الأزمة والفرص في السودان
أحمد فؤاد*
منذ أقدم العصور، حاول الإنسان أن يضع طرقًا ناجحة ومعيارية لضمان مواجهة الأزمات أو المشاكل التي تطفو فجأة إلى عالمه، واليوم يعتمد الإنسان بشكل شبه كامل على عملية التفكير العلمي في مواجهة منحنيات الحياة وعوائقها، مستهدفًا من خلالها تقليل الخسائر إلى أدنى حد ممكن، وتوفير الطاقات والجهد، ومساعدته على اختيار طريق صحيح إلى الأمام، مع شيوع المشاكل وتعقد المواقف التي نواجهها على المستويين الفردي والجماعي، ووجود عناصر تؤثر فيها ولا نملك ــ نحن ــ تأثيرًا موازيًا عليها، ثم السيول الإخبارية التي تمطرنا بها السماوات المفتوحة أمام كل قوة تريد أن تصل وأن تفرض وجهة نظرها، مع ما تحمله من أكاذيب وتلفيقات، وكل هذا يدفع إلى تبني التفكير العلمي.
لم تكن علوم الإدارة الحديثة أو فلاسفة عصر النهضة في أوروبا، هم الأسبق إلى وضع قواعد لحل المشكلات بأساليب عقلية ونقدية ذكية، بل كان العلماء المسلمون أول من وضع تلك الأفكار واستخدمها وثبتها، في مجال الفقه بالذات، بمصطلح “تحرير المسألة”، أي أن مناقشة أية قضية تشترط أولًا أن تنفي من المسألة ما ليس من أصلها والنفاذ فورًا إلى الأصل لا الانشغال بالفرع، وهي قاعدة ذهبية، قادرة وتستطيع منح المتابع القدرة على الرؤية والفهم لقلب الأزمة، وهي كفيلة بحمل الأقدام إلى موضع موقف قدم صحيح من الأطراف كلها.
الأزمة السودانية يتوجب النظر إليها بعين تدرك أين الخلل، وكيف وصل الحال إلى ما وصل إليه، وكيف تغلقت السبل وانعدمت الطرق إلى حد أدنى من التوافق الوطني، بدفع من مصلحة البلد والناس، كيف تحولت عاصمة عربية أخرى إلى نسخة من مجازر لا تزال تؤرق الوعي العربي وتلهبه بسياط من نار، هل فقد البلد الطيب كل أمل في قيادة جديدة ترفع شعار الحل الصحيح.
لا تبدأ مشكلة السودان من الثورة على الرئيس السابق عمر البشير، ولا تعد امتدادًا لصراعات طويلة ضربت أطرافه، ثم قصت منها في غفلة دولة جديدة هي جنوب السودان، ثم أن الاضطرابات في الأطراف لم تنتقل إلى العاصمة، ولم تتسبب ــ رغم خطرها ــ في هذا القتال الجنوني الذي يهدد ملايين المدنيين الذين وقعوا فجأة في أتون حرب، لا يبدو لها نهاية سريعة، ولا حاسمة.
يمكننا مناقشة الأزمة السودانية في ضوء فكري عبر أحد أهم زعماء القرن العشرين، رئيس الوزراء الهندي الأسبق جواهر لال نهرو، أحد أقطاب عالم ما بعد الاستقلال، وواحد من المؤسسين الكبار لحركة عدم الانحياز، والرجل الذي بدأ بوضع عربة الهند على قضبان الحركة العالمية، لتصل اليوم إلى كونها ثاني أضخم الاقتصاديات نموًا بعد الصين، وواحدة من الدول التي تضمها أية قائمة للدول الاقتصادية العظمى في عالم الغد.
في جلسة لزعماء دول عدم الانحياز، قبل ما يقرب من 7 عقود، في 1955، قدم نهرو أكمل وأهم خطاب لزعيم سياسي، وواحدة من درر الفكر الإنساني حين يبدع ويخطط ويجيد قراءة واقعه، كان الرجل الذي درس الفلسفة والقانون يتمتع بنظرة استراتيجية شاملة إلى محيطه، وزادته الدراسة الطويلة في أوروبا ــ مع عدم ذوبانه فيها ــ قدرة على تقديم الحلول البديلة لشعبه، وهو بالفعل وكما يوصف “مهندس الهند” الحقيقي.
ما يهمنا هنا ليس سيرة نهرو، ولا إنجازات الهند تحت حكمه وبعدها، لكن كيف رأى قائدًا ذكيًا مشاكل الدول المستقلة ــ وقتذاك ــ ولخص أزماتها، وكيف قيم سيطرة الاحتلال القديم على شؤون الدول الجديدة، حتى بعد الاستقلال، وما الذي دفع أغلب هذه الدول إلى دوائر الفشل والعجز، بحيث تتبنى شرائح معينة ومتزايدة في بعض الدول العربية خطابًا يقول صراحة أن زمن الاحتلال الأوروبي أفضل وأجمل، وحكم السلالات الملكية السابقة هو الزمن السعيد.
في هذا الاجتماع الخطير قال نهرو، طبقًا لما سجله الصحفي المصري الأشهر محمد حسنين هيكل عن اجتماع رؤساء وفود دول عدم الانحياز في باندونغ بإندونيسيا: “إن كثيرين من القادة هنا يتكلمون عن الحرية والاستقلال، يتكلمون كثيرًا، خصوصًا رفاقنا في إفريقيا، لقد سمعت كلمة الاستقلال عشرات المرات على لسان كل مندوب إفريقي، لكن ماذا نعرف عن الحرية والاستقلال فعلًا”.
“إذا تصورنا أنها إعلان المستعمر القديم أن يسحب حامياته العسكرية من أراضينا، ثم يوقع معنا قصاصات ورق، فهذا هراء، هذا سهل، وهم على استعداد أن يفعلوه غدًا، لكن ماذا بعد، إنكم تثيرون فزعي، لأنكم لا ترون أبعد من موضع أقدامكم، تستغرقون في اللحظة الماضية وليس في باللحظة القادمة، لم يعد في مقدور الإمبراطوريات أن تسيطر عليكم بقوة السلاح والجيوش، لأنه لم يعد في طاقتهم السيطرة العسكرية على كل هذه الشعوب والأراضي، ثم إنهم لم يعودوا راغبين في السيطرة الخشنة بالشكل القديم، سوف يمنحوكم قصاصات ورق تقول إنكم مستقلون، وقصاصات قماش ملونة –أعلام- تقول إنكم أصحاب سيادة، لكن ماذا بعد”.
وقفز نهرو إلى قلب المشكلة الدائمة للدول الصغيرة، قائلًا: “رعاياكم سوف يطلبون جوائز الاستقلال، وهذا من حقهم أن تتحسن أحوالهم، لكن هل تملكون فعلًا ما تمنحونه، أشك في ذلك، لأنكم جميعًا منهوبون، مواردكم منهوبة فعلًا أو هي مربوطة بنظم دولية تواصل نهبها واستنزافها”.
وقال إن “سوف تجدون أنفسكم أمام مشاكل، وسوف تندفعون إلى محاولة حلها بالاستعانة بصندوق النقد والبنك الدوليين، وطلب القروض، لكن هل سألتم أنفسكم من هم المسيطرون على البنك والصندوق، أخشى أن أقول لكم نفس جلاديكم السابقون، أي أنكم سوف تذهبون إلى الأسياد القدامى طالبين منهم أن يساعدونكم في مسؤولية الاستقلال”.
“وأي وضع هذا الذي يستنجد فيه الضحية بالجاني، حتى يساعده على تلافي آثار جريمته، جريمة الاستعمار لن تصححها قروضه، وإنما سوف تزيدها سوءاً”.
وختم نهرو خطابه التاريخي، وكأنه عراف يقرأ فنجان المستقبل، بقوله إن “الاستقلال مسؤولية مخيفة وثقيلة، محددًا طريقة السيطرة الغربية –التي كانت جديدة وقتها- فالسيطرة الجديدة لن تكون بالجيوش ولكن بالتقدم، التقدم هو وسيلة السيطرة الجديدة، أنتم إذن متقدمون فأنتم سادة، أنتم متخلفون إذن فأنتم مقهورون، مهما وقعتم من أوراق أو رفعتم من أعلام أو رددتم من أناشيد”.
يمكننا بغير تجنٍ ولا حيرة أن نرد كل أسباب التخلف العربي إلى واقع السيطرة الغربية على شؤوننا، ونشوء طبقة من الحكام تستند فعلًا وقولًا على الأجنبي في شرعيتها واستمرارها وبقاءها، السودان التي استقلت في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي عن بريطانيا، لا تزال مقيدة لصالح الشركات الغربية العابرة للقارات والجنسيات، ورغم الموارد الطبيعية الوفيرة لا تزال منهوبة بالكلية، ولم ينعكس عائدها على شعبها في أي وقت، بل حتى وصل النهب إلى أن أغنى وأخصب أراضي العالم لا توفر لشعبها حاليًا رغيف الخبز!
أزمة السودان رغم إنها جرح جديد نازف في الجسد العربي المنهك والمثقل بمشاكله وواقعه، الملغز والمعجز في آن، إلا أنها تحمل مفاتيح عدة للحل أو للمستقبل العربي، فالسودان بإمكانياتها الهائلة في مجال الأراضي الزراعية والموارد غير المستغلة، والمعادن الهائلة المطمورة في باطنها، من ذهب ويورانيوم، هي أول طريق عربي لتحقيق الأمن القومي للأمة بمعناه الشامل، عن طريق ضمان غذائها وتأميم مواردها لصالح شعوبها، ثم إنها قبل أي شيء آخر، الضفة أو المعبر بين عالمين كل منهما في حاجة للثاني شديدة وملحة، العالم العربي وقارة إفريقيا.
وفي قلب الواقع السوداني، فإن كل أطرافه مرتهنون بالكامل للخارج، للولايات المتحدة بشكل أساسي، ثم للكيان الصهيوني إقليميًا، وإلى أن تملك الجماهير الحقيقية، صاحبة المصلحة الأولى في البلد، قرارها وتتسلح بشجاعة المواجهة، وتقدم هي لنفسها وبنفسها البديل والحل، لن يجد جديد، سوى أن الوضع العربي صار مرشحًا لاستنساخ واستعادة أسوأ الكوابيس، بمعنى أبسط، صوملة الدول العربية ودمارها النهائي.
* المصدر: موقع العهد الاخباري
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع