حدثني عن زمن النصر
علي عوباني*
حدثني عن أيار عن زمن النصر، عن زمن ولّت فيه الهزائم، لا تحدثني عن عصر النكبات والنكسات ولا عن علقم التسويات وعقيم المؤتمرات. حدثني عن خيار المقاومة العظيم وشلال الدم الذي أنبت نصرًا مؤزرًا ولا تحدثني عن مجتمعات دولية صماء بكماء، تكيل بمكاييل وازدواجية معايير، ولا عن قرارات دولية (القرار 425 الداعي لانسحاب فوري لجيش العدو من الأراضي اللبنانية، والقرار 194 الخاص بعودة اللاجئين الفلسطينيين) أكل الدهر عليها وشرب وبقيت في الأدراج حبرًا على ورق.
حدثني عن البدرين صانعي الانتصارات، عن بدر العماد قائد النصرين، وبدر الدين ذو الفقار البتار بمواجهة الصهاينة والإرهابيين، حدثني عن طيفهما الحاضر كل يوم في فلسطين في غزة ونابلس وجنين، في انتفاضة الأقصى، وسيف القدس ومع كل حجر يرجم به جنود العدو وقطعان مستوطنيه، وكل رصاصة أو صاروخ تدوي معه صافرات الإنذار، خبرني كيف آرّقوا الأعداء وهم أحياء، وأرعبوهم ولا زالوا وهم شهداء؟!.
حدثني عن أيار وكيف أصبح الجيش الغاصب الذي لا يقهر، جيشًا ذليلاً ومقهورًا كل يوم، وكيف أضحى كيان العدو الذي صوّر ببيت من فولاذ، أوهن من بيت العنكبوت. حدثني عن تحرير جنوب لبنان عام 2000، وكيف هرب العدو تاركًا خلفه أكياس رمل جيش لحد أذلاء مصعوقين يتخبطون يواجهون مصيرهم لوحدهم لخيانة الوطن.
حدثني عن نقطة تحول مفصلية، انطلقت في 25 أيار 2000، وكان لها ارتدادات أعادت كل الأمل إلى فلسطين وأبنائها الشهداء والمشردين في أرجاء المعمورة، كيف انتفضوا بحجارة وسكين، وحرروا غزة عام 2005، كيف أضحى القطاع بعد أعوام قليلة جبهة مفتوحة للمقاومة، وقنبلة متفجرة بوجه المحتل، حدثني عن أيار كيف قلب النكبات فصارت انتصارات، عن التحرير كيف طهر رجس التسويات ومؤتمرات الذل والاستسلام في أوسلو ومدريد.
حدثني عن غزة الأبية اليوم كيف صارت شوكة بخاصرة العدو، وهي تقص علينا كل يوم حكاية جديدة من سيف القدس 2021 قاهر “حارس الأسوار”، إلى ثأر الأحرار 2023 محطم “درع وسهم” العدو، وكيف استنسخ هذا الثأر واستفاد من تجربة عدوان عناقيد الغضب الـ1996 على لبنان، حينما انتهى هذه المرة أيضًا بإقرار العدو بشرعية المقاومة، وبتكريس معادلة حمايتها للمدنيين، ولجمه عن تنفيذ الاغتيالات، بعدما كان يسعى للخروج من المواجهة الأخيرة بمعادلة الهدوء مقابل الهدوء، مع ما يعنيه ذلك من أن أي مس بالمدنيين في قابل الأيام سيقابله استهداف المستوطنين، وسيسمح للمقاومة بالتركيز على الأهداف العسكرية ما يكبل يد العدو في الرد عليها، لكونها جزء لا يتجزأ من المدنيين، ملاذها الناس فهي منهم ولهم.
حدثني عن كل تلك التحولات وكيف أصبحت العين التي لا تقاوم المخرز، عين ثاقبة ساهرة على حدود فلسطين وفي قلبها النابض بوعد الخلاص من كيان بات قادته ومنظريه يمنون أنفسهم بأن يكمل عامه الثمانين، وبات مستوطنوه يشدون الرحال وينشدون العودة من حيث أتوا لشعورهم بانعدام الأمن والأمان، وأنهم باتوا محاصرين من مختلف المحاور بالصواريخ التي تجاوزت الكاتيوشيا بقدراتها التدميرية ودقتها النقطوية، ولم تعد تنفع معها لا قبب حديدية ولا “حيتسوية” ولا ليزرية، حدثني عن جيشهم الذي اجتاح بزمانه مدنًا وعواصم كيف لم يعد يجرؤ على الاقتراب من تخوم غزة، كيف صارت مدرعاته و”ميركافاته” صيد ثمين في مرمى المقاومين يصطادونها كالأوز، وكيف يستنزف العدو كل يوم من أبطال الضفة، وفي القدس وسواها بطعن ودهس وإطلاق نار، كيف باتت تهديدات جنرالاته المتعجرفة مجرد كلام فارغ لا يعيره احد اهتمام، وكيف جرى كل ذلك رغم رجحان موازين القوى المادية لصالح الكيان، وكل ذلك بفضل صلابة وإرادة المقاومة، وبفضل الايمان باستعادة الحقوق والانتماء الأصيل والتجذر العميق بالأرض.
منذ 25 أيار 2000 والمقاومة تثبت جدارتها وقوتها يومًا بعد يوم، فتحقق مصداق رؤيتها انتصارات متتالية في لبنان وفلسطين، مستنهضة الشعوب العربية والإسلامية من خنوعها، موقظة فيهم الأمل من جديد بعدما قبعوا في ظلام مسار التسويات الدامس، الذي صار في غياهب النسيان، وأُسروا بوهم قوة جيش العدو واستحالة مواجهته، أو هزيمته، متأثرين بهالة اساطير القوة التي ألبسها لنفسه، ليظهر اليوم على حقيقته، ويتضح أن النصر والتحرير، نصير كل من يخرج نفسه من دائرة جدار أوهام العدو وحربه النفسية، التي يكوي بها وعي شعوبنا العربية والإسلامية، وهذا ما أسس لإنجاز تحرير عام 2000، وهذا ما هو على طريق التحقق أيضًا في فلسطين الأبية عبر عكس آثار النكبة “البن غوريونية” الأولى ومواجهة النكبة “البن غفيرية” الجديدة واستبدالهما بخيار المقاومة والعودة، فحينذاك يصبح النصر والتحرير وزوال “إسرائيل” قاب قوسين أو أدنى.. وإن غدًا لناظره قريب..
* المصدر: موقع الخنادق اللبناني
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع