إيهاب شوقي*

سواء صحت محتويات الوثائق الأمريكية المسربة أو لم تصح، فإن واقعة التسريب صحيحة – وهي وثائق صحيحة وسرية باعتراف البنتاغون – فإننا أمام لحظة تاريخية فارقة في موازين القوى الدولية والإقليمية ولحظة فارقة في تقييم تراجع قوة من أعتى وأقوى إمبراطورية في التاريخ الحديث وهي الولايات المتحدة.

مبدئيا فنحن أمام أحد احتمالين، الأول هو صحة محتوى الوثائق بشكل دقيق لم يشوبه التحريف أو التعديل، والآخر هو الدعاوى الأمريكية بأن هناك أرقاما غير دقيقة ومعلومات شابها بعض التحريف، ولكن الثابت والمؤكد، هو الاعتراف بأن الأمن القومي الأمريكي قد تعرض لضربة كبرى بتسريب وثائق سرية للغاية، وأن هذا التسريب هو من أخطر الخروقات الأمنية منذ تسريبات موقع ويكيليكس في عام 2013 والتي شملت ما يزيد على 700 ألف وثيقة ومقطع فيديو وبرقية دبلوماسية.

ولكن الأمر أخطر هذه المرة لأن الوثائق تتعلق بمعركة دائرة وأحداث راهنة وليس فقط معلومات عن الماضي لأحداث فائتة.

ولعل المعضلة الرئيسية في هذه القضية تتعلق بالتداعيات المرتقبة لهذا التسريب وليس فقط لمحتوى التسريبات والتي لم يكشف معظم ما تسرب منها عن مفاجآت صادمة، فلعل الجميع يعرف أن أمريكا تتجسس على حلفائها وأنها تحارب في أوكرانيا كتفا بكتف وتعطي جميع المعلومات المتاحة لديها للقوات التي تحارب الروس، وأن هناك قوات وميليشيات من جميع الدول تحارب مع أوكرانيا، وأن هناك دولا عربية تتبع سياسة التحوط وتمسك العصا من المنتصف في علاقاتها مع كل من أمريكا وروسيا.

لكن التداعيات المقصودة هنا تتعلق بالمستوى الداخلي الأمريكي، حيث يبرز سؤالا مفصليا عن هوية القائم بالتسريب، وهل هو فرد أم جهة داخلية وما هي أهدافه، وهل هناك حليف استخباراتي لأمريكا من الدول التي تشارك معها المعلومات مثل منظمة العيون الخمس ” Five Eyes” والمعروفة اختصارا “FVEY”، والتي تشمل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، أم أن هناك جواسيس لدول خارجية قامت بالتسريب لأهداف تتعلق بمصالح هذه الدول.

والحقيقة أن جميع هذه الاحتمالات تمثل كارثة كبيرة على الأمن القومي الأمريكي يمكن مناقشة جوانب خطورتها الكارثية في مستويين رئيسيين:

– المستوى الأول هو الاختراق الخارجي، وهو يعني نجاح تجنيد الجواسيس داخل البنتاجون أو خيانة من أحد الحلفاء وهو ما يعني عدم متانة التحالف.

– المستوى الثاني هو الاختراق الداخلي وهو ما يعني تمردا عسكريا أو وصول الاستقطاب بين أجنحة الحكم إلى مراحل خطيرة يمكن معها خيانة الأمن القومي وتسريب وثائق لخدمة أهداف حزبية على حساب أمن الولايات المتحدة.

ولا شك أن الاتهامات الأمريكية المباشرة كالعادة تشير إلى روسيا أو الصين دون تقديم أدلة، رغم أن هذه الاتهامات تفيد روسيا بإعطائها قوة اختراق للبنتاجون رغم أن روسيا لم تدعيها وتحرص على النفي، ولكن بتسرب من تحليلات الخبراء الأمريكيين قناعات تفيد باستبعادهم لوقوف روسيا وراء هذه التسريبات.

ولعل العسكري السابق والخبير الأمريكي سكوت ريتر، المفتش السابق في مشاة البحرية الأمريكية، لخص استبعاد روسيا بالقول إن الجيش الروسي يمكنه جمع هذه المعلومات والتوصل إلى استنتاجاته الخاصة في هذا الصدد دون الحاجة إلى تلك الوثائق، وهو الأمر الذي ينطبق على جميع البيانات الواردة في الوثائق المسربة تقريبا.

وهنا يتعاظم وجود احتمال وقوف جهة تتحفظ على سلوك أمريكا وتفرغها للمعركة الدولية واستهلاك مواردها وذخيرتها ومخزونها السياسي دوليا في معركة خاسرة باعتراف محتوى الوثائق، وهي تبدو رسالة للرأي العام الأمريكي بفشل إدارة بايدن في التعاطي مع حقائق القوة واستنزاف موارد أمريكا وأن الإدارة تكذب على الرأي العام الأمريكي والدولي في حين تعترف وثائقها بخسائر أوكرانيا وعدم وجود أفق واضح لانتصارها، بل الأمر الأهم هو أن حلفاء أمريكا انفضوا عنها وبدأوا في التحالف مع الروس وإمدادهم بالأسلحة بعد ابتعاد أمريكا عن منطقة الشرق الأوسط وتفرغها التام للمعركة في أوكرانيا.

وهذه الجهة قد تكون تابعة للجمهوريين والذين لهم ثارات مع الجنرال مارك ميلي بسبب إيران والصين، حيث كتبت سوزان غلاسِر مقالة مطولة في مجلة “ذا نيويوركر” الأميركية كشفت فيها أن رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية الجنرال مارك ميلي تحدث آخر مرة مع الرئيس الأميركي أنذاك دونالد ترامب في الثالث من يناير 2021، حيث اجتمعا في البيت الأبيض، وكان موضوع النقاش برنامج إيران النووي. فخلال الأشهر الأخيرة من ولاية ترامب، انخرط الجنرال ميلي في جهود حثيثة لضمان عدم دخول ترامب في صراع عسكري مع إيران كجزء من حملته الهادفة لإلغاء نتائج انتخابات 2020 والبقاء في السلطة.

وعلى الجانب الصيني، واستمرارا للعاصفة التي فجرها كتاب “الخطر” للكاتبين الصحافيين “بوب وودوارد، وروبرت كوستا”، طالب سيناتور عن الحزب الجمهوري بالولايات المتحدة الأمريكية، بمعاقبة الجنرال مارك ميلي، بسبب تقارير تفيد تحايله على الرئيس الأسبق دونالد ترامب، والتواصل مع نظيره الصيني، بشأن نوايا ترامب نحو الصين، وقدرته على تقويضها.

وقد نشر موقغ “افيا برو” الروسي، وهو موقع قريب من المخابرات الروسية، خبرا لافتا يقول أنه وفقا لمعلومات الموقع، فإن سبب تسريبات الوثائق السرية يتعلق بالتصريحات الصريحة لرئيس هيئة الأركان المشتركة، الجنرال مارك ميلي، بشأن النزاع الأوكراني. وهو ما سيؤدي إلى استقالته في الخريف المقبل باعتبار أنه الحل الأمثل للإدارة لتهدئة الرأي العام.

هنا يبرز أيضا احتمال لم تناقشه وسائل الإعلام وهو إمكانية ضلوع “إسرائيل” في هذه العملية باعتبارها مستفيدة، لأنها غير راضية عن الجنرال مارك ميلي لخشيته من الحرب الشاملة مع إيران ووقوفه حجر عثرة أمام تدخل أمريكا وانخراطها في مغامرات الكيان الإقليمية لنتنياهو، وبسبب استياء “إسرائيل” من تفرغ أمريكا لأوكرانيا ومحاولات توريط الكيان في العداء مع الروس وهو ما تراه “إسرائيل” تخليا عن الكيان من جهة، ودفع لتنامي العلاقات بين روسيا وإيران من جهة أخرى.

ولعل ما رشح عن “إسرائيل” في الوثائق قد يفيد نتنياهو لأنه يرجح نظرية المؤامرة ضده باعتبار أن الموساد يدعم الاحتجاجات ضده، وأن أمريكا تقف بالفعل وراء الاحتجاجات.

وقبل التوصل لخلاصة نستنتج منها هذا السيناريو يمكن مراقبة بعض التصريحات والاخبار كما يلي:

1 – بحسب سكوت ريتر، فإذا كان مصدر التسريب داخل الجيش الأمريكي، فهذا يعني أن هناك من يعارض الهجوم الأوكراني المضاد القادم، وأن هذا الشخص يعتقد أن نشر المعلومات الحساسة المتعلقة بالاستعدادات الأمريكية قد يساعد في إحباط هذا الهجوم.

2 – صرح المحلل السابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ريموند ماكغفرن، بأن رفض الولايات المتحدة الاعتراف بالوضع الفعلي في أوكرانيا، قد يتسبب بفشل خططها الخاصة بروسيا.

وأوضح ماكغفرن لقناة Judging Freedom على يوتيوب، أن الولايات المتحدة ستخسر أمام روسيا، بسبب مبالغتها في تقدير قدرات القوات الأوكرانية، مشيرا إلى أن تأزيم الصراع في أوكرانيا أكثر، لن يؤدي إلى انتصار الولايات المتحدة، أو أية دولة أخرى، بل سيتسبب باندلاع حرب نووية.

ووفقا لماكغفرن، فإن التسريب الأخير لوثائق البنتاغون التي تصف حالة القوات الأوكرانية وخطط واشنطن وحلف الناتو لتعزيزها، فضح أكاذيب الجنرال مارك ميلي، ووزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن حول قدرات القوات المسلحة الأوكرانية، منوها بأن التقييم غير الصحيح للوضع يمكن أن ينقلب ضد الولايات المتحدة.

3- قال أربعة مسؤولين إسرائيليين لموقع “أكسيوس” إن مسؤولي الدفاع والاستخبارات احتجوا على بيان الجنرال ميلي خلال جلسة استماع في مجلس النواب الأسبوع الماضي حول البرنامج النووي الإيراني، وطلبوا توضيحات من إدارة الرئيس جو بايدن.

وقال مسؤول إسرائيلي كبير لموقع “أكسيوس” إن مسؤولين إسرائيليين كبارا آخرين من عدة وكالات تعمل في قضايا إيران اتصلوا بنظرائهم الأمريكيين وأعربوا عن قلقهم بشأن تصريحات ميلي. كما طلبوا من ميلي توضيح ملاحظاته أو التراجع عنها.

بالتالي قد تكون جهة موالية لليمين الصهيوني والأمريكي، أي لنتنياهو وترامب، هي التي وقفت وراء هذه التسريبات لتخريب التفرغ الأمريكي لأوكرانيا ولإعادتها للمنطقة وتحالفاتها بها ولإنهاء هذا المسار الذي سينتهي بانتصار الروس وتعاظم التحالفات بين روسيا وإيران والصين واستقطاب دول أخرى كانت حليفة لأمريكا.

* المصدر: موقع العهد الاخباري

* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع