سوريا والعرب وجامعتهم
أحمد الدرزي *
شكَّل المؤتمر بوابة واسعة لعودة العلاقات السعودية مع سوريا، لتأكيد دور المملكة القيادي الذي تطمح له، وتأكيد حرصها على العمل الجماعي للدول العربية، من خلال مؤسسة الجامعة، وليس بشكل منفرد.
تابع السوريون بمختلف انتماءاتهم السياسية مؤتمر قمة الجامعة العربية، باهتمام بالغ، أكثر من كل المؤتمرات السابقة مجتمعةً، وهم الذين لم يبالوا بكل المؤتمرات السابقة، وخاصةً بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر.
لم يكن هذا الاهتمام الكبير سوى تعبير عن مواقف السوريين المنقسمين على أنفسهم، والذين يطمحون للوصول إلى نهاية مأساتهم، التي امتدت إلى أكثر مما يقدرون على تحمُّله، رغم تباينهم بالمواقف السياسية، ورغباتهم المتنوعة في انتهاء مرحلة سياسية، أم استمرار الوضع الحالي، أو البحث عن صيغة لم تتضح معالمها وحدودها بعد.
وهم بهذه المواقف، لا يراهنون على موقف الجامعة، كمؤسسة حقيقية ناظمة لمجموع الدول العربية، بقدر ما يدركون أنّها أحد المُخرجات المهمة لإعادتهم إلى الحياة الطبيعية، كما كانت منذ 12 عاماً، بعد أن ساهم كثير من دول هذه الجامعة في الحرب في سوريا وعليها، بعد احتدام الصراع الإقليمي والدولي، ووصوله إلى نقطة الانفجار، كمدخل لعالم جديد، قيد الولادة، يدافع عن نفسه لمواجهة عالم قديم، يعمل على منع ولادة نظام دولي جديد.
ورغم الحاجة للعودة إلى الجامعة العربية، فإنّ الوعي العام المتراكم بالتجربة لا يبني كثيراً على دورها المستقبلي، فهي على الرغم من كونها أحد أقدم التجمعات الإقليمية، التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية 1945، منذ أن دعا إلى تشكيلها وزير الخارجية البريطاني أنتوني آيدن، ابتداءً من عام 1941، كإطار جامع يتيح لبريطانيا إبقاء نفوذها، بعد انتهاء الحرب، فإنّ طبيعتها القانونية والتنظيمية لا تتيح للعرب أن يستفيدوا من حجم المشتركات اللغوية والدينية والثقافية والتاريخية ذات البعد الحضاري المشترك.
يأتي هذا الاجتماع في ظلّ أوضاع مختلفة، عن كل الاجتماعات التي سبقته، وخاصةً في العقود الأربعة الماضية، بالرغم من استمرار الانقسامات العربية، التي لم تتغير، بل زادت عليها كارثة السودان بوجهها الجديد، التي تهدد بمزيد من التشرذم، ومزيد من الضغوط على مصر، بالإضافة إلى الانقسام الليبي واليمني والسوري والعراقي.
تأتي قيمة هذا الاجتماع مما وصل إليه الصراع الدولي، بعد أن أثبتت الصين قدرتها على ملء الفراغ الجزئي، الذي حصل نتيجة انكفاء أميركي في منطقة غرب آسيا، وبقية العالم، وكثرة الدول التي تمردت على الولايات المتحدة، بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، ومنها المملكة العربية السعودية، التي بدأت تبحث عن دور مختلف لها، بضمانة الصين، بعد المصالحة مع إيران.
وهي على الرغم من دعوتها الرئيس الأوكراني زيلينسكي كضيف شرف في مؤتمر جدة، بديلاً من الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، الذي كان من المتوقع دعوته، وعلى الرغم من حذف بنود من مسودة البيان النهائي والتي تدعو إلى خروج القوات غير الشرعية من سوريا، ورفض الوجود العسكري التركي في شمال العراق، فإنّ ذلك لا يلغي أهمية ما يحصل من تحولات في الموقف السعودي، بشكل أساسي، بالإضافة إلى الإمارات العربية المتحدة.
طبيعة البيان العمومي الذي عاد إلى لغة التشدد تجاه إيران، والطلب إليها عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، لا يعدو كونه تعبيراً عن حجم الضغوط الأميركية، بعد زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان، ولقائه ولي العهد السعودي في جدة، بالإضافة إلى الضغوط على بقية الدول، ما أنتج بياناً مغايراً للمسودة الأساسية.
من الواضح أنّ العرب لا يستطيعون القفز نحو المستقبل ككتلة واحدة، ما دام أنّهم غير قادرين على بناء نظام إقليمي خاص بهم، لا تستطيع منظمة الجامعة العربية أن تقوم به، ويكفي أن تترافق القمة مع خبر قرار طرد الكويت 1800 مدرس، أغلبهم من المصريين، ومنهم سوريون، من دون منحهم حق الادعاء أمام القضاء الكويتي، للدلالة على غياب الطبيعة القانونية لأغلب دولهم.
بل لم يستطيعوا الوصول إلى إلغاء تأشيرات السماح بالتنقل فيما بينهم، حتى إنّ التنقل بين دولهم أصعب بكثير من تعاملاتهم المرورية مع دول العالم المختلفة، حتى بين الدول التي تعدّ نفسها امتداداً جغرافياً وسكانياً واحداً، مثل العراق وسوريا ولبنان والأردن، عدا عن غياب العلاقات التجارية البينية، بما ينسجم مع حجم مشتركاتهم، مقارنةً ببقية شعوب العالم.
كان من المفترض أن يسعى العرب لبناء نظام إقليمي خاص بهم، بما أنهم لا يستطيعون التوحد ضمن دولة اتحادية فيدرالية، والأفضل لهم أن يعملوا على النظام الكونفدرالي، الذي يحافظ على الدول العربية بحدودها الحالية، وأنظمتها السياسية المختلفة، وبقاء جيوشها، ويسمح لمواطني هذه الدول بحرية الحركة، على أن تكون سياساتها الخارجية موحدة، تجاه المخاطر الخارجية، بالإضافة إلى المصالح.
على الرغم من محاولات الجزائر لإعادة سوريا إلى الجامعة العربية، في المؤتمر السابق عام 2022، وعجزت عن ذلك، بحكم الضغوط الأميركية على بعض الدول من جهة، أو حالات التنازع الكيدية معها، استطاع ولي العهد السعودي بالضغوط المتواصلة، من الحصول على موافقة الدول الرافضة للعودة.
شكَّل المؤتمر بوابة واسعة لعودة العلاقات السعودية مع سوريا، لتأكيد دور المملكة القيادي الذي تطمح له، وتأكيد حرصها على العمل الجماعي للدول العربية، من خلال مؤسسة الجامعة، وليس بشكل منفرد، وخاصةً بعد أن أدركت أن سياسات الصدام في اليمن وسوريا، والتدخل في إيران والعراق، انعكست بشكل كارثي على دورها وأهميتها في العالمين العربي والإسلامي، وأن لقوتها الناعمة دوراً أكبر في تحقيق طموحاتها الإقليمية والعالمية، بوجود هامش أكبر للحركة، بعد التراجع الأميركي النسبي في غرب آسيا.
سوريا ما بعد اجتماع القمة العربية تختلف عما قبلها، فهي على الرغم من الإيمان بالمسألة القومية، والحرص على الهوية العروبية، فإنّها تجد نفسها في واقع إقليمي مختلف، يرتكز على ثلاث دعائم إقليمية كبرى، هي إيران وتركيا والسعودية، وهي تحتاج إليها، لتحقيق الاستقرار والأمن كمقدمة لحلّ سياسي، يتيح إعادة الإعمار وعودة اللاجئين، والبدء بحياة سياسية جديدة للسوريين، تحت سقف اتفاق دولي، يُسَلِّم بنتائج الصراع الدولي، ومُخرجاته التنظيمية على المستوى العالمي، فعودة الانفتاح العربي على سوريا، ليس بلا شروط متبادلة، وهو جزء من مسار الاستقرار في كل المنطقة.
* المصدر: موقع الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع