أحمد الدرزي

من الواضح أن يوم القدس العالمي لهذا العام، يتباين كلياً عن كل أيام القدس، التي أُقيمت منذ أن تم إعلانه عام 1979، بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران، وإطلاق مؤسسها الإمام الخميني هذه المناسبة، كمشروع يحدد طبيعة السياسات الخارجية لإيران ما بعد الثورة، ولاستقطاب كل القوى العالمية، في كل أطيافها، التي تؤمن بأن محور الصراع مع الهيمنة الغربية الناهبة لشعوب العالم، هو في فلسطين التي اختزلت في أهميتها، سياسياً وجغرافياً ودينياً وثقافياً، أسَّ الصراع الدولي المستمر كنتيجة لما بعد الحرب العالمية الثانية.

جاء هذا التبني للقضية الفلسطينية في أخطر مرحلة تمرُّ فيها المنطقة العربية، بعد إخراج مصر لنفسها من حالة الصراع مع “إسرائيل”، وتفريطها في دورها الإقليمي، على المستويين العربي والأفريقي، وفقدانها أمنها القومي عند حدودها الشمالية، التي بقيت مصدراً مستمراً لإضعافها. وترافق ذلك مع بدء انكفاء الاتحاد السوڤياتي، الذي كان يتعاطى مع “الوجود الإسرائيلي”، من موقع الخصومة الأيديولوجية، وليس من منطلق عدم الحق في الوجود على أرض مغتصبة، وطرد شعب له جذوره التاريخية. وهذان الحدثان تسبّبا بانكشاف المنطقة العربية بأكملها أمام تهديدات اجتياح أميركي إسرائيلي لكامل المنطقة العربية، التي كانت في الأساس شبه منزاحة لتقبل العصر الإسرائيلي، والتعاون معه، فكان لهذا التبني الدور البارز في عرقلة الانكشاف، ثم قلب المعادلة، بدءاً من اتفاق نيسان/أبريل 1996.

وعلى الرغم من الأثمان الباهظة لتولي إيران مسؤولية تبني القضية الفلسطينية، انطلاقاً من شرعية تأسيس النظام السياسي الجديد، والذي تحولت فيه فلسطين إلى جزء لا يتجزأ من شرعيته القانونية وشرعيته الشعبية، فإن ذلك ارتدّ عليها إيجاباً، ومنحها شرعية الدور الإقليمي المتعاظم، انطلاقاً من أهمية فلسطين في العقل الجمعي لأبنائها، ولكل الحركات والقوى الشعبية والدولية، والتي تتيقّن أهميةَ قضية فلسطين في الصراع مع القوى الغربية المهيمنة.

تُوحي أهمية التحشيد الكبير في هذا اليوم لهذا العام، بأن هناك قفزة كبيرة في اتجاه المنازلة الكبرى، بعد كل المتغيرات العالمية بعد الحرب في سوريا، ثم اندلاع الحرب في أوكرانيا، والتي أكدت من اللحظة الأولى، أنها مواجهة أقرب إلى الحرب العالمية الثالثة، بالعنوان الروسي الأوكراني، الذي يُخفي خلفه اصطفافين دوليين واضحين في معالمهما، بحيث تقف القوى الآسيوية الناهضة، وخصوصاً الصين والهند وإيران، بالإضافة إلى دول البريكس، ودول منظمة شانغهاي، خلف روسيا ومعها، في مواجهة الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى اليابان وكوريا الجنوبية.

دفع العجز الأميركي والعجز الغربي عن الانتصار في كِلتا الحربين كثيراً من دول العالم إلى استثمار هذا العجز، وإعادة قراءة المشهد الدولي المتحول، بطريقة مغايرة عن السابق، وأتاح لها ذلك الأمر هامشاً كبيراً للحركة، وإظهار اصطفافاتها الجديدة بكل قوة. وهذا ما رأيناه في الموقف السعودي والإماراتي، عبر الوقوف مع روسيا، على نحو داعم لتقويض العقوبات الغربية على روسيا، الأمر الذي انعكس على موقف الدولتين بشأن التطبيع، فخفَّت حماسة الإمارات العربية المتحدة للتطبيع مع “إسرائيل”، وأوقفت المملكة العربية السعودية اندفاعتها إلى ذلك؛ أوقفتها عند الحدود التي وصلت إليها.

ألقت الاصطفافات الجديدة ظلالها الإيجابية على منطقة غربي آسيا، فدفعت كلاً من تركيا والسعودية والإمارات ومصر إلى الانتقال في التعاطي مع صراعات غربي آسيا إلى زاوية مغايرة، بعيدة عن المصالح الأميركية والإسرائيلية، والذهاب نحو التنسيق مع إيران وروسيا والصين، بعنوان العالم الجديد متعدد الأقطاب والسياسات والثقافات، وضرورة حجز أدوار تليق بها، ينسجم مع طموحات كل دولة، بما تملكه من أوراق قوة.

وعلى الرغم من الملامح الكبرى للتوافق المستجدّ بين دول غربي آسيا، والذهاب نحو ضرورة إيجاد تسويات سياسية بين دوله، والعمل على استقرار المنطقة لإطلاق عملية التنمية والنهضة، بعد أن استنزفتها الحروب على مدى أربعة عقود ونَيِّف، فإن التباين ما زال مستمراً بشأن وضع مسألة بقاء “إسرائيل”. فالمحور الممتدّ من طهران إلى بغداد ودمشق وبيروت وغزة وصنعاء، متيقن من أن الاستقرار لا يمكن أن يتحقق في ظلّ استمرار هذا الكيان في البقاء، وهو منبع الفوضى والحروب وعدم الاستقرار، وهو أساساً قائم على الاغتصاب “والغصب حرام”، بينما سائر الدول، بما في ذلك كل من روسيا والصين، لا تراه كذلك، على رغم إجماعها على ضرورة حل القضية الفلسطينية، عبر الاعتراف بـ”حق الوجود لدولتين”، وفق قرارات الأمم المتحدة.

تهيَّأت الظروف الدولية الملائمة لمحور القدس، باسمه الجديد، بعد أن راكَمَ قوته على مدى أكثر من أربعة وأربعين عاماً، وتعرضه لأشد الحروب الخارجية والداخلية الأهلية، المترافقة مع عقوبات دولية وغربية صارمة، وهو الآن في موقع التحدي الأخير، وفي حاجة ماسَّة إلى الحرب الكبرى مع الولايات المتحدة والغرب في فلسطين المحتلة، أو دفعهما إلى الإقرار بعدم القدرة على المواجهة المباشرة، وإجبارهما على تفكيك هذا الكيان وإعادة أهله الحقيقيين إليه.

قد تكون هذه الفرصة هي الأهم، فما تمرُّ فيه منطقة غربي آسيا من متغيرات سريعة يدفع نحو تحديد الأدوار الإقليمية لكل الدول، ويحقق الاستقرار لسوريا جديدة. وما مصطلح محور القدس الجديد البديل عن مصطلح محور المقاومة، سوى دليل مؤكّد لانتقاله من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم، وأن زمن جني ثمرات العمل الدؤوب والصابر حان.

إن تحقيق ذلك الأمر سيجعل هذا المحور في منزلة قطب الرحى الإقليمي، فامتداده من شرقي المتوسط إلى حدود أفغانستان وباكستان، سيجعله أساس اكتمال المشروع الأوراسي، عبر سيطرته على الحركة بين الشمال والجنوب، وسيجعله أيضاً أساس نجاح المشروع الصيني، “حزام واحد طريق واحد”، في حركته بين الشرق والغرب. وهو إذا استطاع أن ينجز خطوته الأخيرة خلال هذا العام والعام المقبل، فإنه سيقدّم خدمة كبيرة إلى دول المنطقة والعالم وشعوبهما، والدفع نحو بناء نظام إقليمي جديد، مبني على التعاون بين أعمدة الأمة الأربعة، أي: العرب والأتراك والكرد والإيرانيين، والعودة بالمنطقة إلى سياقها التاريخي الحضاري. فالقدس هي من يعطي حامل رايتها، حقاً، دوره الذي يليق به وبها، إقليمياً ودولياً.

  • المصدر: الميادين نت
  • المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع