ثابت العمور *

اقتتال العسكر وصراعهم على السلطة في السودان ليسا أمراً طارئاً، ففي الذاكرة المعاصرة، هناك 3 انقلابات عسكرية انتهت كلّها باستيلاء العسكر على السلطة، فيما فشلت 17 محاولة انقلابية أخرى.

تدحرج المشهد السوداني صوب السيناريو الأكثر تعقيداً وصعوبةً، واستبدل لغة الحوار والتوافق بلغة الرصاص التي بدت اللغة الوحيدة التي يتحاور بها طرفا الصراع، فدخل المشهد السوداني في حرب بين مكونين عسكريين – قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) والجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان- لا منتصر فيها، الأمر الذي يأخذ السودان بعيداً في التداعيات التي لا تستبعد اندلاع حرب أهلية في صراع مفتوح على كل الاحتمالات.

بدأت حيثيات التدحرج تتصاعد من الخلافات إلى الصدامات بين الشريكين العسكريين رئيس المجلس السيادة السوداني البرهان ونائبه حميدتي منذ انقلاب تشرين الأول/أكتوبر 2021.

وبينما كان مقرراً الذهاب إلى توقيع اتفاق نهائي بين الفرقاء في 6 نيسان/أبريل الجاري، يتم بموجبه تسليم السلطة للمدنيين ودمج قوات الدعم السريع التي يقودها حميدتي في الجيش السوداني، استدار المشهد إلى القتال المسلح والاشتباك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع التي كان البرهان يصفها حتى الأمس القريب قائلاً: “الجيش والدعم السريع شيء واحد”، ليصبح الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023 يوماً مشهوداً في ذاكرة الشعب السوداني على صراع الجنرالات.

اقتتال العسكر وصراعهم على السلطة في السودان ليسا أمراً طارئاً على المشهد السوداني، ففي الذاكرة المعاصرة، هناك 3 انقلابات عسكرية انتهت كلها باستيلاء العسكر على السلطة، فيما فشلت 17 محاولة انقلابية أخرى.

الجديد في الاقتتال الدائر أنه بدأ سياسياً بين شريكين عسكريين كانا حليفين، وبدأ جغرافياً في المركز، أي أن شرارته الأولى انطلقت من العاصمة الخرطوم التي بدأت ساحة قتال محكومة بحرب الشوارع، فيما كان الاقتتال في السابق يبدأ وينتهي في الأطراف.

حتى اللحظة، لا يوجد محدد واضح يُفسر توقيت ساعة الصفر لبدء الاقتتال وسبب بدئه، ذلك أن الاشتباك حدث في اليوم الذي كان مقرراً فيه عقد اجتماع بين البرهان وحميدتي.

الرواية الوحيدة -المفسرة لساعة الصفر- التي يمكن وصفها بالرسمية قدَّمتها وزارة الخارجية السودانية في بيان نشرته وكالة الأنباء السودانية “سونا”، جاء فيه: “إن الأحداث المؤسفة التي بدأت السبت نتجت من تمرد قوات الدعم السريع على القوات المسلحة السودانية في عدد من المواقع في العاصمة وبعض المدن الأخرى، إثر الهجوم الذي بدأته قوات الدعم السريع على مقر سكن رئيس مجلس السيادة الانتقالي في بيت الضيافة المجاور للقيادة العامة للقوات المسلحة”.

وأضافت وزارة الخارجية السودانية أنَّ قائد الجيش السوداني البرهان أمر بحل قوات الدعم السريع ووصفها بالمجموعة المتمردة، داعياً مقاتليها إلى الانضمام إلى القوات المسلحة، وهو ما ذهب إليه بيان الجيش السوداني الصادر في 17 نيسان/أبريل الجاري، أي بعد يومين من بدء الاقتتال الذي دعا فيه مقاتلي قوات الدعم السريع إلى الانضمام إلى القوات المسلحة.

وقال الجيش السوداني: “ندعو جميع أبناء وطننا من قوات الدعم السريع، الذين قدموا لبلدهم خدمات كبيرة لا يمكن إنكارها، إلى الانضمام إلى القوات المسلحة لخدمة وطنهم في صفوفها، ونحن نربأ بهم أن يكونوا مطية لخدمة أهداف وأجندة لشخص واحد”، في إشارة إلى قائد قوات الدعم السريع حميدتي.

المفارقة هنا تكمن بين وصف البرهان قوات الدعم السريع بأنها قوة متمردة مطلوب حلها، ووصف قائدها حميدتي بالمجرم وتحميله مسؤولية الدمار الذي تشهد البلاد، ودعوته قوات الدعم السريع إلى الانضمام إلى الجيش، علماً أنَّ آلية دمجها ومدة انضمامها إلى الجيش كانا أحد الأسباب الظاهرة لتفجر الصراع الشخصي بين الرجلين.

لم تتأخّر رواية حميدتي في تفسير تفجر الصراع، وإن بدت مختلفة عن رواية البرهان الذي اكتفى بمخاطبة قوات الدعم السريع للانضمام إلى الجيش، وكانت موجهة إلى الداخل السوداني، فيما جاءت رواية حميدتي موجهة إلى الخارج، وتحديداً المجتمع الدولي.

وقد جاء في الرسالة التي كتبها باللغة الإنكليزية، ونشرت في حسابه الرسمي في “تويتر”: “على المجتمع الدولي أن يتحرك الآن ويتدخل في جرائم الجنرال السوداني عبد الفتاح البرهان، وهو إسلامي متطرف يقوم بقصف المدنيين من الجو. جيشه يشن حملة وحشية ضد الأبرياء، ويقصفهم بالميغ”.

الملاحظ أنَّ حميدتي -بعكس البرهان- أخذ الصراع الحاصل في المشهد السوداني بعيداً إلى منحنى خطر، لا في وصفه البرهان بالإسلامي المتطرف، ولكن في قوله: “نحن نحارب الإسلاميين الراديكاليين الذين يأملون إبقاء السودان معزولاً في الظلام وبعيداً من الديمقراطية”.

الخطيئة الأخرى التي وقع فيها حميدتي هي اختياره منبراً إسرائيلياً للتعبير عن روايته؛ ففي 19 نيسان/أبريل الجاري، ظهر المستشار السياسي لقائد قوات الدعم السريع يوسف عزت متحدثاً إلى قناة صهيونية عن الأحداث والمعارك الدائرة في العاصمة الخرطوم.

وقد هاجم من سمّاهم “المتطرفين”، وعلى رأسهم قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، قائلاً إن العملية التي تخوضها قواته “كبيرة وتتورط فيها جهات كثيرة يرعاها تنظيم متطرف”، متجاهلاً بذلك موقف الشعب السوداني ورفضه التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي.

استدعاء حميدتي لمحاربة الإسلاميين في روايته، وإن بدأ ظاهرها تلويحاً وتحذيراً للغرب، كان توظيفاً في غير محله، وذلك بمعاداة مكوّن سوداني – الإسلاميين – على حساب ضمان دعم الخارج له في معركة حصرية وشخصية بينه وبين البرهان، وهو ما أفضى بجماعة الإخوان المسلمين في السودان إلى تقديم روايتها وموقفها. وقد هاجمت قوات الدعم السريع معلنةً دعمها للجيش السوداني.

وقد جاء في بيان صادر عن المراقب العام لإخوان السودان عادل على الله إبراهيم في 23 نيسان/أبريل الجاري: “إننا ندعم القوات المسلحة وهي تخوض معركة الشرف والكرامة، وتدافع عن الوطن وسيادته بكل رجولةٍ وبسالة، وندعو الشعب السوداني وقواه الوطنية إلى مساندة قواته المسلحة، رمز السيادة، في معركة لا تعرف الحياد”.

وكان حزب المؤتمر الوطني السوداني الحاكم سابقاً دعا في بيان نشره في حسابه في موقع “تويتر” “قيادة الدعم السريع إلى الانصياع التام لأوامر القوات المسلحة التي يتبع لها وفق القانون ويأتمر بأمرها وتعليماتها، وتحكيم صوت العقل وتجنيب الوطن شرور الحرب ومنع الفتنة وحقن الدماء”.

تذهب مسارات الاقتتال الحاصل والحرب الدائرة بين الجنرالين البرهان وحميدتي بالمشهد السوداني إلى جملة سيناريوهات ممكنة ومتوقعة يمكن إيجازها في التالي:

– استمرار القتال بين الطرفين من دون حسم أي طرف للمعركة، لا سيما في ظل جملة معطيات من بينها توازن القوة بين الطرفين، والأهم أنَّ الباحة الخلفية للصراع بين الرجلين لا تخلو من حسابات وتدخلات خارجية إقليمية ودولية، وبالتالي إن أي وقف للقتال يقتضي توافق مصالح الأطراف الخارجية والتقاءهم.

– سيناريو تمدد القتال وتدحرجه إلى خارج الجغرافيا السودانية ليصبح صراعاً إقليمياً، نظراً إلى التكوين الإثني والقبلي للأطراف المتحاربة، وتحول الصراع إلى حرب عنصرية وقبلية يصعب السيطرة عليها وضبط إيقاعها، لأنَّ هزيمة أحد الطرفين تجعل الإقليم الذي ينتمي إليه الطرف المهزوم موضع انتقام، وبالتالي قد ينعزل وينفصل عن جغرافيا الوحدة السودانية، وهو سيناريو مرشح وحاضر في بلد يعاني في الأساس تلك الصراعات، ما يعني تفكك السودان اجتماعياً وسياسياً وجغرافياً.

– سيناريو خروج كل من حميدتي والبرهان من المشهد بالاغتيال أو الاعتقال أو الهروب خارج البلاد. وبالتالي، سيصبح الجيش هو المتحكّم في مسارات المشهد بذريعة قدرته وحده على رأب الصدع، وخصوصاً إذا اقترب خطوة من المدنيين، لكن من دون تسليمهم كامل السلطة.

– سيناريو دخول قوات جهوية عسكرية سودانية على خط الصراع، لا تكون محسوبة على الجيش أو قوات الدعم السريع، مثل درع الشمال وأبو عاقلة كيكل والصورامة، وتمركز كل قوة في منطقة أو حي تسيطر عليه وتتحكّم فيه، فتتحول الخرطوم إلى مربعات أمنية، وبالتالي يصبح الوضع حرباً أهلية: الجميع ضد الجميع.

– سيناريو حسم البرهان للصراع، ما يعني بقاء العسكر في المشهد على حساب القوى المدنية السياسية التي غلب الغموض على موقفها، وخصوصاً ائتلاف الحرية والتغيير، في انتظار أي الطرفين قد يحسم الصراع لمصلحته، وإن كان موقف إخوان السودان تقدم خطوة باتجاه البرهان والجيش، إلا أن عودتهم إلى المشهد مستبعدة. يُذكر أنَّ الحزب الشيوعي السوداني تقدّم أيضاً خطوة باتجاه الجيش.

– سيناريو توقف القتال بين البرهان وحميدتي، وإن بدا ذلك مستبعداً، إلا أنه ممكن ومتاح إذا قررت الأطراف الدولية والأممية فعل ذلك وكان تقديرها أن الطرفين لن يستطيعا حسم الصراع لمصلحتهما، ليعود المشهد إلى التأجيل والتعطيل والدخول مجدداً في نفق تمديد المرحلة الانتقالية.

– سيناريو لجوء حميدتي إلى دارفور التي ينتمي إلى إحدى قبائلها، وتحول الإقليم إلى معقل له، وبالتالي خروجه عن السلطة المركزية للبلاد، وتجنيد المزيد من قوات الدعم السريع هناك، وتسليحها من خلال الحدود الغربية للسودان مع ليبيا وتشاد، ما يعني استمرار الحرب.

هذا السيناريو قد يعزز حالات الانفصال لدى أقاليم ومجموعات قبلية في السودان، لا سيما في ظل انشغال الجيش السوداني في قتال قوات الدعم السريع، وهو سيناريو تفكيك السودان ودخوله في صراعات جديدة، على غرار سيناريو ليبيا والصومال.

لا يبدو أن أزيز الرصاص سيتوقف في شوارع السودان قريباً في الصراع الدائر بين الجنرالين، في معركة بقاء محدداها رهان الاستقواء بالخارج واستمالة الاصطفاف في الداخل، ولا سيما أن الرجلين متمسكان بموقفهما. وقد قررا الاحتكام إلى الرصاص في معركة المنتصر فيها خاسر.

* المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع