السياسية:

يجب تحديد الأطراف المستفيدة مما يحدق بالسودان بعد اقتطاع جنوبه وحرمانه من ثروته النفطية، وما يتداول من اهتمام دولي بإقليم دارفور في غرب السودان، نظراً إلى ثرواته المعدنية، وأبرزها الذهب.

قرار بدء الحرب وقرار “الوقف المؤقت” لإطلاق النار أُعلنا من واشنطن، في سابقة فريدة من نوعها: اليمن في الحالة الأولى عبر وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في 26 آذار/مارس 2015، والسودان في الحالة الثانية بلسان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في 24 نيسان/أبريل الحالي.

ثمة عوامل مشتركة تجمع قراري الحربين، لكن من المفيد الإشارة إلى أنَّ “مرتزقة” عسكريين من السودان شكلوا أكبر جسم قتالي لراعِيَي الحرب في اليمن، السعودية والإمارات، بدلالة أعداد الأسرى والجرحى منهم لدى الحكومة اليمنية، واكتساب عناصرهم خبرات ميدانية سيتم توظيفها في ميادين أخرى لاحقاً.

أولئك “المرتزقة” يتبعون قيادة الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، الملقب بـ”حميدتي”، والتي تشكّلت عام 2013. ويمكن القول إنَّ “دوراً إقليمياً ما” كان يُعدّ لتلك القوات، ليس من مموّلي حرب اليمن، السعودية والإمارات، فحسب، بل من أركان الإستراتيجية الأميركية أيضاً، للسيطرة على ممرات البحر الأحمر في الدرجة الأولى وإخضاع اليمن للهيمنة الأميركية.

في الحربين، برز أيضاً الدور الفاعل للكيان الصهيوني تصاعدياً بإنشاء قاعدة عسكرية في جزيرة سقطرى التي تسيطر عليها الإمارات. وفي الصراع الجاري في السودان، عرضت “تل أبيب جهود وساطتها” باستضافة قيادة فريقي الصراع في فلسطين المحتلة (نشرة “أكسيوس” الأميركية، 24 نيسان/أبريل 2023).

وأضافت النشرة المذكورة أنَّ تفاصيل الحراك الصهيوني بشأن التوسط لدى طرفي القتال في السودان تمت بتنسيق تام مع كل من إدارة الرئيس بايدن ودولة الإمارات.

من دون الخوض في تفاصيل القتال وأسباب اندلاعه بين الفريقين، رغم أهميتها، يجب فحص وتحديد الطرف أو الأطراف المستفيدة مما يحدق بالسودان بعد اقتطاع جنوبه وحرمانه من ثروته النفطية، وما يتداول من جدل واهتمام دولي بشأن مستقبل إقليم دارفور في غرب السودان، نظراً إلى ثرواته المعدنية، وأبرزها الذهب، وتحديد الأطراف الإقليمية المساعدة في تفكيك السودان.

سنستثني لبرهة الدور المنتظر من مصر وتأييدها المعلن للقوات المركزية السودانية بقيادة عبد الفتاح البرهان، وكذلك انشغالها بترتيبات جارية لاقتسام مياه النيل العابر لكل أراضي السودان، والتركيز على سمات الإستراتيجية الأميركية، وخصوصاً عقب تأهيل “القيادة الأميركية لأفريقيا – أفريكوم” لإدارة الأزمات في القارة السمراء، من أجل سبر أغوار إعلان وزير الخارجية الأميركية عن “وقف مؤقّت لإطلاق النار لمدة 72 ساعة”، بحسب توقيت واشنطن، وليس لاعتبارات تحفظ حرمة عيد الفطر.

لماذا السودان؟
لا تخفي مراكز القوة الفعلية وصناعة القرار في الولايات المتحدة، وامتداداً في عموم الغرب، أطماعها للفوز بثروات السودان الطبيعية والباطنية، والعين دائماً على استهداف مصر دوراً وموقعاً وحضارة ونفوذاً إقليمياً.

يشكّل السودان “موقعاً إستراتيجياً غنيّاً بالموارد الطبيعية”. هذا التوصيف يوجز رؤية صنّاع القرار في واشنطن والعواصم الغربية الأخرى التي “تطمع كلها للفوز بقطعة منه، لأنه مرشّح للاستحواذ” والسيطرة عليه (صحيفة “نيويورك تايمز”، 22 نيسان/أبريل 2023).

هذا هو هدف الغرب المعلن باختصار شديد. أما توقيت اندلاع الصراع على السيطرة بين قادة الطرفين المواليين لأجندة واشنطن، فله بعد دولي يدخل في صلب الصراع الكوني بين الولايات المتحدة ومنافسيها في روسيا والصين، وجوهره موافقة السودان، منذ عهد الرئيس المخلوع عمر البشير، وتباعاً من البرهان وحميدتي، على إنشاء قاعدة بحرية روسية.

في هذا السياق الواسع لرقعة الصراع، نجد لاعبين آخرين من دول النفط العربية نيابة عن واشنطن، الإمارات والسعودية وقطر، قدّموا، وما زالوا يقدمون، إمدادات عسكرية في الدرجة الأولى لقطبي الصراع الحالي البرهان وحميدتي.

أيضاً، لا يجوز إغفال العامل الصهيوني في تأجيج الصراع والدخول على خط “فرض وقف إطلاق نار”. وفي الجوهر، تفكيك كيان السودان الحالي، بعد نجاح الغرب وأدواته المحلية في فسخ جنوب السودان عن باقي أراضيه.

في اللحظة الحالية، يجري تسليط الضوء في دول الغرب على “دور دولة الإمارات العربية المتحدة التي توسّع نفوذها بقوة في منطقة القرن الأفريقي”. وقد رمت أبو ظبي مبكراً إلى استغلال مساحة أراضي السودان الشاسعة “لتلبية احتياجاتها الغذائية واستمرار سبل توريدها”، أبرزها صفقة شراء أراضٍ شاسعة لحساب “الشيخ طحنون بن زايد، تبلغ مساحتها 100 ألف هكتار (ما يعادل أكثر من 400 ألف دونم)، وقيمتها 225 مليون دولار” (صحيفة “نيويورك تايمز”، 22 نيسان/أبريل 2023).

وفي السياق ذاته، ينبغي رؤية دخول قطر على خطّ تأجيج أزمات السودان، وخصوصاً بعد نشوب خلافات بينها وبين كل من السعودية والإمارات، وفي الخلفية إحجام الخرطوم والرئيس عمر البشير عن الاصطفاف معها ضد جيرانها. وليس من باب المصادفة تحرك السعودية والإمارات مباشرةً بعد إطاحة الرئيس البشير وإعلانهما تقديم مساعدة مالية للسودان “الجديد” قيمتها 3 مليارات دولار.

وترى أوساط النخب السياسية الأميركية أنَّ الجنرال حميدتي، كما يُسمى، كدّس ثروة هائلة جراء دوره في “التنقيب عن الذهب والإتجار به وتصديره إلى أسواق دبي” في الإمارات. وقد ارتكز على ما جناه من إيداعاته في المصارف الإماراتية لإنشاء قوات شبه نظامية “تتفوق في تسليحها على الجيش السوداني الرسمي”، وتم نشر أعداد كبيرة منها في اليمن لحساب الإمارات والسعودية في قتال اليمنيين.

عند استعراض “السيناريوهات” المستقبلية للصراع الجاري، من وجهة النظر الأميركية في الدرجة الأولى، نجد أن جوهرها يصب في خانة استمرار وتيرة الصراع بين الطرفين، وضمان استمرار توريد الأسلحة المختلفة، والحيلولة دون انتصار فريق على آخر بشكل حاسم.

بعض الاختصاصيين أشاروا إلى “توريد بقايا داعش والقاعدة” من ليبيا وسوريا وبلدان أخرى باتجاه المسرح السوداني، فضلاً عن نضوج مناخات تجنيد جماعات طائفية وعرقية سودانية وتسليحها.

في المقابل، تنشط “الجهود الدبلوماسية” الغربية المطالبة بتمديد وقف إطلاق النار، والنفخ في بوق إجلاء الرعايا الأجانب، فيما يستمر التستر على بقاء فرق “القوات الخاصة والخبراء العسكريين والأمنيين” في السودان لإدارة المعركة، والمهمة الموكلة إليهم عنوانها قطع دابر روسيا وتمدد الصين في عموم القرن الأفريقي.

نستطيع القول إنّ هدف الغرب الآني، إلى جانب تفسيخ السودان، هو السعي لمحاصرة مصر وتعطيل دورها الإقليمي، وإبقائها أسيرة أزماتها المعيشية، وحرمانها من ترجمة ثقلها ونفوذها الطبيعي في عموم المنطقة.

وفي تفاصيل مخطّط استهداف مصر، تستعرض الأوساط المالية الدولية “مصادر تمويل بناء سد كهرومائي ضخم على مجرى نهر النيل الأبيض” في دولة ما يُسمى جنوب السودان، الأمر الذي سيقلص حصة مصر من مياه النيل، وخصوصاً بعد تداعيات “سد النهضة” في إثيوبيا وحجبه كمية وفيرة من المياه.

من نافل القول أنّ ظاهر الإستراتيجية الأميركية، فيما يخص مصادر المياه، هو “تسليعها وبيعها”، بحيث تأخذ أبعاداً سياسية واقتصادية وبيئية أيضاً، نجد ترجمتها في تقليص رقعة الأراضي الزراعية في مصر تحديداً، وتقليص نصيب المواطن المصري من مياه الشرب.

بموازاة ما تقدم من التحكم في مصادر المياه، بإشراف غربي مباشر أو غير مباشر، تبرز تركيا أيضاً التي أنشأت عدداً من السدود المائية، والتي تخطط لإنشاء سدود أخرى، بغية التحكم في القرار السياسي لكل من سوريا والعراق.

للأسباب المذكورة أعلاه، يبقى احتمال استمرار الصراع المسلح في السودان، وإن تباينت وتيرته بين آونة وأخرى، هو المرجّح في أولويات الإستراتيجية الأميركية، لبسط هيمنتها إقليمياً وسد الطريق أمام خصومها الدوليين، روسيا والصين، إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً.

* المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع