تمارا برو *

مع تراجع العلاقات بين السودان والصين في السنوات الماضية، ظلت الأخيرة تدعم الخرطوم سياسياً واقتصادياً، وتمتنع عن التصويت على القرارات الدولية بشأن فرض عقوبات عليها في مناسبات عديدة.

قبل أن يصبح جنوب السودان دولة مستقلة وينفصل عن السودان عام 2011، شهدت العلاقات السودانية الصينية تطوراً كبيراً أكسبت الخرطوم صفة أكبر شريك تجاري لبكين في أفريقيا.

جاء ذلك بعدما وضعت الإدارة الأميركية السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب وفرضت عقوبات عليه، ما أدخله في عزلة دولية، فلجأت الحكومة السودانية وقتها إلى الشرق، ونمّت علاقاتها مع الصين، ولا سيما في مجال النفط.

قامت الشركات الصينية باستخراج النفط السوداني، فأصبح السودان سادس أكبر مصدر للنفط الأجنبي إلى الصين، إذ وفّر 5.5% من احتياجاتها، وأقامت مشاريع البنى التحتية والسدود والكهرباء وغيرها.

ووصل حجم التبادل التجاري بين الجانبين عام 2011 إلى 11 مليار دولار أميركي، قبل أن يتراجع إلى 2.84 مليار دولار أميركي عام 2021. ولم يعد السودان حالياً أكبر شريك تجاري للصين في أفريقيا، ولكنَّ الصين ظلت تحافظ على مكانتها كأكبر شريك تجاري له.

وأدت عوامل أخرى، عدا عن انفصال جنوب السودان وذهاب نحو 75% من نفط السودان إلى جنوبه، دوراً في تراجع العلاقات بين السودان والصين، منها عدم الاستقرار السياسي والأمني في البلاد، وإطاحة الرئيس السابق عمر البشير عام 2019، الذي وصفه الرئيس الصيني شي جين بينغ بأنه صديق قديم للشعب الصيني.

وارتفعت ديون الصين لدى الخرطوم نتيجة للقروض المتراكمة والدخول في مشاريع استثمارية لم تستطع الوفاء باستحقاقاتها. وكانت قضية ديون السودان لدى الصين محور المباحثات التي جرت بين شي جين بينغ ورئيس مجلس السيادة في السودان عبد الفتاح البرهان عندما التقيا على هامش القمة العربية الصينية التي عقدت في السعودية في شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، إذ وعد الرئيس الصيني بأن تعيد بكين النظر في هذه القضية.

ومع تراجع العلاقات بين السودان والصين، ظلت الأخيرة تدعمه سياسياً واقتصادياً، وتمتنع عن التصويت على القرارات الدولية بشأن فرض عقوبات على الخرطوم في مناسبات عديدة. مثلاً، في 9 آذار/مارس الماضي، امتنعت الصين عن التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي الذي يقضي بتجديد العقوبات المفروضة على السودان.

إن موقف بكين من الأزمات التي كانت تدور في السودان واضح، إذ إنها كانت تدعو الأطراف إلى تجاوز الخلافات عبر الحوار والانتقال السلس، وتدعو المجتمع الدولي إلى إعادة دعم السودان ومساعدته في التغلب على الصعوبات في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وترفض التدخلات الأجنبية في شؤونه، وتدعو إلى رفع العقوبات عنه.

ومع اندلاع النزاع في السودان في الآونة الأخيرة، حثّت الصين طرفي النزاع المسلح على وقف إطلاق النار وتجنب المزيد من التصعيد وإجراء الحوار. وقد شهدت الأشهر الأخيرة حركة نشطة للصين في التوسط لحل النزاعات القائمة والدخول إلى المسرح العالمي كقوة عظمى، فقامت بأداء دور الوسيط في المصالحة السعودية الإيرانية، وأبدت استعدادها للتوسط في محادثات “سلام” إسرائيلية فلسطينية، كما أعلنت عن وثيقة سلام بشأن الحرب الروسية الأوكرانية.

أما على الصعيد الأفريقي، فتقول بكين إنها تسعى إلى تحقيق التنمية في أفريقيا، ولا يمكن توفير التنمية إلا عبر تأمين الأمن والاستقرار في القارة التي مزقتها النزاعات والصراعات.

وقد أدت الصين دور الوسيط في عدد من النزاعات التي كانت دائرة في أفريقيا، بدءاً من السودان بين عامي 2007 و2008، وزيمبابوي 2008، والكونغو/ راوندا 2008، إلى السودان/ جنوب السودان 2008 حتى 2011.

ومع مرور أيام عديدة على بدء النزاع الدائر في السودان حالياً، لم تعلن الصين استعدادها للتوسط بين طرفي النزاع المسلح، بل دعت إلى حل النزاع عبر الحوار وتجنب التصعيد. ويعدّ النزاع الدائر في السودان اختباراً لرغبة الصين في تحقيق السلام في القرن الأفريقي ومدى جديتها في ذلك.

والآن، بكين تحت أعين الدول الأفريقية التي ترى فيها شريكاً موثوقاً، فقد أعلنت سعيها لتأمين الاستقرار في القارة الأفريقية في مناسبات عديدة. مثلاً، تناول “الكتاب الأبيض” الذي أصدرته عام 2021 قبيل انعقاد منتدى التعاون الصيني الأفريقي التعاون في مجالات السلام والأمن.

وفي إطار جهودها لدعم السلام والأمن في القارة، عيّنت الصين العام الماضي مبعوثاً صينياً للقرن الأفريقي، عرض التوسط في النزاعات على أساس إرادة دول القارة، وعقدت مؤتمراً حول السلام والتنمية في القرن الأفريقي في أديس أبابا العام الماضي، لتوفير منصة لدول المنطقة لتسوية خلافاتها من خلال المفاوضات، في محاولة لحل النزاعات.

وتضمنت البرامج السبعة التي أعلنها الرئيس الصيني في كلمته خلال افتتاح المؤتمر الوزاري الـ8 لمنتدى التعاون الصيني الأفريقي (فوكاك) عام 2021 برنامجاً خاصاً بالسلام والأمن.

مما لا شكَّ فيه أن استمرار النزاع في السودان سيؤثر في مصالح الصين في البلاد؛ فبكين هي أكبر شريك تجاري للخرطوم، وهناك أكثر من 130 شركة صينية تعمل في السودان، كما أنه سيؤثر سلباً في مبادرة “الحزام والطريق” التي انضم إليها السودان.

ويعد موقع السودان الإستراتيجي المطل على البحر الأحمر أساسياً في المبادرة الصينية، وهو يشكل بوابة الصين نحو أفريقيا، فضلاً عن غناه بالموارد الطبيعية، إذ يعدّ ثالث منتج للذهب في أفريقيا.

من ناحية أخرى، إذا طال أمد الصراع واشتدت حدته، فستجد الصين نفسها مضطرة إلى إجلاء مواطنيها الذين يقدر عددهم بأكثر من 700 مواطن صيني. وفي هذا الإطار، أشارت السفارة الصينية لدى الخرطوم إلى أنها قد تضطر إلى إجلاء مواطنيها من السودان إذا ساء الوضع الأمني، وأضافت أنها تجمع معلومات أساسية عن المواطنيين الصينيين. وسبق لبكين أن قامت بإجلاء مواطنيها من ليبيا عندما اندلعت الحرب فيها عام 2011.

لغاية الآن، لا تزال بكين تراقب الأوضاع في السودان من كثب، وربما ستدعم أولاً معالجة الأزمة عبر الاتحاد الأفريقي أو الأمم المتحدة أو الوساطات التي تعرض لحل الأزمة. ويتوقف إعلان بكين رغبتها في أداء دور الوسيط في النزاع السوداني على مصالحها الاقتصادية واستثماراتها في السودان ورغبتها الجدية في المساهمة في حل النزاعات في العالم لإرساء مجتمع المصير المشترك الذي ينادي به الرئيس الصيني دائماً.

من مصلحة الصين التوسط لحل الأزمة السودانية لحماية مصالحها ومواطنيها في السودان عبر مبعوثها الخاص بالقرن الأفريقي أو مبعوثها الخاص بالشرق الأوسط، اللذين زارا السودان العام الماضي، ولضمان ثقة الدول الأفريقية ببكين وزيادة استثماراتها في القارة الغنية بالموارد الطبيعية ووقوف هذه الدول إلى جانبها في المحافل الدولية، ولا سيما دعمها مبدأ سياسة الصين الواحدة، وتعزيز فرصة أن يكون لها موقع ونفوذ وانتشار في العالم وتأسيس عالم متعدد الأقطاب يقوم على الاستقرار والسلام والعدالة.

* المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع