الجنجويد “الدعم السريع)” .. تأريخ حافل بالدماء والوحشية والترويع
السياسية:
ميلشيات «الجنجويد» التي باتت تعرف -اليوم- بـ«قوات الدعم السريع» ميلشيات مسلحة شبه نظامية نمت -بشكلٍ تدريجي- في ولاية شمال «دارفو» على الحدود الغربية لـ«السودان» مع «تشاد» التي يسود اعتقاد أنَّ لبعض سكانها -بهذه الميليشيات- نوعًا من الارتباط.
والملفت أنها اعتمدت -في بقائها وتعزيز حضورها خلال طور النشأة- على استهداف المواطنين بغارات السلب والنهب، حتى انتهى بها المطاف وبآخر قادتها «محمد حمدان دقلو» الشهير بـ«حميدتي» -منذ عقد ونصف العقد على الأغلب- إلى احتكار تعدين وتجارة الذهب فجمعت ثروة ضخمة تعتبر أهم عوامل إقدامها على خوض الحرب الراهنة متخيلةً نفسها قوةً لا تُغلب.
سبب التسمية وسبب استبدالها
غالبًا ما تتخذ المليشيات المسلحة من التسميات أو الأسماء الرنانة العالية الأصداء التي تسهم في ذيوع صيتها وسيلةً لبثِّ رُعبها في سائر الأنحاء وبما يمهد لها السبل النفسية والميدانية لإنجاح ما تمارسه -عادةً- من عمليات سطو ونهب وانتهاكات لاإنسانية في حق التجمعات السكانية المدنية، على غرار تسمية مليشيات «الجنجويد» التي جمعت بين «رعب الجن» و«قوة الجياد»، وفي هذا المعنى قال الباحث السوداني «الطيب زين العابدين» -في سياق استطلاع صحفي قام به «خالد عويس» ونشر في «العربية نت» في 13 يوليو 2004-: (إنَّ مصطلح الجنجويد شائع الاستعمال في دارفور منذ زمن بعيد ويعني مصطلح «الجنجويد» الشباب المنفلتين من قبائلهم والذين لا يتورعون عن ارتكاب الموبقات من نهب وفاحشة واعتداء على الغير. لكن «زين العابدين» لا يتغافل في سياق حديثه عن الإشارات التي وردت في تعريف المصطلح بـ«الجن الذي يركب جوادًا»).
وقد ترددت الإشارة إلى أصل هذه التسمية في سياق أحاديث جُلِّ المستطلعة آراؤهم على كثرتهم وتنوُّع بل تبايُن توجهاتهم، وكان مجرد تخيل هذه التسمية يشيع أجواء الرعب في أوساط التجمعات السكانية الزراعية والرعوية ذات البيئة القروية.
وقد وجدت حكومة الخرطوم {في عهدي «الصادق المهدي» و«البشير»} ضالتها في هذه المليشيات التي عرفت باالدموية، فغضت الطرف عمَّا كانت تمارسه في حق سكان «دارفور» من وحشية، بل لقد أغرتها -بحسب الكثير من الآراء- بالفتك بسكان ولايات «دارفور» المنحدرين من عرقيات غير عربية الذين كانوا وما يزالون -بسبب ما يعانونه من سوء الأحوال- يعملون -بكافة الأشكال- على نيل الانفصال.
وعند ما تجلت علاقة سلطات الخرطوم بتلك المليشيات السيئة الصيت اضطرت سلطات الخرطوم إلى تبنيها بالتزامن مع تغيير التسمية، فأصبحت -باعتراف السلطات بتبعيتها لها- قوة شبه نظامية، وذلك ما أشير إليه في سياق التقرير التحليلي المعنون [مليشيا دارفور الشرسة .. التحول من الجنجويد إلى قوات الدعم السريع] الذي نشره موقع «البابور» نقلًا عن «اندنبدنت عربية» في 26 أبريل 2023- بالتالي: (ولإضفاء الطابع الشرعي عليها، ألحقها «البشير» تحت قيادة جهاز الأمن والاستخبارات عام 2013 وأصبحت تعرف باسم “قوات الدعم السريع”).
النشأة والنعوت الموثقة الثبوت
كل الآراء تؤكد -بما يشبه الإجماع- أنَّ مليشيات «الجنجويد» تألفت بشكل شبه عشوائي من منفلتي الرعاع الذين لا يجمعهم من دوافع الاجتماع سوى ما تعود به عليهم عمليات السطو والنهب الجماعي من انتفاع، ففي الوقت الذي جزم السياسي السوداني «مادبو علي عبد الحميد» -وهو أحد أمراء الثورة المهدية وزعيم قبيلة «الرزيقات»-: (أنَّ لفظ «جنجويد» مقترن تاريخيًّا بعصابات السرقة)، جاء التوصيف الرسمي لهذه المليشيات على لسان وزير الخارجية السوداني «مصطفى عثمان إسماعيل» الذي اعتبرهم -في سياق حديثه لـ”لعربية نت”- عاملًا أساس في المواجهات التي ما تزال تدور في «دافور» من خلال قوله: (إنَّ الجنجويد ليسوا إلا مجموعة من قطاع الطرق ونشاط هؤلاء أدى إلى تفاقم العنف في دارفور).
وفي ضوء بدائية النشأة ومعاقرة كل سلوكٍ شائنٍ ممقوت ليس أفظعها -بحسب ما سيمرُّ بنا- هتك الأعراض واستباحة حرمات البيوت، استحقت الفوز بكل ما أطلق عليها من نعوت جمعت بين اللصوصية والمروق واقتراف جرم الحرابة وقتل الأنفس بغير وجه حق ونهب الممتلكات والحقوق، وفي الوقت ذاته رأى القيادي البارز في حركة تحرير السودان “دارفور” «محجوب حسين» -في سياق حديثه إلى «خالد عويس» ضمن الاستطلاع الذي نشره في “العربية نت”-: (أنَّ الجنجويد تاريخيًّا معروفون أنهم مجموعة من الصعاليك الأميين محدودي الثقافة يحاولون تنفيذ قانون الغاب).
وقد ظلت سلوكيات تلك المليشيات وممارساتها اللاآدمية التي اتصفت -بسببها- وما تزال تتصف بأقبح الصفات سارية المفعول حتى بعد ما طالها من تغيير في التسمية التي أكسبتها صفةً رسمية.
تعدد جنسيات تلك المليشيات
من المعلوم لكل مطلع أنَّ منشأ مليشيات «الجنجويد» التي تعرف اليوم بـ«الدعم السريع» قد ارتبط بإقليم «دارفور» السوداني المحادد أو المحادّ لجمهورية «تشاد» التي ترتبط مع جارتها الشرقية بأطول شريط حدودي الأمر سهل التحاق بعض المارقين بل الماردين التشاديين بذلك التنظيم المليشاوي الجنجويدي طمعًا في المغانم المادية التي تتأتَّى من نهب ممتلكات أبناء المناطق الحدودية، فضلًا عن أنَّ بدء سيطرة المليشيات على مناجم الذهب قد تسبب بإغراء مرتزقة من جمهوريتي «بنين» و«موريتانيا»، وليس من قبيل الصدفة احتواء تقرير «خالد عويس» الذي يعود إلى منتصف يوليو 2004 على ما يلي: (ويؤكد باحث سوداني مشاركة أطراف غير سودانية في القتال إلى جانب الجنجويد.
ويقول «الطيب زين العابدين» القريب من حكومة الإنقاذ في مقال حمل عنوان «مرتزقة الجنجويد في دارفور»: إنَّ السلطات الممسكة بملف دارفور عمدت إلى تجنيد عناصر منفلتة من القبائل العربية في دارفور ومن «تشاد» و«بنين» و«موريتانيا»).
تعرُّض أبناء «دارفور» لوحشيةٍ وفجور
ممَّا لا يختلف حوله أنَّ نشأة مليشيات «الجنجويد» هدفت -منذ اليوم الأول- إلى استلاب أموال الناس وحقوقهم بالباطل، ومن هذا المنطلق ظلت تسطو على ممتلكات معظم سكان البلدات وبيوت مختلف القبائل بشكلٍ متواصل، وذلك ما ذهب إليه الكاتب السوداني «عبدالله آدم خاطر» -في سياق مقاله المعنون [الجنجويد] الذي نشرته جريدة «الأيام» السودانية بتأريخ 12 يوليو 2004- بقوله: (إنَّ أهمَّ مجالات نشاط الجنجويد تتمثل في اجتياح القرى الآمنة وترويع المواطنين ونهب ممتلكاتهم، وقد ارتبط كل ذلك بظواهر مخجلة).
ومذ تحولت «الجنجويد» عام 2013 -تنصلًا من الحكومة من تبعات ما اقترفت في حق سكان «دارفور» من نهب وقتل وترويع- إلى ما صار يعرف بـ«قوات الدعم السريع» تكفلت -بحسب التقرير المختصر المعنون [السجل الأسود لـ«الدعم السريع»] الذي نشرته «الوطن القطرية» في الـ10 يونيو 2019- بمهمة (التصدِّي للمعارضة في ولايات دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان.
وقادت حملتَين ضد المعارضة في دارفور خلال عامَي 2014 و2015، وفي أثنائهما شنَّت تلك المليشيات «هجماتٍ متكررةً على القرى، وحرقت المنازل ونهبتها، واعتدت على أهل القرى بالضرب والاغتصاب والقتل»، وفقاً لتحقيقٍ أجرته منظمة «Human Rights Watch».
وفي دارفور، أخلت الأمم المتحدة بالفعل 10 مواقع لفرق حفظ السلام. وتحصَّلت مجلة Foreign Policy على مراجعةٍ داخليّة من «اليوناميد» تُبيِّن أنَّ قوات الدعم السريع قد احتلت 9 من هذه المواقع، بما فيها معسكرات في «برام» بجنوب دارفور، حيث اتُّهِمت القوة شبه العسكرية بتعريض المدنيين لشتى أنواع الاعتداء الجسدي، بما في ذلك العنف الجنسي).
تدخلها المحدود العابر للحدود
كنت قد دللت في مكان ما من حديثي عن الملاك البشري لـ مليشيات «الجنجويد» التي تعرف -اليوم- بـ«قوات الدعم السريع» بأنها لم تكن قوة سودانية صرفة، لأنَّ طبيعة منطقة نشوئها الحدودية سمحت بتطعيمها بنسبٍ محدودة من جنسياتٍ إفريقية مختلفة.
ولعل اتسامها -إبَّان النشأة أو التشكُّل وما تلاها من مراحل- بانفتاح نسبي على العدد المحدود الذي اندمج فيها من خارج الحدود، قد منحها قدرًا غير محدود من المرونة والقابلية لتنفيذ مهام مليشاوية عابرة للحدود، وقد انحصرت -بطبيعة الحال- في إطارٍ محدود، أما منطلقاتها فتنحصر في ما يلي:
أ- منطلق عَقَدي:
فلأنَّ جُلَّ قوامها البشري من عرب إقليم «دارفور» التي تتوارث الإسلام أبًا عن جدّ، فلم يتورع قادتها -بالإضافة إلى استخدامها في التنكيل بذوي الأصول الإفريقية من أبناء «دارفور» إلى أقصى حدّ- عن الزجِّ بهم للقتال جنبًا إلى جنب مع مسلمي «جمهورية إفريقيا الوسطى» في معركتهم مع السلطات الحكومية هناك بالاستناد إلى ما يجمعهم بمسلمي ذلك البلد من واحدية المعتقد، وقد طُرقت هذه القضية من محللين سياسيين عدة منهم الكاتب «بلال ياسين» الذي طرقها -في سياق تقريره التفصيلي المعنون [الجنجويد من دارفور إلى الخرطوم وخدمات المرتزقة الدولية] الذي نشره «عربي21» في 29 أغسطس 2019- بقوله: (ويشير الموقع -يقصد موقع “ميدل إيست آي”- إلى أنَّه بحلول عام 2012 كانت «الجنجويد» تجند مقاتلين لمغادرة دارفور، والمشاركة في حرب خارجية، والقتال مع «موسى عصيمة»، وهو من أطلق على نفسه لقب «جنرال» عندما أصبح زعيما لمجموعة مسلحة في جمهورية أفريقيا الوسطى، باسم «سيليكا» التي جندت المسلمين للإطاحة بالنظام في «بانغي»).
ب- منطلق مادي:
بعكس تدخلها في شأن «جمهورية إفريقيا الوسطى» بدافعٍ ديني، لم يكن في حسبانها للدين -أثناء تدخلها للقتال في ليبيا إلى جانب «حفتر»- أيُّ وزن يذكر، ومن أهم المفارقات أنَّ القاسم المشترك الوحيد بينها وبين مليشيات «حفتر» هو الولاء المطلق لسلطات «الإمارات» التي تشنُّ على الإسلام حربًا شعواء في مختلف الأنحاء، والتي أجزلت لهذه المليشيات العطاء حتى تهبَّ لنصرة حفتر في معركته مع التيار الإسلامي في «ليبيا»، وقد أشير إلى خوض تلك المليشيات معركة غير مستحقة في ليبيا بتمويلٍ وتوجيهٍ «صهيوإماراتي» في سياق التقرير التحليلي المعنون [ميدل إيست آي: حميدتي يقاتل إلى جانب حفتر بأوامر إماراتية] الذي نشره موقع «الخليج أونلاين» في الـ4 أمن أغسطس 2019 بالآتي: (وأكد الموقع -«ميدل إيست آي»- في تقرير له نشر اليوم الأحد أنَّ وثائق تثبت قيام “حميدتي”، الذي يسيطر على قوات «الدعم السريع» في السودان، بإرسال 4 آلاف مقاتل خلال الأشهر الماضية إلى «ليبيا» عبر «إريتريا» المجاورة، للقتال إلى جانب اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر، تنفيذًا لأوامر إماراتية.
وتظهر الوثائق أن نشر تلك المليشيات السودانية في ليبيا يأتي ضمن صفقة مالية بقيمة ستة ملايين دولار أمريكي بين المجلس العسكري السوداني وشركة «ديكنز آند مادسون» التابعة لعميل الاستخبارات الإسرائيلي السابق «آري بن مناشي»).
قدومها إلى الخرطوم شرُّ قدوم
لعل ما كان من إطلاق السلطات يدَ قيادة تلك المليشيات في ولايات الغرب الغنية بالذهب بالإضافة إلى ما كان لها من ارتباطات بأنظمة أجنبية قد مثل لها فرصة ذهبية لمضاعفة قدراتها عدةً وعتادًا، ولم تحن لحظات إسقاط النظام السابق -في إبريل 2019- إلَّا وقد صارت جيشًا موازيًا للجيش السوداني الرسمي وندًّا مكافئًا له في السيطرة على كافة المرافق بما فيها المنشآت العامة التي تنفرد بها العاصمة، فضلًا عن تبوئ قائدها «حميدتي» -في ضوء ما فرضته مليشياته من تراتبية القوى والقيادة- منصب «نائب رئيس مجلس السيادة» ذلك المجلس الذي عمد -على مدى شهرين كاملين من الإطاحة بنظام البشير- إلى المماطلة والمغالطة في مسعى من أولئك القادة للانفراد بالسلطة، فلما خرجت الجماهير للتنديد بما تعرضت الإرادة الثورية من تحييد سارعت قوات الدعم السريع «الجنجويد» للفتك بتلك الجماهير بيدٍ من حديد، فقد أُنيط بها -بحسب ما ورد في سياق التقرير الإخباريّ المعنون [جرائم “الجنجويد” من دارفور إلى الخرطوم] الذي نشره «العربي الجديد» في الـ7 من يونيو 2019- (جرم مداهمة واقتحام ساحة الاعتصام أمام مقرّ القيادة العامة في الخرطوم العاصمة، فنزلت بالمعتصمين -بوحشية غير مسبوقة- تنكيلًا وذبحًا وقتلًا بكل لم يعهده المجتمع العربي من طريقة، أما جثث الأشخاص المؤثرين فقد مورست عليها طرقّ شتى من التمثيل ثمَّ ألقيت في مياه النيل، بل لقد اقترفت تلك العناصر -في تلك الأثناء التي احتوت من الدماء والأشلاء ما يمزق الأعصاب- الكثير من جرائم الاغتصاب).
وقت أسفرت مجزرة الاعتصام التي اجترحتها المليشيات في ذلك اليوم الدامِ -وفق ما ورد في سياق التقرير الإخباريّ المعنون [الدعم السريع ينقل تكتيكات معارك دارفور الى الخرطوم] الذي نشرته «شبكة عاين» قبل ما يقرب من 4 سنين- (عن أكثر 120 شهيدًا وأكثر من 500 جريح أكدت مصادر طبية عامَّة أنَّ معظم تلك الجروح مفضية بأصحابها إلى إعاقاتٍ مستدامة.
وعند ما قرر المكون العسكري -في الـ25 أكتوبر 2021- الانقلاب على الاتفاق المبرم بينه وبين شركائه المدنيين في إدارة المرحلة الانتقالية، اضطلعت مليشيات الجنجويد «الدعم السريع» التي لم تتورَّع -يومًا- عن اقتراف أيِّ جرم فظيع بنصيب الأسد ممَّا طال جموع الشباب الذين تظاهروا رفضًا لذلك الانقلاب من قتل وملاحقة وترهيب وترويع، وبذلك اعتبر قدومها إلى العاصمة «الخرطوم» شرَّ قدوم، وها هي اليوم -بما تخوضه من موتجهات شرسة مع الجيش السوداني الخاضع للفريق «البرهان»- تجلب على «السودان» وشعب السودان من الشرور الآخذة في الإزمان ما لم يكن -قبل الآن- في الحسبان.
* المصدر: موقع عرب جورنال
* المادة نقلت حرفيا من المصدر ولا تعبر عن رآي الموقع