المعركةُ الثقافية.. حربٌ ناعمة
عبدالرحمن مراد
لقد وصلنا إلى مرحلة تاريخية فاصلة في اليمن لا بُـدَّ لنا من الوقوف أمامها بقدرٍ واعٍ من المسؤولية الأخلاقية والمعرفية، فالصراع اليوم لم يعد صراعاً عادياً، بل يستخدم سيل المعلومات للوصول إلى أهدافه، وقد تكون أهدافه هدم المفاهيم وتغيير المصطلحات وتفكيك النظم المعرفية حتى يصل الخصم إلى حالة التيه، ولذلك فالانتصار في مثل معارك اليوم يبدأ من خلال ضبط المفاهيم وتحديد أبعادها النفسية والأخلاقية والمعرفية فهي محك القيمة الفردية والمجتمعية ومحك المواطنة الحقة من غيرها، كما أن السلاح التقليدي لم يعد كافياً وحده في إدارة المعارك، فالفنون كما في الحالة التركية تدير مشروعاً استعمارياً توسعياً ناعماً تستخدم الدراما فيه والسياسة والاقتصاد؛ وها هي تتمكّن من تثبيت قدمها في العمق العربي بطرقٍ ناعمة فهي تتواجد في جزيرة سواكن بالسودان دون أن تثير ضجيجاً، وتتواجدُ بقطر بغباء قادة الصحراء العربية، وتتواجد بالبحر الأحمر والعربي برضى المجتمع الدولي، فالصراع اليوم ليس كما في أمسه فهو مختلف جِـدًّا، فالصراع والانتصار فيه يعتمد على قدرة الدول في توظيف الانفجار المعرفي بما يخدم مصالحها، ولذلك فبناء الفرد وتفجير قدراته وطاقاته من أهم الاستثمارات في هذا الزمن وذلك من خلال تحديد مفهوم الوطنية والمواطنة وفق قيم وأسس التطورات الحضارية الحديثة وبما يكفل مواطناً واعياً مستقراً نفسياً واجتماعياً من خلال توفر حاجاته البيولوجية الأَسَاسية ومن خلال شعوره بالعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وهي عوامل تعزز من الانتماء وتشد من العزائم لتفجير الطاقات بصورة إيجابية وليس سلبية.
لكل مرحلة من تاريخ المجتمعات مفاهيمها الخَاصَّة التي تؤطر طريقة تفكير الأفراد والجماعات، وتحدّد هُــوِيَّة وطبيعة العلاقات بينهم، ولا تكاد تقتصر جدلية الفكر واللغة على إنتاج مفاهيم جديدة تستجيب للتحولات التي تطرأ على علاقة الفكر بالأشياء وبالعالم، بل تعمل على تحسين المحتوى العام للمفردات وتحسين المفاهيم في اتّجاه توسيع المحتوى الدلالي أَو تضييقه أَو تعديله بشكلٍ من الأشكال.
ولذلك نقول إن المعركة الثقافية اليوم لا تقل شأناً عن المعركة العسكرية، ولا بُـدَّ لنا من خوض غمارها بقدرة كبيرة من الوعي بمجالاتها حتى نحقّق الانتصار الذي نرغب، ما لم فنحن ندور في دوائر مفرغة لا قيمة لها في الواقع ولا أثر لها في المستقبل، فدوائر التطور متعددة وتشمل إلى جانب الدين العقل والفن، ولا بدَّ من التوازن بين الدوائر حتى لا تطغى دائرة على أُخرى فيكون الصراع تعبيراً عن النقص لا استقراراً عبر توازن الكمال بينهم.
وبالوقوف عند الإشكالية التاريخية نرى أنه من الضرورة بمكان قراءة التاريخ بمنهجية جدلية وبرؤية تفكيكية قادرة على بعث الروح في الذات المنهزمة فينا، كي تستعيد وعيها بمقوماتها التاريخية والحضارية، وبحيث تتمكّن من تسجيل حضورها في العصر الحديث، بوعي أكثر تطلعاً وأكثر تقدماً وأكثر إنتاجاً، بعيدًا عن روح الغنيمة والصحراء.
فالبناء الجديد قد يتطلب هدماً في أحايين كثيرة حتى يكون البناء الجديد أكثر قوة وأكثر متانة في مقاومة عوامل الطبيعة وتطورات المراحل التاريخية.
فاليمن لم تعد ذات قيمة وجدانية وثقافية في تصورات الناس، ولا تشكل عنصراً فاعلاً وقوياً في بيئة الانتماء والهُــوِيَّة الوطنية والحضارية والتاريخية، فقد رأينا خلال الأحداث التي عصفت بنا منذ 2011م وحتى هذه اللحظة التي نعيش فيها كيف تعامل أبناء اليمن مع اليمن، فهو لم يتجاوز القيمة العددية ثمن بخس دراهم معدودات ومثل ذلك أمر دال على حالة نكوص وجدانية، وحالة شلل وتعطيل في البنية الوطنية، وفي نسيج الهُــوِيَّة والانتماء؛ وهو نتاج عقود من الاستهداف والتدمير بأموال المترفين التي كانت وما تزال تتحَرّك في الجغرافيا اليمنية منطلقة من بعد ثقافي والتزام أخلاقي تجاه مقولة أَو أثر أَو وصية قيل إنها انطلقت من لسان أحدهم في لحظة تاريخية فارقةٍ؛ تحسباً أَو توقعاً أَو استسلاماً لحسابات فلكية، بيد أن مثل ذلك لن يطول به الأمد، فسنن الكون تقول إن المترف الذي تأخذه الأماني إلى أبعد مدى تكون عاقبته هي العظة التي تعظ الغافلين حتى يعودوا إلى رشدهم، وهي الآية التي تعيد التوازن إلى حركة المجتمع وحركة الحياة، فالله وصف نفسه بالعدل ومن العدل أن يعيد التوازن إلى حركة الحياة ولو مدَّ أهل الترف زمناً في طغيانهم يعمهون، فالقضية هنا قضية جوهرية وهي ثابتة في صميم التجربة البشرية من حَيثُ التمادي في الطغيان ومن حَيثُ معالجة الانحراف بالعودة إلى التوازن الذي يريده الله تحقيقاً لخاصية العدل والمساواة، والعبرة لمن يتعظ، ولا أرى إلّا أن مقادير الله كائنة في الزمن الذي نعيش حتى تتساوى موازينه، وثمة رموز وإشارات يتحدث عنها الواقع تومئ إلى قادم جديد، وإلى حالة أجد لا يكون الغرور حاضراً فيها بقدر الحضور الأمثل لإرادَة الله في العدل وفي المساواة وفي الحياة الآمنة والمستقرة.
- المصدر: صحيفة المسيرة
- المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع