاً. كما عززت إدارة بايدن الإنفاق العسكري، وقدمت الدعم العسكري (والدبلوماسي) لـ"إسرائيل" في مواجهتها مع حماس، وأحكمت على القواعد التي تحكم اللجوء على الحدود، وكلها أهداف وُضعت في عهد ترامب.
وكانت هناك اختلافات مهمة بين مواقف إدارة بايدن بشأن هذه القضايا وكيفية استجابة ترامب لها. فالرسوم الجمركية التي فرضها بايدن ركزت بشكل خاص على الصين في حين يفضل ترامب تطبيق الرسوم الجمركية على الجميع. كما أن دعم إدارة بايدن لإنتاج الوقود الأحفوري جاء بشكل جزئي كرد فعل على الحرب في أوكرانيا وضرورة تزويد الحلفاء الأوروبيين بالطاقة "الانتقالية" بالتزامن مع انتقالهم إلى مصادر الطاقة المتجددة. ولم تقدم إدارة بايدن دعماً غير مشروط لحكومة نتنياهو في "إسرائيل" كالذي قدّمه ترامب خلال فترة ولايته. بالإضافة إلى ذلك، تُعد القواعد الجديدة التي وضعتها الإدارة بشأن الهجرة، والتي تقضي بتعليق طلبات اللجوء إذا وصل عدد عابري الحدود إلى أكثر من 2500 شخص يومياً طوال أسبوع، قواعد صارمة وغير قانونية (وفقاً للقوانين الأميركية والدولية)، لكنها لا تصل إلى مستوى خطورة الوعود التي أطلقها ترامب في مناسبات مختلفة والتي تقضي بإغلاق الحدود بشكل كامل وترحيل ما بين 15 إلى 20 مليون شخص غير شرعي من الولايات المتحدة.
أوكرانيا وحلف شمال الأطلسي
هذا وتُظهر القضايا الأخرى تبايناً كبيراً في السياسة. فبالنسبة إلى أوكرانيا، على سبيل المثال، تصورت إدارة بايدن الصراع على أنه مسألة حياة أو موت دفاعاً عن القيم الديمقراطية الليبرالية على حافة أوروبا؛ بينما يجادل ترامب وحلفاؤه بأن الولايات المتحدة، كما قال وزير الخارجية جيمس بيكر ذات مرة عن الحروب اليوغوسلافية في التسعينيات، غير معنية بهذه الحرب. كما حفزت حرب أوكرانيا إحياء حلف شمال الأطلسي الذي حظي بدعم حتى اليمين الأوروبي المتطرف، بدءاً من بولندا (التي لطالما كانت صديقة لحلف شمال الأطلسي) وصولاً إلى إيطاليا (حيث كان الدعم الحماسي لجيورجيا ميلوني أكثر إثارة للدهشة). في المقابل، يواصل ترامب الدفع بخط "تقاسم الأعباء"، الذي لطالما حظي ببعض الدعم في أوساط السياسة الخارجية الأكثر تقليدية، ولا سيّما في أوقات التقشف التي شهدتها الولايات المتحدة.
إنّ الجهود التي يبذلها ترامب لحمل الدول الأوروبية على تغطية المزيد من النفقات الدفاعية لصالح عمليات حلف شمال الأطلسي ليست مجرد مناورة لخفض التكاليف. فبالنسبة إليه، إنّ أي عضو في حلف "الناتو" لا يدفع مسبقاً، فإنه يشجع روسيا على "القيام بكل ما تريده". كما أنّ موقف ترامب "المحايد" من الحرب في أوكرانيا، المشابه لموقف زعيمي أوروبا الوسطى روبرت فيكو من سلوفاكيا وفيكتور أوربان من المجر، يخفي في الواقع تقارباً أيديولوجياً مع التوجهات غير الليبرالية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي ركز على السلطة التنفيذية غير المقيدة، وقمع أصوات المعارضة في السياسة والإعلام، والقيم "المؤيدة للأسرة" التي تؤدي إلى تراجع التقدم في حقوق المرأة ومجتمع الميم.
أمّا مشروع 2025، وهو المبادرة التي تقودها مؤسسة " the Heritage Foundation" لتزويد إدارة ترامب القادمة بمخطط لسنواتها الأربع في السلطة، فيتخذ نهجاً أكثر تقليدية إلى حد ما في التعامل مع حلف شمال الأطلسي والعلاقات عبر الأطلسي.
ويحاول المؤلفون، المنتمون إلى مجموعة متنوعة من المؤسسات المقربة من ترامب، إيجاد أرضية مشتركة بين مواقف الجمهوريين المختلفة تجاه أوروبا حول قضايا دعم تقاسم الأعباء، وتقديم المساعدة لأوكرانيا، ومعالجة النزاعات التجارية مع دول الاتحاد الأوروبي على أساس كل حالة على حدة. وفي إشارة إلى حقائق ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يوصي المؤلفون أيضاً بأن تكون الحكومة الأميركية "أكثر اهتماماً بالتطورات داخل الاتحاد الأوروبي، مع تطوير تحالفات جدد داخل الاتحاد الأوروبي، ولا سيمّا في دول أوروبا الوسطى الواقعة على الجانب الشرقي من الاتحاد الأوروبي، والأكثر عرضة للعدوان الروسي". وهنا، يحث أقصى اليمين في الولايات المتحدة، من دون أن يقول ذلك صراحة، على إنشاء تحالف جديد عبر الأطلسي يقوم على مبادئ غير ليبرالية، تلك التي اعتنقها فيكو وأوربان وحزب القانون والعدالة المنتهية ولايته في بولندا.
إنّ احتمال فوز ترامب في تشرين الثاني/نوفمبر قد دفع بالإدارة الحالية والقوى الأخرى لحلف "الناتو" إلى بذل كل ما في وسعهما لتقديم المساعدة لأوكرانيا. وهي تتضمن إنشاء صندوق بقيمة 100 مليار دولار لمدة خمس سنوات، وستستمر طوال فترة ولاية ترامب بأكملها، في ما يتولى حلف "الناتو" قيادة مجموعة الاتصال الدفاعية الأوكرانية، وهو التحالف الذي ينسق المساعدات لأوكرانيا والذي تديره الولايات المتحدة حالياً. وبطبيعة الحال، يشهد حلف شمال الأطلسي خلافات داخلية أيضاً. فمعارضة المجر لأي شيء يشبه المساعدة المستمرة وطويلة الأجل لأوكرانيا تمثل عقبة كبيرة تماماً مثل رئاسة ترامب. ولكن المجر لا تستطيع أن تعرقل سياسة حلف شمال الأطلسي بالطريقة نفسها التي عرقلت بها حزم المساعدات التي يقدمها الاتحاد الأوروبي.
وفي النهاية، حتى ترامب قد لا يشكل عقبة أمام السياسة الأوكرانية. فعلى الرغم من التأخير في الحصول على قانون للتصويت، أيدت الأغلبية الساحقة في مجلس النواب حزمة المساعدات لأوكرانيا، بما في ذلك الأغلبية الساحقة من الجمهوريين (106 مؤيد، و112 معارضاً). ويجد الجمهوريون الآن المزيد من الشجاعة للدفاع عن أوكرانيا، إذ يقوم رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، مايكل ماكول (الجمهوري عن ولاية تكساس)، بالضغط بقوة على إدارة بايدن لرفع القيود المفروضة على استخدام أوكرانيا للأسلحة الأميركية على الأراضي الروسية. ويشير أداء ماكول إلى أنّه حتى لو فاز دونالد ترامب في تشرين الثاني/نوفمبر، فإن كبار البيروقراطيين في حزبه قد يستمرون في تهميش تجمع "MAGA" (جعل أميركا عظيمة مرة أخرى) بشأن قضية المساعدة الأوكرانية والانضمام إلى الديمقراطيين للتغلب على أي اعتراض رئاسي.
غزة ومنطقة الشرق الأوسط
لقد حافظت الولايات المتحدة على علاقة وثيقة مع "إسرائيل" لعقود من الزمن. لكن دونالد ترامب حوّل هذه العلاقة الودية إلى حد كبير إلى قصة غرامية غير مبررة.
ومن المؤكد أنّ هذا الدعم غير المحدود لـ"إسرائيل" سببه تأثير صهره جاريد كوشنر وممولين أمثال رجل الأعمال شيلدون أديلسون. لكنه نابع أيضاً من التقارب الأيديولوجي بين ترامب ورئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو. فقد تجاوز الرئيس الأميركي عدداً من الخطوط الحمر غير الرسمية ليمنح نتنياهو ما يريده بالضبط: اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل" وبمرتفعات الجولان كأرض "إسرائيلية"، ودعم توسيع المستوطنات "الإسرائيلية" في الضفة الغربية، وانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، والضغط بشكل كبير للحصول على اعتراف دبلوماسي بـ"إسرائيل" من الدول ذات الأغلبية المسلمة في المنطقة.
وقد أرفق ترامب هذه السياسة المؤيدة لـ"إسرائيل" بسياسة معادية للفلسطينيين بشكل علني. فقد خفضت إدارته تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وهو بند في الميزانية دعمته كل حكومة جمهورية وديمقراطية سابقة على مدى 70 عاماً. كما أغلق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن العاصمة، وطرح لأول مرة "خطة السلام" التي تخلت عن فكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة وحوّلت فلسطين إلى كيان مبتور يعتمد بشكل كبير على "إسرائيل".
وبالإضافة إلى تقديم الدعم الكامل لـ"إسرائيل وجيشها" في حرب غزة، فضّل ترامب أيضاً ترحيل الطلاب الذين يحتجون في الحرم الجامعي ضد الحرب "الإسرائيلية".
وقد يبدو للوهلة الأولى أنّ نهج بايدن/هاريس في التعامل مع الصراع هو نسخة خفيفة من نهج ترامب. فقد واصلت إدارة بايدن تقديم المساعدة لـ"الجيش" الإسرائيلي، وواصلت الدفع باتجاه اتفاقات "أبراهام" للحصول على اعتراف دبلوماسي بـ"إسرائيل" (خاصة من المملكة العربية السعودية)، وقدمت الدعم بشكل عام لـ"إسرائيل" في الأمم المتحدة. ومع ذلك، لا بايدن ولا هاريس لديهما تقارب أيديولوجي وثيق مع نتنياهو. وقد حاولت إدارة بايدن الضغط على الحكومة "الإسرائيلية" لتغيير تكتيكاتها في حرب غزة والقبول أولاً بوقف مؤقت لإطلاق النار ثم بوقف أكثر ديمومة.
كما انتقدت السياسة "الإسرائيلية" بشأن المستوطنات في الضفة الغربية وأعادت تمويل "الأونروا"، ووضعت على الأقل الشروط لإعادة فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن. بالإضافة إلى ذلك، اتخذت كامالا هاريس موقفاً أكثر انتقاداً تجاه السياسات اليمينية المتطرفة لحكومة نتنياهو.
وكان الديمقراطيون يناورون للحد من تركيز الولايات المتحدة على منطقة الشرق الأوسط من خلال إنهاء الحروب فيها، وخفض الوجود العسكري الأميركي وإصلاح بعض العلاقات (مع إيران، على سبيل المثال). ويبدو أنّ ترامب مصمم على إبقاء الولايات المتحدة راسخة في المنطقة من خلال تصعيد الأعمال العدائية ضد إيران ومضاعفة دعمه لـ"إسرائيل". هذا ويوصي مشروع 2025 بأن تبدأ إدارة ترامب الجديدة بفرض ضغوط شاملة على إيران، وقطع جميع علاقات الولايات المتحدة مع حلفاء إيران (العراق ولبنان وفلسطين)، فضلاً عن تعزيز العلاقات مع كل من المملكة العربية السعودية ودول الخليج ومصر وتركيا.
وقد يبشر فوز هاريس في تشرين الثاني/ نوفمبر بإعادة النظر بشكل جدي في التحالف مع "إسرائيل"، مدفوعاً بتحوّل في الرأي العام الأميركي. وعند الاختيار بين الليبرالية والصهيونية، فإنّ الكثير من الأميركيين يتخلّون عن الأخيرة. ففي العام الماضي، كشفت مؤسسة "غالوب" (Gallup) لاستطلاعات الرأي أن التعاطف بين الديمقراطيين أصبح الآن يميل نحو الفلسطينيين (49%) بدلاً من "الإسرائيليين" (38%)، وهو انقلاب لم يسبق له مثيل في استطلاعات الرأي. كذلك، فإنّ الفجوة داخل الحزب الديمقراطي تُعد فجوة حادة بين الأجيال. إذ من بين الديمقراطيين الذين تقل أعمارهم عن 35 عاماً، فإن 74% يؤيدون الفلسطينيين مقارنة بـ25% فقط ممن تبلغ أعمارهم 65 عاماً وما فوق. وفي استطلاع أجرته شركة "إبسوس" (Ipsos) العام الماضي، عند السؤال عن الوضع الذي تظل فيه الضفة الغربية وقطاع غزة تحت السيطرة "الإسرائيلية"، قالت غالبية الجمهوريين (64%) والديمقراطيين (80%) إنها تفضل دولة ديمقراطية بدلاً من دولة يهودية (إذا اضطروا إلى الاختيار). وحتى الصهيوني الملتزم مثل هاريس قد يُدفع إلى تبني شروط جديدة بشأن مساعدة "إسرائيل"، فضلاً عن المزيد من المعارضة للسياسات "الإسرائيلية" على المستوى الثنائي وفي الأمم المتحدة، إذا واصل ائتلاف نتنياهو تحوله العسكري المناهض للديمقراطية في السياسة "الإسرائيلية".
وبغض النظر عن الاتجاه الذي ستسلكه العلاقات الأميركية - "الإسرائيلية"، فإن الديمقراطيين والجمهوريين متحدون من الناحية الجيوسياسية. فالشرق الأوسط لم يعد مركز الاهتمام كما كان في السابق، والإجماع في واشنطن يركز بدلاً من ذلك على مواجهة الصين وتقليص نفوذها.
"التهديدات الجديدة" في آسيا
عندما تولى جو بايدن منصبه في عام 2021، بدا أنه سيتراجع عن الرسوم الجمركية التي فرضها دونالد ترامب ضد الصين. وعندما أعلن ترامب عن تلك الرسوم الجمركية، وصف بايدن هذه الخطوة بأنها تعاني "قصر نظر". وقال إنّ ترامب "يعتقد أنّ الصين تدفع رسومه الجمركية ويمكن لأي طالب اقتصاد مبتدئ في ولاية آيوا أن يخبركم بأن الشعب الأميركي هو الذي يدفع الرسوم الجمركية التي فرضها".
وقد كانت قراءة بايدن الاقتصادية سليمة. إذ وفقاً لأحد التقديرات، فقد بلغت الفاتورة التي يتحملها المستهلكون نتيجة الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب 48 مليار دولار، تدفع نصفها الشركات المصنّعة. وبالتالي، سيكون إلغاء هذه الرسوم الجمركية بمنزلة فوز للمستهلكين والمزارعين والعاملين الأميركيين في القطاعات التي تتعرض للعقوبات الصينية المضادة.
بيد أنّ الإدارة لم تفعل الكثير لتغيير سياسة ترامب تجاه الصين. ففي الواقع، تفوق بايدن على ترامب بإعلانه، في أيار/مايو 2024، عن فرض رسوم جمركية إضافية على المنتجات الصينية، بما في ذلك الصلب والألمنيوم وزيادة الرسوم الجمركية على السيارات الكهربائية الصينية بمقدار أربعة أضعاف. فمن جهة، كانت هذه الخطوة سياسية بشكل واضح، في محاولة لكسب أصوات العمال في ولايات منطقة حزام الصدأ المتأرجحة. ومن جهة أخرى، كان بايدن يسبح ببساطة في اتجاه التيار، الذي بات على نحو متزايد وقائياً ومعادياً للصين.
إنّ موضوع احتواء الصين، الذي أصبح جزءاً من الإجماع بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، لا يقتصر على الناحية الاقتصادية فحسب. فقد استمرت إدارة بايدن بالهيكل الرباعي الذي طرحه ترامب لتنسيق السياسات الأمنية بين كل من الولايات المتحدة والهند وأستراليا واليابان. كما واصلت الإدارة رفع ميزانية البنتاغون، وهي زيادة مدفوعة بـ "المنافسة الاستراتيجية" مع الصين، بحسب وزير الدفاع لويد أوستن. فعلى سبيل المثال، ارتفعت قيمة مبادرة الردع في المحيط الهادئ بنسبة 40% في طلب الميزانية الأخير إلى أكثر من 9 مليارات دولار. والواقع أنّ الجزء الأكبر من ميزانية البنتاغون موجّه لمحاربة الصين، بما في ذلك زيادة الإنفاق على القوات البحرية، والإنفاق على البحث والتطوير، والحفاظ على وضع القوات الأميركية (بما في ذلك القواعد) في منطقة المحيط الهادئ.
أما إدارة ترامب، فلن تغير هذه الحسابات. وفي حال حدوث أي أمر، فإن فترة ولايته الثانية ستنتقل من مرحلة احتواء الصين إلى مرحلة تقليص نفوذها. وعلى الصعيد الاقتصادي، يقول مخطط مشروع 2025 إنّ "التعامل مع الصين يجب أن ينتهي، لا أن تتم إعادة التفكير فيه". وعلى الصعيد الأمني، يحث الولايات المتحدة على الانتقال من القدرات "الدفاعية" إلى القدرات "الهجومية" في الفضاء والعمليات السيبرانية.
هذا وتمثل كوريا الشمالية، الحليف الوثيق لكل من الصين وروسيا، أحد استثناءات ترامب. إذ لديه نقطة ضعف تجاه قائدها. وقد اعتقد خلال فترة رئاسته أنه قادر على الحصول على جائزة نوبل كتلك التي حصل عليها عدوه اللدود باراك أوباما من خلال إجراء مفاوضات السلام بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية. وخلال الاجتماعات الثنائية التي عُقدت ثلاث مرات مع الرئيس كيم جونغ أون، لم يُظهِر ترامب سوى سذاجته وافتقاره إلى المعرفة بشأن شبه الجزيرة الكورية. وعلى الرغم من هذه الجهود الفاشلة، فإنه على استعداد للمحاولة مرة أخرى، ولكن هذه المرة بخطة تسمح لكوريا الشمالية بالاحتفاظ بترسانتها الحالية من الأسلحة النووية وتقديم حوافز مالية لها حتى لا تبني المزيد من هذه الترسانات.
وبالنسبة إلى جهاز السياسة الخارجية في واشنطن، فإنّ مثل هذه الخطة تعدّ لعنة، إلا أنّ تحقيق تقدم مع كوريا الشمالية على أسس واقعية من شأنه أن يشكل خطوة مستقبلية مهمة في المنطقة. كما أنّ إقناع اليابان وكوريا الجنوبية بالتوصل إلى اتفاق لن يكون بالمهمة السهلة، وحتى الصين ليست سعيدة بالقدرة النووية التي تمتلكها كوريا الشمالية. وهذه إحدى الحالات القليلة التي يمكن لآراء ترامب غير التقليدية (أو على الأقل دوافعه) أن تقدم مساهمة إيجابية في الجغرافيا السياسية (على الرغم من أنه من غير المرجح أن يحصل على جائزة نوبل لذلك).
مستقبل السياسة الأميركية
لقد التزم كل من بايدن وهاريس بدعم مؤسسات المجتمع الدولي، بينما ستكون إدارة ترامب الثانية أكثر تصميماً على تقويض تلك المؤسسات وحتى تدميرها.
ومن المؤكد أنّ إدارة بايدن تمتلك دوافع استثنائية، وإشارات لتنفيذ تدابير وقائية والحفاظ على التفوق العسكري الأميركي وإدانة المنظمات الدولية (المحكمة الجنائية الدولية، على سبيل المثال) أو رفض تأييد البيانات الدولية (إعلان المدارس الآمنة، على سبيل المثال). وقد لا تكون إدارة ترامب المستقبلية قادرة على الإيفاء بوعدها المتمثل في جعل أميركا عظيمة مرة أخرى (نظراً لواقع الكونغرس أو جهاز السياسة الخارجية في واشنطن).
بصورة عامة، تواجه السياسة الخارجية الأميركية نقطة تحوّل في تشرين الثاني/نوفمبر. وقد يشجع فوز ترامب معسكر السياديين على اتباع مسار المناهضين للاتحاد الأوروبي في التحول من موقف تدمير المؤسسات العالمية إلى التآمر للاستيلاء عليها. وسيبقى المجتمع الدولي موجوداً، ولكن بروح قومية غير ليبرالية متزايدة. كما أنّ فوز الديمقراطيين يعني استمرارية أحد أشكال الأممية الليبرالية، مع احتمال قيام هاريس بتخفيف بعض المواقف غير الليبرالية التي اعتمدها بايدن لأسباب سياسية في العام أو العامين الأخيرين من ولايته. وقد تكون هناك فرصة لاتباع نهج أكثر تطرفاً يتضمن التسوية مع الصين والمزيد من القبول لسياسات العدالة المناخية في الجنوب العالمي، والمزيد من الرفض للعناصر الليبرالية الجديدة في التجارة الحرة.
في الخلاصة، يَعد ترامب بإحداث اضطراب جذري، في حين تعرض هاريس الاستمرارية مع بعض التعديلات. ومع ذلك، لم يتناول أي من المرشحين بشكل أساسي المخاوف المزدوجة التي تسود مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية المتعلقة بمكانة الولايات المتحدة في العالم. فقد زادت هشاشة الهيمنة الأميركية، في حين أصبحت الاستثنائية الأميركية غير مقبولة على نحو متزايد. وبصرف النظر عن نتيجة الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/نوفمبر، فإنه يستحيل على السياسة الخارجية الأميركية أن تغير التراجع النسبي في قوة الولايات المتحدة في عالم متعدد الأقطاب وغير ليبيرالي أكثر من أي وقت مضى.
* المادة نقلت حرفيا من موقع الميادين نت ـ جون فيفر