ثابت العمور *

انتبهت “تل أبيب” إلى أن الاشتباكات الدائرة في شوارع الخرطوم ستعطل مخططاتها وتؤجل التطبيع، فكانت أول من اتصل وتواصل مع طرفَي الصراع لاستطلاع الموقف السوداني من مواصلة التطبيع لا لوقف الاقتتال والتوسط إلى الحل كما تدّعي.

وقع السودان في ما كانت التقديرات الصهيونية تتوقعه، والمخططات الصهيونية تتمناه، والتحرك الأمني للموساد يدفع في اتجاهه، ذهب كل من قائد الجيش عبد الفتاح البرهان؛ وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى الاقتتال وإن كان مبكراً، كانت “تل أبيب” ترغب في توقيع اتفاق التطبيع النهائي مع السودان في ولاية حكم الجنرالات، وقبل تسليم العسكر السلطة للمدنيين بمقتضى الاتفاقات المؤجلة والمعطلة، وقبل احتكام شركاء أمس فرقاء اليوم إلى السلاح.

انتبهت “تل أبيب” إلى أن الاشتباكات الدائرة في شوارع الخرطوم ستعطل مخططاتها وتؤجل التطبيع، فكانت أول من اتصل وتواصل مع طرفَي الصراع لاستطلاع الموقف السوداني من مواصلة التطبيع لا لوقف الاقتتال والتوسط إلى الحل كما تدّعي. فالقتال ما زال مستمراً.

كما أن التطبيع لم يكن المحدد الوحيد الضابط للموقف الصهيوني، فهناك محددات أخرى لا تقل أهمية، أهمها وأولها أثر الاقتتال الدائر في العمليات الأمنية والاستخبارية التي تقوم بها “تل أبيب” في السودان من أجل وقف ومنع إمداد المقاومة الفلسطينية بالدعم من خلال الجغرافيا السودانية، والمحدد الثاني أثر الصراع الدائر في تدفق المهاجرين من السودان مرة أخرى في اتجاه كيان “إسرائيل”، وثالثها من هو الطرف الذي سيحسم الصراع لصالحه. ورابعها مستقبل الدور الإسرائيلي في عموم القارة الأفريقية.

بحذر شديد، وتسريب مقصود، وانطباع قلق مُعلن، وتبادل للأدوار ما بين الخارجية الصهيونية و”الموساد”، التقط كيان الاحتلال الاشتباكات الدائرة في السودان، والملاحظ تقدم “الموساد” على الخارجية الصهيونية في توصيفه للمشهد السوداني بيوم كامل.

في 16 نيسان/ أبريل الجاري، علق “الموساد” على الأحداث الجارية في دولة السودان بأنها صراع على السلطة لن يؤثر في التطبيع”.

فيما أصدرت وزارة الخارجية الصهيونية بياناً رسمياً في 17 نيسان/ أبريل الجاري جاء فيه: “نحن نتابع بقلق الأحداث في السودان، و كيان “إسرائيل” تريد استقرار السودان وأمنه، وتطالب جميع الأطراف بالامتناع عن العنف والعودة إلى طريق المصالحة الداخلية، لإنهاء عملية نقل السلطة بإجماع واسع”.

امتناع كيان “إسرائيل” عن النقاش العلني للبحث في احتواء الصراع الدائر في السودان قبل تمدد تداعياته، لا ينفي أن هناك دوراً صهونيا خفياً متراكماً في ما آلت إليه الأوضاع في السودان، والحيادية المزعومة الظاهرة في بيان كل من “الموساد” والخارجية الصهيونية، تنفيه رواية الصحف العبرية التي زعمت بأن كيان “إسرائيل” تشارك في محادثات مع طرفَي الصراع للتهدئة، وقد ادعت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، أن كيان “إسرائيل” تشارك في مساع واتصالات تهدئة مع طرفي الاشتباكات في السودان.

بتفاصيل أكثر؛ ذكرت صحيفة كيان “إسرائيل اليوم” في 16 نيسان/ أبريل الجاري؛ بأن كيان “إسرائيل” تشارك بشكل فاعل في الجهود الهادفة إلى تهدئة الأوضاع في السودان، وأنها حثت ممثلي رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان وخصمه قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) على وقف القتال والتهدئة. وقالت الصحيفة: “إن البرهان وخصمه حميدتي، كانا على اتصال بـ كيان “إسرائيل” خلال الساعات الـ 24 الأخيرة بعد اندلاع القتال”. وبينما نفى البرهان لاحقاً ذلك لحسبة داخلية، اختار المستشار السياسي لقائد قوات الدعم السريع يوسف عزت في 19 نيسان/ أبريل الجاري، قناة صهيونية للتعليق على المعارك الدائرة في السودان ومهاجمة عبد الفتاح البرهان.

لم تكن هذه المرة الأولى التي تدخل فيها كيان “إسرائيل” على خطوط الأزمة السودانية ومساراتها؛ وإن كانت هذه المرة تُغلب خيار الاكتفاء بالمشاهدة والاتصال بالسر والتوسط الرخو والمؤجل.

في 24 كانون الثاني/ يناير 2022، قالت هيئة البث الصهيوني؛ إن وفداً صهيونيا وصل العاصمة الخرطوم بشكل معلن وبطلب أميركي من أجل التوسط بين الفرقاء لحل الخلافات الحاصلة، عقب انقلاب البرهان في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021. وذكرت أنه في اليوم التالي لانقلاب البرهان الذي وصفته بإجراءات الجيش السوداني، حدث اتصال بين “تل أبيب” والبرهان للتشاور في تداعيات ما حدث.

التدخل الصهيوني ودوره المشبوه في المشهد السوداني تقر به واشنطن؛ في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، طلبت ممثلة واشنطن لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، من وزير الحرب الصهيوني بيني غانتس، “التدخل في أزمة السودان، والعودة إلى “المرحلة الانتقالية بقيادة مدنية”.

هذا الطلب الثاني لواشنطن من “تل أبيب” للتدخل في الأزمة السودانية، الطلب الأول تقدم به وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، وقد أفضى هذا التدخل الصهيوني إلى إصدار عبد الفتاح البرهان لمرسوم بتشكيل مجلس السيادة الانتقالي برئاسته، وتعيين محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائباً له في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021. وهو ما دفع بوزيرة الخارجية السودانية السابقة مريم الصادق المهدي في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، إلى اتهام كيان “إسرائيل” بدعم ما وصفته بالانقلاب العسكري، وقالت إن “الحكومة السودانية علمت بدور كيان “إسرائيل” الداعم للانقلاب العسكري، رغم أنها لم تظهر في واجهة الأحداث”.

قامت علاقة “تل أبيب” تجاه الخرطوم على استراتيجية شد الأطراف ثم بترها، في مسار تقوم بنيته على تبادل الأدوار بين كل من وزارة الخارجية الصهيونية وجهاز “الموساد”، مستخدمة التناقضات والخلافات والصراعات بين مكونات المشهد السوداني، وتحديداً عبد الفتاح البرهان، ومحمد حمدان دقلو (حميدتي)، فكان ترويض البرهان -عراب التطبيع ومفتتحه مع “تل أبيب” -مناطاً بوزارة الخارجية الصهيونية، فيما أُسندت مهمة تطويع حميدتي واستمالته إلى جهاز الموساد.

بدأت كيان “إسرائيل” شد الأطراف السودانية، عندما استفردت بلقاء جمع عبد الفتاح البرهان برئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في شباط/ فبراير 2020 في مدينة عنتيبي الأوغندية، من دون معرفة شركائه في الحكم أو مشاركتهم أو مشورتهم وعلى رأسهم محمد حمدان دقلو (حميدتي).

في 25 كانون الثاني/ يناير 2021، قام وزير المخابرات الصهيوني إيلي كوهين، بزيارة أولى من نوعها إلى السودان، التقى حينها البرهان، ووزير الدفاع السوداني السابق ياسين إبراهيم، ولم يُدعَ حميدتي إلى حضور اللقاء.

قبل وقوع الاشتباكات الدائرة بشهرين تقريباً؛ تكرر شد الأطراف ممثلاً في زيارة وزير الخارجية الصهيوني إيلي كوهين الأخيرة إلى الخرطوم في 3 شباط/ فبراير الماضي، التي تزامنت مع اشتداد الصراع والتنافس بين البرهان وحميدتي، وفي دعم إسرائيلي غير معلن، حرص كوهين الذي رافقه وفد كبير من مديري وزارة الخارجية الإسرائيلية وضباط كبار من “الموساد”، على عقد لقاء في مقر الجيش السوداني مع كل من البرهان ووزير الخارجية السوداني علي الصادق، ثم انضم إليهما وزير الدفاع السوداني ياسين إبراهيم والمدير العام للمخابرات السودانية أحمد إبراهيم مفضل ومدير الاستخبارات العسكرية السودانية أحمد علي صبير.

تركز النقاش على التوسع في التعاون الأمني والعسكري، لمجابهة التحديات الأمنية وكيفية التعاطي مع التوتر في الحدود بين السودان وتشاد وأفريقيا الوسطى ومراقبة الأوضاع في الساحل الأفريقي والبحر الأحمر. تم اللقاء من دون مشاركة حميدتي وحضوره، والذي نفى في 3 شباط/ فبراير الماضي، في بيان صحافي، أنه “لا علم له بالزيارة المعنية وأنه لم يلتق الوفد الزائر”.

يبدو أن “إسرائيل” كانت متفائلة من اللقاء؛ فبعد عودته من الخرطوم، أعلن كوهين أن توقيع اتفاقية التطبيع النهائي مع السودان سيتم في واشنطن خلال أشهر قليلة من العام الجاري.

يُرجح أن تحوّل الموقف الصهيوني بالاقتراب خطوة من البرهان على حساب العلاقة مع حميدتي، قد عجل بقرار الرجل الذي استشعر بأن البساط يسحب من تحت قدميه في الذهاب إلى الاشتباك.

الاقتراب الإسرائيلي من البرهان في زيارة كوهين واستبعاد حميدتي من اللقاء، لا ينفي وجود علاقة متنامية بين “الموساد” وحميدتي الذي زار كيان “إسرائيل” مرتين في عامي 2020 و2021؛ أفضت إلى تطور التعاون الأمني بينهما، في نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، سربت صحيفة “هآرتس” العبرية؛ وبعض وسائل الإعلام العالمية، خبر منح “الموساد” لحميدتي أجهزة تجسس وتقنيات إلكترونية متطورة، بغرض اختراق اتصالات قادة في الجيش السوداني.

إن واحدة من أهم النتائج المتوقعة أن ينتهي إليها الاقتتال الدائر هي تفكيك السودان؛ وهذا عين ما سعت وخططت إليه كيان “إسرائيل” على مدار الدور المشبوه الذي لعبته في السودان، وهو دور معلن بالمناسبة؛ ففي العام 2015 أصدر “الموساد” كتاباً بعنوان “مهمة الموساد في جنوب السودان”، نشره موقع “ميدا” الإسرائيلي.

يسرد دور ضابط في “الموساد”، هو دافيد بن عوزئيل، في تدريب الانفصاليين وتوجيههم وتسليحهم، وصولاً إلى انفصالهم في عام 2011. وهو ما يتقاطع مع ما قاله وزير الأمن الداخلي السابق آفي ديختر، الذي كان رئيساً لجهاز الأمن العام “الشاباك”، بقوله: إن “انفصال جنوب السودان يُشكّل مصلحة الصهيونية بالدرجة الأولى”. وكرره في 30 تشرين الأول/ أكتوبر 2008، في محاضرة رسمية قائلاً: “نحن نقود خراب السودان”.

محددات التوظيف الصهيوني للاشتباكات الدائرة في السودان يمكن إيجازها في التالي:

– قلق “إسرائيل” المزعوم من تأثير الاشتباكات الدائرة في التطبيع مع الخرطوم، سيعزز موقفها وموقعها في التطبيع، وتقديراتها بأن التطبيع سيؤجل فقط، ولكن لن يعود إلى الصفر.

– ستوظف كيان “إسرائيل” الصراع الدائر بين البرهان وحميدتي، لفتح قنوات اتصال بالمكوّن المدني السوداني.

– لن تستعجل كيان “إسرائيل” التدخل والتوسط بين طرفي الصراع رغم علاقتها الوثيقة بكليهما، حتى تُنهك وتستنزف المقدرات العسكرية والاقتصادية ويلوح شبح التفكك والخراب في السودان. ويلوح تدفق اللاجئين مرة أخرى من السودان في اتجاه “تل أبيب”.

– تنتظر “إسرائيل” وتراقب أي الطرفين يمكنه حسم الصراع، وستتدخل في الوقت المناسب لترجيح كفة الطرف الأقرب إلى تحقيق مصالحها، وغالباً ستميل إلى كفة البرهان. يفسره اللقاء الأخير المنفرد -المدعوم أميركياً-بين وزير الخارجية الصهيوني والبرهان.

– علاقة كيان “إسرائيل” بالبرهان سياسية تستهدف المضي في التطبيع، فيما علاقتها بحميدتي أمنية عسكرية تستهدف حراسة الحدود ومنع أي عمليات إمداد قد تمر من الأراضي السودانية إلى المقاومة الفلسطينية. إذا ضمنت تحقيق البرهان لهذا الهدف فستتخلى عن حميدتي.

– أي وساطة صهيونية قد تفضي إلى وقف الاشتباكات الدائرة في السودان، ستعزز الدور الصهيوني في القارة الأفريقية وستفضي لاحقاً إلى تمدد التطبيع.

* المصدر: الميادين نت

* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع