المطلوب عربياً لكسر الحصار على سوريا
حسن نافعة*
في الآتي نص مختصر للمداخلة التي قدمتها في “الملتقى العربي والدولي لكسر الحصار على سوريا”..
يمكن النظر إلى هذه القضية من منظورين: ما “يجب” القيام به، وما “يمكن” القيام به. غير أن أياً من هذين المنظورين لا يصلح، في تقديري، لمعالجتها بدقة، خاصة إذا ما جرى تطبيقهما بشكل صارم.
فالمنظور الأول، والذي ينزع نحو المثالية، يبدو متعالياً وغير مكترث لما يجري على أرض الواقع، ما يثير تساؤلات بشأن جدوى تقديم مقترحات غير قابلة للتطبيق، أما الثاني، والذي ينزع نحو الواقعية، فيبدو ملتصقاً أكثر مما يجب بالتفاصيل، ما قد يحجب رؤية الصورة الكلية.
لذا، فربما يكون من الأفضل، عند الحديث عن “المطلوب عربياً لكسر الحصار على سوريا” تبني نهج يأخذ في الحسبان ما يجري على أرض الواقع، لكن من دون الغرق في التفاصيل، مع الحرص في الوقت نفسه على تقديم مقترحات قابلة للتطبيق. تدفعني إلى تبني هذا النهج حالة السيولة التي يمر بها النظام الرسمي الواقع حالياً تحت تأثير تحوّلات دولية وإقليمية عميقة.
فالنظام العالمي يمر الآن بتحوّلات كبرى توحي بأن موازين القوى الكامنة فيه تدفع نحو تغيير القواعد والقيم السائدة فيه وإحلالها بقواعد وقيم بديلة تتسق مع نظام عالمي متعدد القطبية ما زال في طور التشكل. ونظام الشرق الأوسط يمر الآن بدوره بتحوّلات توحي بأن موازين القوى الكامنة فيه تدفع نحو فك الارتباط بقوى الهيمنة الغربية، والبحث عن هامش أوسع من حرية الحركة والمناورة على الساحة الدولية.
ولأن لهذه التحوّلات تأثيراً مباشراً على فاعلية النظام الإقليمي العربي، فمن الطبيعي أن تنعكس بشدة على طريقة تعامل الدول العربية مع الحصار المفروض على سوريا، وهو الموضوع الذي تطمح هذه الورقة إلى معالجته. فقد أسهمت هذه التحوّلات بنصيب وافر في دفع دول عربية عديدة إلى تغيير مواقفها من الصراع الدائر على الساحة السورية، ما عجّل في انفتاحها على القيادة السورية التي ظلت تناصبها العداء لفترة امتدت إلى ما يقرب من 13 عاماً، وأوجد في الوقت نفسه زخماً ساعد مجلس جامعة الدول العربية على اتخاذ قرار بوقف تجميد عضوية سوريا، ومن ثم أصبح الطريق ممهداً أمام المملكة العربية السعودية لتوجيه دعوة رسمية إلى سوريا للمشاركة في قمة جدة التي انعقدت يوم 19 مايو المنصرم.
ولأن الرئيس السوري بشار الأسد بدا شديد الحرص على الحضور والمشاركة بنفسه في هذه القمة، يعتقد كثيرون أن الأجواء السائدة في العالم العربي حالياً تهيئ النظام الإقليمي العربي للدخول في مرحلة جديدة أكثر فاعلية. لكن، إلى أي مدى يعكس هذا الزخم تصميماً عربياً حقيقياً على كسر الحصار الذي ما زال مفروضاً على سوريا؟
للإجابة عن هذا السؤال، ربما يكون من المفيد هنا التذكير بأربع حقائق مترابطة:
الحقيقة الأولى: تتعلق بطبيعة الحصار المضروب حالياً على سوريا. فنحن إزاء حصار غربي، وبالتالي يفتقد إلى الشرعية الدولية، ولسنا أمام حصار عالمي تفرضه المؤسسات الدولية، وإزاء حصار شامل له أبعاد استراتيجية وسياسية، ولسنا أمام حصار اقتصادي ناجم عن عقوبات تجارية.
ولأن بعض الكتاب العرب يميل إلى اختزاله في بُعده الاقتصادي فقط، يسود الاعتقاد أحياناً بأنه يكفي لكسر هذا الحصار إنهاء العقوبات المفروضة بموجب “قانون قيصر”، وهو اعتقاد خاطئ في تقديري، لأن الدوافع من وراء فرض العقوبات على سوريا هي دوافع سياسية في المقام الأول.
صحيح أن “قانون قيصر” هو قانون أميركي، وليس قانوناً دولياً واجب النفاذ، سواء من جانب الدول العربية أو من جانب غيرها من الدول، لكنه يستمد فاعليته وخطورته من خشية الشركات العالمية الوازنة من التعرض لعقوبات مؤلمة إن هي أقدمت على خرقه وعدم الالتزام ببنوده كافة. بعبارة أخرى، يمكن القول إن كسر الحصار المفروض على سوريا يتطلب ما هو أكثر بكثير من مجرد إبطال تأثير العقوبات الاقتصادية.
الحقيقة الثانية: تتعلق بموقف الإدارة الأميركية الحالية من انفتاح الدول العربية على النظام السوري. فمن الواضح أن إدارة بايدن ليست سعيدة بهذا الانفتاح، بل وصل بها الأمر إلى حد التلويح بمعاقبة الحكومات العربية التي تقدم على تطبيع علاقاتها مع نظام الرئيس بشار الأسد. ومن الواضح أن الخشية من اختطاف الرئيس بشار الأسد للأضواء في مؤتمر القمة هو ما دفع إدارة الرئيس بايدن إلى الضغط على السعودية لتوجيه دعوة إلى الرئيس الأوكراني زيلينسكي لحضور مؤتمر جدة وإلقاء خطاب في جلسته الافتتاحية. ولم يكن الهدف الرئيسي من هذا الضغط، في تقديري، مجرد الرغبة في انحسار الأضواء عن الرئيس بشار الأسد وإنما إرسال رسالة مفادها أن المملكة العربية السعودية ستظل تدور في الفلك الغربي ولن تستطيع منه فكاكاً، حتى لو أرادت.
بعبارة أخرى، يمكن القول إن معركة كسر الحصار المفروض على سوريا هي في نهاية التحليل معركة جيوسياسية تدور بين عالم عربي يتطلع إلى الانعتاق من الهيمنة الغربية وبين الولايات المتحدة الأميركية التي ما تزال تصر على هيمنتها المنفردة على النظام العالمي.
الحقيقة الثالثة: تتعلق بحقيقة الارتباط القائم بين هدف كسر الحصار المضروب حول سوريا، من ناحية، والبحث عن حل شامل للأزمة السورية، من ناحية أخرى. إذ يصعب عملياً تصور إمكانية النجاح في كسر هذا الحصار إلا إذا ارتبط في الوقت نفسه برؤية عربية شاملة لحل الأزمة السورية من جميع جوانبها، خاصة ما يتعلق منها بتحرير الأراضي السورية المحتلة وإعادة الإعمار وتوطين اللاجئين. بعبارة أخرى، يمكن القول إنه يصعب فصل البعد الخاص بالحصار الاقتصادي المفروض على سوريا ومعالجته بمعزل عن بقية أبعاد الأزمة السورية، ما يعنى أن الجهود المتعلقة بكسر الحصار يجب أن تسير جنباً إلى جنب مع الجهود المتعلقة بتسوية مختلف جوانب الأزمة السورية.
الحقيقة الرابعة: تتعلق بحقيقة الارتباط القائم بين كسر الحصار المضروب على سوريا وإصلاح مؤسسات النظام الإقليمي العربي. إذ يصعب تصور أن يكون بمقدور النظام الإقليمي العربي كسب معركة الحصار المفروض على سوريا وهو في حالته الراهنة من الضعف والهوان والعجز عن معالجة أي من الأزمات المحتدمة في بلدان عربية أخرى كثيرة، كالسودان وليبيا ولبنان وغيرها. بعبارة أخرى، يمكن القول إن قدرة النظام العربي على كسر الحصار المفروض على سوريا تبدو مرتبطة عضوياً بالقدرة على إصلاح مؤسسات العمل العربي ككل، وهو ما لا يمكن أن يتم إلا من خلال إعادة بناء جامعة الدول العربية نفسها على أسس جديدة.
أخلص مما تقدم إلى أن نجاح الدول العربية في كسر الحصار المضروب على سوريا يتوقف على توافر شرطين رئيسيين:
الأول: وجود إرادة عربية مشتركة قادرة على تحدي المخططات الغربية في المنطقة. فحتى بافتراض أنه يمكن اختزال الحصار المفروض على سوريا في بُعده الاقتصادي، فإن كسره يتطلب من الدول العربية أن تكون في وضع يسمح على الأقل لها بتجاهل “قانون قيصر”، والتعامل معه باعتباره قانوناً أميركياً لا يلزم سوى الحكومة والمؤسسات والشركات الأميركية وحدها، ما يفرض على الدول العربية ضرورة التعامل مع قضية الحصار على سوريا باعتباره قضية أمن قومي عربي تخص النظام الإقليمي العربي ككل، وليس قضية سيادية تخص كل دولة عربية على حدة.
ولأن “قانون قيصر” يقضي بمعاقبة كل من ينتهك بنوده، سواء من داخل الولايات المتحدة أو من خارجها، فلن يكون بمقدور الدول العربية كسر الحصار المفروض على سوريا عملياً إلا في حالة واحدة فقط وهي حشد كل الإمكانيات الاقتصادية التي يملكها النظام الإقليمي العربي وراء هذا الهدف والتصميم على تحقيقه، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار، وكما سبقت الإشارة، أن كسر الحصار المفروض على سوريا غير ممكن عملياً إلا إذا ارتبط برؤية عربية شاملة لحل الأزمة السورية بمختلف أبعادها. بعبارة أخرى، يمكن القول إن نجاح الدول العربية في كسر هذا الحصار يرتبط عضوياً بوجود إرادة عربية قوية للدفاع عن المصالح العربية المشتركة في مواجهة مخططات غربية يدرك الجميع أنها لا تستهدف إضعاف سوريا وحدها وإنما إضعاف العالم العربي كله.
وربما ينبغي لنا أن نتحلى هنا بما يكفي من الشجاعة للاعتراف بأن مثل هذه الإرادة المشتركة ما تزال غائبة. صحيح أن دولاً عربية قوية ومؤثرة، مثل السعودية، بدأت تبتعد عن الدوران في الفلك الأميركي وتتخذ مواقف مستقلة على الساحة الدولية، لكن خطواتها على هذا الطريق ما تزال خجولة، وغير مرتبطة برؤية عربية مشتركة. لذا، يصعب أن نحدد منذ الآن أي طريق سيسلكه النظام الإقليمي العربي بعد أن وصل إلى مفترق طرق واضح.
الثاني: وجود مؤسسات عربية مشتركة قادرة على تفعيل دور النظام الإقليمي العربي. يصعب تصور إمكانية النجاح في كسب معركة كسر الحصار المفروض على سوريا في ظل حالة الضعف المزمن التي يعاني منها النظام الإقليمي العربي في المرحلة الراهنة. صحيح أنه سبق لهذا النظام أن شهد قفزات مفاجئة مكّنته من تحقيق إنجازات ملموسة في لحظات قومية معينة، كتلك التي تحققت إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وكذلك إبان حرب أكتوبر عام 1973، لكن هذه الإنجازات ارتبطت حينها بوجود مشروع قومي قادر على حشد الجماهير العربية وتعبئتها وتحريكها، وهو البعد الغائب في الواقع العربي الراهن. فالعالم العربي لم يعد في حاجة إلى قفزات مفاجئة، وإنما بات في أمس الحاجة إلى حالة يقظة دائمة لمواجهة الأخطار المحدقة به في الداخل والخارج، وهي مهمة لا يستطيع أن ينهض بها سوى مؤسسات عربية مشتركة قوية وفاعلة يصعب وجودها إلا إذا توافقت الإرادات العربية على عملية إصلاح جذري لمؤسسات الجامعة العربية.
لا شك في أن الشعوب العربية رحّبت كثيراً بحالة التهدئة التي تسود الأجواء العربية حالياً، وتفاءلت بانفتاح العديد من الدول العربية على سوريا وبمشاركة الرئيس بشار الأسد بنفسه في أعمال القمة العربية التي عقدت مؤخراً في جدة. ولا شك في أن هذه الشعوب تتطلع فعلاً لتعود سوريا، قلب العروبة النابض، إلى ممارسة دورها المفتقد في النظام الرسمي العربي، ومن ثم تتحمس كثيراً لخوض معركة كسر الحصار المضروب عليها، ومع ذلك واهم من يتصور أنها معركة سهلة وقابلة للحسم على المدى المنظور. فالنظام الرسمي العربي ما زال يعاني من مظاهر ضعف عديدة وتحتاج بنيته المؤسسية إلى عملية إصلاح جذري قبل أن يصبح بمقدوره حسم معركة بهذه الجسامة لصالحه. والشعوب العربية ما تزال في مجملها خاضعة لقوى الاستبداد والطغيان، ومن ثم لا تتمتع بحرية الحركة المطلوبة لتمكينها من الإلقاء بثقلها في الميدان، ما يضاعف من مسؤولية القوى المؤمنة بأهمية دور سوريا العربي وبعدالة القضية الفلسطينية في المرحلة القادمة.
* المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع