التاريخ والتأريخ
بثينة شعبان*
ربما لا جدال في القول إن التاريخ يكتبه المتخاصمون والمتحاربون وبشكل أساسي المنتصرون. فمنذ بداية أي قتال أو معركة أو حرب تنشغل الشاشات ووكالات الأنباء بإحصاء المسافات التي تقدّم بها طرف على الآخر وأنواع الأسلحة المتفوقة المستخدمة هنا وهناك واحتمالات النصر أو الخسارة في الأيام أو الأسابيع أو الأشهر المقبلة.
وتشكّل مثل هذه التغطية زوبعة تصدر عن وجهات نظر مختلفة ومتناقضة ولأهداف متناحرة، ولكنّ المنهجية هي ذاتها والأسلوب واحد يتبعه الجميع وبإدراك عميق أو بشكل عفوي ناجم عن التكرار التاريخي والعادة.
وفي وقفة مع أشهر الحروب الحديثة التي خاضتها البشرية منذ الحرب العالمية الأولى إلى الثانية إلى الحرب على فيتنام والحرب على الخليج وعلى يوغوسلافيا، والحرب على العراق والحرب على سوريا وليبيا ومؤخراً الحرب الدائرة في أوكرانيا والاقتتال في السودان، نجد أن هذا التوصيف أعلاه ينطبق عليها جميعاً.
والسؤال هو ما هي المشكلة في هذه التغطيات والسرديات التي تصبح مصدر كل معلومة للمهتمين والمتابعين والمشغوفين بالاطلاع على الحاضر واستقراء المقبل من الأحداث؟
المشكلة هي أن هذه التغطيات والسرديات تفصل المعارك عن الجسد المجتمعي والذي هو أساس ومبرّر كل نشاط إنساني وكأنّ رحى هذه المعارك تدور في أرض خالية غير مأهولة بالناس ومصادر حياتهم ونتاج حضاراتهم من زراعة وصناعة وبيئة وبنى تحتية وإلخ..
وحتى عندما تحاول المصادر العسكرية وأدواتها الدعائية أنسنة عملها وتسرد أرقاماً عن الصحة والتعليم والغذاء فإن هذه الأرقام سرعان ما تختفي من ذاكرتنا من دون أن تترك أثراً أو بصمة.
وهنا تظهر أهمية الفرق الكبير بين التاريخ و”التأريخ” إذ أنه وبسبب توصيف ما تمّ سرده أعلاه في كتابة التاريخ والذي يعني في النتيجة تجاهل الحياة والمعاناة الإنسانية بتفاصيلها الدقيقة، وانعكاسات الأهداف الكبرى المسطرة للحروب، والتي هي في حقيقتها مجرّد مبررات لجني الثروات أو تحقيق نفوذ، على حساب حياة وسعادة ومستقبل الأفراد.
وهنا يأتي “التأريخ” لينغمس في حياة المتضررين من الحروب والدافعين أثمانها من دون أن يكون لهم أي رأي في نشوبها أو توجّهاتها أو استمرارها بل وبسبب الجغرافيا وبسبب وجودهم في هذا المكان أو في هذه البقعة من الأرض أو هذه القرية أو المدينة يصبحون حطباً لهذه الحروب كنازحين ولاجئين ومفقودين ومشرّدين وأموات تكون قمة إكرامهم في إيجاد مدفن لأجسادهم الفاقدة للحياة.
ولهذا ربما تنشب حرب وتخمد أخرى من دون أن تتعلم البشرية الأثمان الحقيقية التي تدفعها المجتمعات لهذه الحروب، ومن دون أن يعكف الدارسون على دراستها واستخلاص العبر منها والتي يجب أن تردع الآخرين مستقبلاً من خوض أمثالها.
فكل مناهج طرف متحارب تدرّس الانتصارات التي تدفع الأجيال إلى الفخر بإنجاز الآباء والأجداد وتعمل جاهدة على الحفاظ على الروح المعنوية وعلى إثبات قدسية وأهمية ما دارت الحرب لأجله.
ولا شك أن هذا كله مشروع ومهم للقضايا المحقّة ولا بدّ منه، ولكن يبقى السؤال الجوهري أين هو التاريخ الحياتي والمجتمعي لكلّ ما جرى وحتى من هذا المنظور المعنوي المقدس أعلاه أين هي القصص التي تلبس الأحداث ثوب الإقناع وتجعل الحدث حياً بالفعل يعيش في أذهان الناشئة تماماً كقصص سيدنا إبراهيم وموسى ويوسف في القرآن الكريم؟
ألم يقل الله عز وجل “نحن نقص عليك أحسن القصص” (يوسف 3)؟ أو ليس في هذا عبرة أن الرسالة السماوية التي عمل الأنبياء على نشرها بين البشر أتت على صيغة قصص الأنبياء في مجتمعاتهم وتناولت الأحداث وما جرى لهم كعبرة للبشر الآخرين كي يؤمنوا بالله عز وجل ورسله؟
من هذه الزاوية بالذات تأتي أهمية التأريخ وتوثيق التاريخ الشفوي كي يصبح مصدراً رديفاً وهاماً جداً للتاريخ الذي اعتاد شاغلو الحروب أو المستفيدون منها على تسطيره على مرّ التاريخ، ومن هنا أيضاً تنبع الأهمية الكبرى التي يوليها البعض لتوثيق القصص الشفاهية كي تكمل الجزء المفقود من تاريخ الحروب وكي تلقي أضواء هامة على المناحي الإنسانية التي لا يمكن للتاريخ الرسمي أن يفرد لها مساحة أو يوليها الاهتمام الذي تستحق.
التأريخ يعني ألا نركن إلى السردية الرسمية والأرقام التي تستسهل إدراجها مجردة من أي حس أو مشاعر أو ألم أو حنين أو فقد: التاريخ يعني أن تقصّ علينا الأم كيف شرّدت الحروب أطفالها وتسبّبت في فقد بعضهم، وكيف تمرّ الأيام والسنون عليها بعد هذا البركان الذي عصف بحياتهم المستقرّة والهادئة وزراعتهم وإنتاجهم.
والتأريخ يعني أن يحدّثك الشباب عن تعطيل سنوات الحرب لمدارسهم وجامعاتهم والعبث بعقد من حياتهم، وما هي محاولاتهم الصعبة اليوم للتعويض عن فقد زمن من عمرهم في ظروف أشدّ ضراوة وقسوة وفقراً.
والتأريخ والتوثيق الشفوي يعنيان أن نكتب قصص الأفراد هنا وهناك كما عاشوها وأن نترك للقارئ استخلاص العبر واتخاذ القرار الذي يرتأيه بشأن هكذا أحداث.
معظم ما كتب إلى حدّ اليوم هو التاريخ الرسمي في كل الحروب وفي كل أنحاء العالم، ولهذا فإن أي حرب أو اقتتال يشغل الانتباه لمدة أسبوع أو أسبوعين ثمّ يصبح خبراً مملاً يشوبه التكرار ويعزف عن متابعته المشاهدون والقراء.
إنّ الأدب الذي يمكن أن يقدّم دروساً حقيقية مستفادة للأجيال القادمة هو الأدب المستسقى من القصص الحقيقية للذين عاشوا الحدث وتأثّروا به أو أثّروا فيه وروايتها بكل صدق وشفافية.
ولا شك أن هذا الأدب وهذه القصص هي التي تبقى خالدة في أذهان الأجيال وهي التي تقدّم العبر لتحدث فرقاً في الوعي الإنساني، قد تتم ترجمته إلى أسلوب تفكير وأسلوب عيش وأسلوب تصرّف مختلف عمّا عهدناه جيلاً بعد جيل من القفز إلى الصراعات المسلحة والحروب عند أول مفرق، أو طمعاً بالاستيلاء على الثروات أو مواقع القوة أو خوفاً من استقواء الآخر مستقبلاً.
أن نوثّق القصص الشفوية يعني أن نعتبر الإنسان أصل الكون ومبتغاه وأن نعتبر حياته ورفاهه هدفين أساسيين للنشاط الإنساني. هذا هو نوع التفكير الذي قد يشكّل رادعاً أو وازعاً لمن يستسهل حمل السلاح وإطلاق النار على أخيه الإنسان.
* المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع