السياسية:

منذ7 أكتوبر 2023 يعيش العالم على وقع انقسامٍ حاد في الآراء والمواقف، بحيث ينقسم إلى مجموعتين: واحدة تناصر الفلسطينيين وتدعمهم وتراهم أصحاب حقٍ ومقاومة، ومجموعة أخرى تناصر المشروع الصهيوني، وترى في حركات المقاومة التحررية “إرهاباً” يجب أن يُعمل، ليس على مواجهته فحسب، بل على إبادته.

حاولت “إسرائيل” في الأيام الاولى لعدوانها، أن تضلّل المجتمع الغربي على المستوى الإعلامي، فاشتغل إعلامها على تسويق أحداث غير صحيحة، وفبركة قصص خيالية، كاتّهام حماس بقطع الرؤوس وإحراق الأطفال وقتل المسنّين، وهي بروباغندا بكائية لم تنطلِ على كثيرين، لكن الرئيس الأميركي جو بايدن صدّقها مع فريقه وإعلامه، ليعودوا بعد أيام ويعتذروا عن تصديق الكذبة، في موقفٍ محرجٍ لرأس السلطة والبلاد والإعلام الأميركي برمّته.

هذا التضليل وما رافقه من شكوك، ثم تدفّق الصور والفيديوهات حول حجم الانتهاكات الصهيونية ضد الفلسطينيين، دفع كثيراً من الناس في أميركا وأوروبا، لإعادة تمحيص الصور الذهنية المتعلقة بقضية فلسطين، ونقد اتجاهاتهم السياسية والاجتماعية والمعرفية.

هل “إسرائيل” على حق؟ وهل الفلسطيني إرهابي ومتوحش فعلا؟ لم تكن الإجابة بحاجة إلى بحثٍ مطوّل، لأنّ يوميات الحرب على غزة أظهرت كل شيء بوضوح تام.

احتجاجات علنية مستمرة

بدأت الاحتجاجات في المجتمع الأميركي (مباشرة بعد7 أكتوبر) في أرقى الجامعات وأهمّها، إذ شهدت جامعات هارفرد وكولومبيا وستانفورد ونيويورك وبنسلفانيا ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا وغيرها، وقفات تضامنية مع غزة، تدين العنف الصهيوني والتسبّب بمقتل الأطفال والنساء وتهجير العائلات، ما أدّى إلى خلافات بين الطلاب والأساتذة والمسؤولين الإداريين، تسببت في جدلٍ ساخن سياسياً وإعلامياُ، وكلّفت البعض خساراتٍ مهنية وتهديدات بالإيذاء المعنوي والجسدي، ما جعل كثيرين يطلقون عليها تسمية “المكارثية الجديدة”.

امتدت الاحتجاجات من الجامعات إلى المتاحف والمؤسسات الثقافية والأدبية، فعدد الشهداء الفلسطينيين (الذي قارب الـ 25 ألفاً في غزة) أجبر العديد من الفنانين والكتّاب على التحدّث علناً ضد الوحشية العسكرية الصهيونية. رافق هذه التحركات الاحتجاجية، انقسامات حادة في الرأي والمواقف، بين من يدعم القضية الفلسطينية ويطالب بوقف المجازر والإبادة التي تمارسها “إسرائيل”، وبين المدافعين عن “إسرائيل” وسياساتها العنصرية والدموية. ربما للمرة الأولى يشاهد العالم الغربي، تحركاتٍ غير مسبوقة لجماهير غاضبة، تلوّح بأعلام فلسطين وصور ضحاياها من الأطفال والنساء وكل شعارات الإدانة ضد الكيان الصهيوني.
وفي اليوم المئة على حرب غزة، وقف زهاء 400 ألف متظاهر أمام البيت الأبيض، يرفعون أعلام فلسطين ويطالبون بحريتها، ويلوّحون بصورة “أبو عبيدة”، لتذهب جهود اللوبي الصهيوني عبر التاريخ أدراج الرياح، فالاحتجاجات كشفت عن الوجه الحقيقي للكيان الصهيوني، الذي قد يكون من المستحيل، إعادة العمل على ترميم صورته وجعلها مقبولة عالمية.

التحوّل في التفكير والبحث عن المعرفة

ما يحصل في الجامعات والمؤسسات الثقافية والأدبية منذ 7 تشرين الأول الماضي، يشكّل تحديات لكيفية التعامل مع خطاب الكراهية ومعاداة السامية، الذي أثارته الحرب الإسرائيلية على غزة.

انتبه كثيرون أن الصراع الفلسطيني الصهيوني ليس حديثاُ، بل يمتد لـ 75 عاما، بينها 17 عاما من الحصار لقطاع غزة، وأن أساس المشكلة هو الاحتلال وليس العملية التي بدأت في 7 أكتوبر، ويوجد اليوم أجيال جديدة في المجتمعات، تتابع وسائل الإعلام الجديدة ووسائطها المتنوعة، وتهتم بما يتعلّق بجرائم الحرب الصهيونية، بطريقة تمحيصية أكثر، تشمل المتابعة والتدقيق والنقد. هذه المعرفة المخالفة للتوجّه الصهيوني الحقيقي، جعلت “إسرائيل” تشهر سلاحها الاتهامي الوحيد “إنهم يعادون السامية”، وهو السلاح نفسه الذي استعملته ضد المفكر الفرنسي روجيه غارودي، في تسعينات القرن الماضي، لأنه تجرّأ وشكّك بحثياً وفكرياً، بموضوع المحرقة النازية/الهولوكست وضحاياها المزعومين.

اليوم لم تعد تهمة العداء للسامية تخيف أو ترعب البعض، لأن الوقائع أثبتت زيفها، خصوصا بعد مثول “إسرائيل” في محكمة العدل الدولية في لاهاي بتهمة الإبادة العنصرية، وبعد فشل الجامعات والمحافل العلمية بتعريف الحد الفاصل بين حرية التعبير وخطاب الكراهية.

كذلك، تعرّضت الجامعات الأمريكية والمؤسسات الثقافية الأوروبية للابتزاز من الداعمين والمموّلين، لأنّ الكثير من الصروح العلمية والثقافية تعتمد على التبرعات، التي يفترض ألا تكون مشروطة، ولكنها مشروطة بالقوة من اللوبي الصهيوني.
هذا الأمر المستجدّ بعد الحرب على غزة، وضع الجامعات، والمؤسسات الفكرية والأدبية، والمتاحف، والمنظمات الثقافية والفنية، في أميركا وأوروبا، أمام معضلة دقيقة، إذ ترى نفسها اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما القبول الذليل بأموال الداعمين لـ “إسرائيل”، أو رفض هذا التمويل المشروط والسماح للطلاب والأدباء والفنانين بالتعبير عن مواقفهم المؤيدة للقضية الفلسطينية ولحقوقها مقابل المزاعم الإسرائيلية الكاذبة.

ما الذي أفرزته أحداث غزة من تحوّلات؟

لأول مرة في التاريخ المعاصر، تشهد المجتمعات غضباً من زيف القيم الغربية ولا جدواها، فقد انهارت المنظومة القيمية التي كانت تستند إلى مفاهيم مثل “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” و”المساواة الاجتماعية والإنسانية” و”حقوق المرأة والطفل”، وانهارت أيضا المنظومة التشريعية ومواثيق القوانين والعدالة الدولية، التي لم تستطع توفير أي حماية أو أي حق لأي مواطن فلسطيني في غزة. بات واضحاً أن القيم الإنسانية والأخلاقية لا وجود لها مع الهمجية الصهيونية والإجرامية ضد الشعب الفلسطيني، لأن القمع الصهيوني تفوّق حتى على نفسه، في أساليب القتل والإبادة الجماعية، التي يراها العالم مباشرة على الهواء ويصمت.

المجتمع الغربي وإعادة التفكير

طالما يصنّف السياسيون الغربيون عملية المقاومة التي جرت في 7 أكتوبر/تشرين الأول على أنها “هجوم وحشي شنته حماس على “إسرائيل” فإن الوقائع السياسية يصعب تغييرها، خصوصا مع الأخذ بعين الاعتبار، تصريحات أمين عام الأمم المتحدة غوتيريش الذي تكلّم في بدايات الأحداث بصراحة، عن السياق التاريخي والمعيشي الذي يعيشه الفلسطينيون، معتبراً ان الاحداث لم تأت من فراغ، فشُنّت عليه الحملات والأكاذيب وتعرّض لضغوطات، أدّت الى اتهامات له، وتهديدات للأمم المتحدة. بعد مرور أكثر من مائة يوم على العدوان يتحدث القادة الأميركيون عن “الاعتداءات الفلسطينية” على الصهاينة “الأبرياء والمظلومين” كما تراهم العقلية الأميركية الحاكمة.

ولأنَ مواقف أهل السياسة لا يعوّل عليها كثيرا كما دلّت التجارب، أصبح من الضروري الالتفات وبقوة، إلى التحركات الموازية، التي تقوم بها الشرائح الاجتماعية، من طلاب ونقابات وكتّاب وناشطين ومؤثرين.

هذه المستجدات التي تعرّف عليها العالم بعد حرب طوفان الأقصى تسهم اليوم بتشكيل وعيٍ فكريٍ وسياسيٍ جديد، إذ يقف جزء من الشعب الأميركي مثلا، ليعيد صياغة أفكاره ومواقفه، لأن الإدارة الأميركية من رئيسٍ ووزراء ومسؤولين، يقفون جميعاً إلى جانب “إسرائيل”، ويعملون لتقديم مساعدات عسكرية ولوجستية لها أولاً، ولأن هذه الإدارة مارست حق النقض/الفيتو، لمنع أي وقفٍ لإطلاق النار على الفلسطينيين في غزة ثانياً، ولأنَ المظلومية الفلسطينية ظاهرة للعيان ثالثا، وبالتالي قد يظهر التغيير في تشريعات قادمة أو في انتخابات منتظرة.

المعاناة الصهيونية المستجدة

يعاني الصهيوني اليوم (لأول مرة في تاريخه) من تسويق مصطلحات ضده، مثل “الإبادة الجماعية” و”الإجرام” و “التوحّش الدموي” وغيرها، فقد لاحظ العالم مدى الانزعاج، الذي خرج إلى حد الغضب وفقدان الاتزان والصراخ، كما حصل مع مذيعة سي إن في حوارها مع القيادي الفلسطيني مصطفى البرغوثي، وصولاً إلى كلام نتنياهو الذي وصف الحقائق والوقائع بالنفاق والجيش الإسرائيلي بالأكثر أخلاقاً في العالم، وعُدّ كلامه نكتة كبيرة جدا.

لا ينزعج الصهيوني فقط لأن جزءاً من العالم لا يناصره، بل ينزعج لأن هذا الجزء – الذي يزداد عدداً كل يوم- يناصر فلسطين والفلسطينيين بالتحديد، وقد أشارت بعض المواقف إلى أن الأميركيين الأصغر سناً، هم اليوم أقل ميلاً لدعم “إسرائيل” من كبار السن، ويفكرون بشكل أكثر إيجابية تجاه الشعب الفلسطيني، ووفقا لبعض الاستطلاعات، فإن هذه الفجوة في التعاطف بين الأجيال الأمريكية آخذة في الاتساع.

يعاني العقل الصهيوني بعد حرب غزة ونتائجها من تحوّل صورته، لأنه يرى ثورة الطلاب أو اعتراضات الأدباء واحتجاجات الفنانين، الذين يعملون ويدرسون في مؤسسات يموّلها هو ويدعمها منذ تأسيها، ورغم كل ذلك انقلبوا ضده، ولم يتبقّ الصهاينة إلا أن يدافعوا عن مواقفهم الإجرامية باعتبارهم “ضحية بريئة” للإرهاب الفلسطيني، ولو اضطرهم هذا الدفاع إلى الكذب والنفاق والوقاحة في القول والاتهامات (كما حصل في الردود الصهيونية الغاضبة ضد جنوب أفريقيا)

لذلك من المطلوب هنا تكاثف هذه التحركات وتعزيزها ودعمها، ولو إعلاميا.

هذا الدعم والتعزيز يتم عبر العناوين التالية:

-متابعة الفعاليات والاحتجاجات المنددة بالإرهاب الصهيوني المستمر في أوروبا وأميركا.

-عدم توقّف التحركات الطلابية والشعبية والقانونية في كل المجتمعات.

-اختراع أنواع جديدة من الدعاية العكسية التي تفضح التضليل الصهيوني والفظائع التي يرتكبها.

-عدم توقف التحركات بعد انتهاء الحرب العسكرية لأن الحرب مع “إسرائيل” حرب وجودية.

استشراف المآلات الثقافية والمعرفية والسياسية المترتبة على هذه التحولات

أصبحت المجازر الصهيونية المرتكبة في غزة، مصدرا للاحتجاجات والمواقف العالمية بشكل لم يسبق له مثيل. وأدّت إلى تحطيم الصورة الشائعة والمتداولة عن “إسرائيل” بأنها قوة عظمى، وأن جيشها “لا يقهر” ولا يمكن منافستها ولا مجاراتها وبالتالي يستحيل الوقوف بوجهها أو تحدّيها.

وإذا صحّ أن يقال، إن لهذه الحرب الشرسة وجها إيجابياً خفيّاً، فهو الإثبات بالدليل القاطع أن قضية فلسطين التي بدأت قبل 75 عاما، لا تزال قضية حيّة في نفوس الشعوب وعقولهم، دون حكامهم وقادتهم، فلا هي نُسيت ولا اندثرت كما نظّر بن غوريون وغولدا مائير يوما ما ” كبارهم يموتون وصغارهم ينسون”.

من أهمّ التحوّلات التي نتجت عن الفظائع الصهيونية، في حرب الإبادة الشاملة لأهالي غزة وسكانها، أنها لفتت العالم كله من جديد، لهذا الكيان العنصري القائم على الإجرام الدموي وقتل الأطفال وتدمير الحياة وقطع المياه والأكل عن الفلسطينيين، ما أدّى إلى المحاكمة الدولية في لاهاي للكيان الصهيوني على جرائمه، بعد الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضده، بتهمة الإبادة العنصرية والجماعية.

من أهم التحوّلات العالية أيضاً، إعادة المراجعات الفكرية والمعرفية في مجالات التشريع والقوانين الدولية وحقوق الإنسان، التي تنتهكها “إسرائيل” كل لحظة بدون أي رادع.

فماذا فعلت كل التشريعات الإنسانية؟ وكل قوانين المحافل القضائية الدولية؟ وماذا قدّمت كل الأعراف والمواثيق؟ لشعبٍ لأعزل ومحاصر يتعرّض للقتل الممنهج الذي يطال النساء والأطفال والمسنّين، والصحفيين، والأكاديميين، والأطباء، والممرضين، والمواطنين العاديين…..

اليوم في العام 2024 ينتبه العالم كلّه إلى كيان استيطاني، يمارس علناً الإبادة والتطهير العرقي، الذي قامت به السلالات الاستعمارية في القرن التاسع عشر وما سبقه، من دون أن يستطيع أحد إيقافه او مواجهته، لكن طريق النهاية بدأت، وما الجموع المليونية الغاضبة التي تجوب عواصم العالم، إلّا الدليل القاطع على هذا التحوّل الغاضب الذي كسر حواجز الرهبة من الفكر الصهيوني الإرهابي.

* المصدر: موقع الخنادق
* المادة نقلت حرفيا من المصدر