عريب الرنتاوي *

لطالما كان تحدي “الحرب على جبهتين” هاجساً تخشاه كيان “إسرائيل” وتسعى لتفاديه، سواء في حروبها التقليدية الخاطفة مع الجيوش العربية أو في صراعها المديد والمرير مع فصائل المقاومة.

صواريخ سوريا، كما صواريخ لبنان، ما كان لها لتنطلق صوب أهدافها في كيان “إسرائيل”، في ذروة عدوانها على الأقصى والقدس وفلسطين، لولا ضوء أخضر صدر عن دمشق وضاحية بيروت الجنوبية، بصرف النظر عن هوية صاحب اليد التي ضغطت على الزناد.

هذه هي الخلاصة التي انتهت إليها تقديرات الصهاينة ومراجعاتهم… هم يعرفون أن “الفاعل” فلسطيني على الأرجح. ربما حماس في جنوب لبنان أو الجهاد أو القيادة العامة في جنوب سوريا، لكن الرسالة التي انخرط المستويان السياسي والأمني الصهيوني في تحليل مضامينها وأبعادها تتعلق أساساً بنظرية “وحدة الساحات”، وهذه المرة، “اتساعها” لتشمل ما هو أبعد من حدود فلسطين التاريخية/الانتدابية.

ولطالما كان تحدي “الحرب على جبهتين” هاجساً تخشاه كيان “إسرائيل” وتسعى لتفاديه، سواء في حروبها التقليدية الخاطفة مع الجيوش العربية أو في صراعها المديد والمرير مع فصائل المقاومة، وحتى في حرب تشرين الأول العربية الصهيونية، ظلت كيان “إسرائيل” تعيش هاجساً بهدف خلق الشرخ وتوسيعه بين الجبهة الشمالية (السورية) والجبهة الجنوبية (المصرية)، وكان لها ما أرادت، بعدما كشف الراحل أنور السادات نيته الخبيئة لخوض حربٍ تحريكية، وليست حرباً تحريرية.

وفي المواجهة الأخيرة، طغى هاجس القتال على جبهات عدة على التفكير الاستراتيجي الصهيوني، حتى إن الاستخبارات الإسرائيلية بررت رد الفعل الصهيوني “المضبوط” و”المحسوب” على صواريخ الشمال والجنوب بأنه يندرج في سياق استراتيجية فصل الساحات، ونظرت إلى نتائج هذه الجولة المحدودة من التصعيد والمواجهة بوصفها “مكسباً صهيونيا”، لمجرد أن “تل أبيب” لم تجد نفسها مرغمة على خوض القتال في ساحات عدة، وعلى أكثر من جبهة (؟!).

فلسطينياً، تطور مفهوم “وحدة الساحات” في معركة “سيف القدس” قبل عامين تقريباً، وتعزز بالمواجهة التي خاضتها حركة الجهاد الإسلامي مع كيان كيان “إسرائيل” العام الفائت، والتي حملت الاسم ذاته.

منذ ذلك التاريخ، دخل المفهوم في عمق التفكير السياسي الفلسطيني، ولا سيما بعد النجاحات التي سجلتها الضفة الغربية في الدخول على خط المواجهة مع الاحتلال من أوسع أبوابها، لتصبح عاملاً مقرراً في معادلات الصراع الفلسطيني – الصهيوني.

هذا التطور لم يكن ليحدث تلقائياً وعفوياً، بل كان ثمرة جهد منظم ودؤوب انخرطت فيه حماس والجهاد وفصائل وأذرع أخرى، تزامناً مع صعود “جيل الألفية” من الشباب الفلسطينيين، وتنامي دوره في مقارعة الاحتلال، وانتشار ظاهرة “المقاومة الفردية”، لتصبح الضفة واحدة من أهم ساحات الاشتباك مع الاحتلال، وبصورة وضعت قادة الاحتلال من المستويين الأمني والسياسي وجهاً لوجه أمام أسوأ كوابيسهم.

عودة إلى الصواريخ
ثمة ما يشي بأن قراراً واحداً كان يقف وراء إطلاق الصواريخ من جبهتين. الصواريخ المستخدمة هنا وهناك كانت من النوع القديم الذي استخدمته المقاومة الفلسطينية قبل اجتياح لبنان واحتلال بيروت (كاتيوشا وغراد).

وقد ظلّت حتى يومنا هذا “مجهولة الأب”، فلم يعلن أحد مسؤوليته عن إطلاقها، حتى حماس، التي قيل إنها وراء صواريخ لبنان، فقد ردّ نائب رئيس مكتبها السياسي في الخارج موسى أبو مرزوق على سؤال عن هذه المسألة بـ”تجهيل الفاعل” والاكتفاء بالقول إن قضية الأقصى تخص كل الفلسطينيين والعرب والمسلمين، وإن الثأر له قضية تجتذب فاعلين كثراً، في محاولة واضحة منه لـ”توزيع الدم على القبائل”.

وفي ظني، هذا الموقف كان مدروساً، حتى لا يتحمل فريق بعينة تبعات المسألة بمختلف أبعادها، وحتى يتفادى الحلفاء والأشقاء الحرج والتداعيات في ظروف غير مؤاتية.

إذاً، إبقاء مسألة الصواريخ في الإطار الفلسطيني للصراع كان تكتيكاً مطلوباً بذاته، وعدم تقدم فصيل فلسطيني وازن لإعلان المسؤولية عنها كان نتيجة طبيعية لهذا التكتيك وإبقاء “أثرها” في حدود رسائل التحذير التي كانت الهدف من وراء إطلاقها، فلا أحد من الأطراف العربية يستشعر بأنه في وضع مؤاتٍ للدخول في حرب واسعة، لا في سوريا ولا في لبنان، بل يمكن القول إن حماس والجهاد ليستا بدورهما في وارد استجرار حرب واسعة بين كيان “إسرائيل” وقطاع غزة. وقد كان الأداء التفاوضي لهذين الفصيلين مع الوسطاء يشي بحرص على تفادي الانزلاق من حافة الهاوية إلى قعرها.

رسالة الصواريخ وصلت إلى عنوان المرسل إليه، والنقاشات في كيان “إسرائيل” تعكس هذه الحقيقة تماماً، والمستوى الأمني – السياسي تصرف بوحيها، متفادياً الانجرار وراء “حرب الجبهات المتعددة”، مقامراً باستحداث ضرر بالغ في صورة إسرائيل “الردعية”، وهو تطور بات يتحدث عنه الإسرائيليون أكثر من فصائل المقاومة ذاتها، وصاروا يحذرون من مخاطرة الاستراتيجية في المديين المتوسط والبعيد.

في اعتقادي، لم تسلم “تل أبيب” بهذا الأمر، أو على الأقل لن تسلم به بوصفه قاعدة جديدة من قواعد الاشتباك مع المقاومة… تأكّل الردع الإسرائيلي هو بداية تأكّل “إسرائيل” وجودياً، ليس لأنه يشجع الشعب الفلسطيني ومقاومته وحلفاءه على تكثيف ضرباتهم لها، بل لأنه سيفقدها ثقة حلفائها بها، وسيخرجها عن سكة دورها الاستراتيجي – الوظيفي، وينهي قدرتها على تسويق نفسها بوصفها مظلة حماية لمن أراد من عرب الاعتدال ومساراته الإبراهيمية…

“إسرائيل” بلا هالة ردعية ستتحول من ذخر لحلفائها إلى عبء عليهم، ولا سيما بوجود اليمين الأكثر فاشية وتطرفاً على رأس هرمها السياسي، وهو الذي يجعل حياة الحلفاء والأصدقاء صعبة للغاية.

هنا، يمكننا الجزم بأن الفلسطينيين، بساحاتهم الموحدة والمترابطة، وبدعم حلفائهم، نجحوا في تسجل هدفٍ في المرمى الإسرائيلي، وكسبوا جولة في معركة طويلة، لكن ما لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان هو أن “تل أبيب” لن تقف مكتوفة الأيدي حيال تطور خطر وإستراتيجي من هذا النوع، ولن ترفع الراية البيضاء لمجرد خسارة جولة إضافية في مسلسل المواجهة الطويل والممتد.

وفي هذا السياق، من المنطقي الافتراض بأن كيان “إسرائيل” تتحضر لمعركة جديدة، ربما ضد قطاع غزة، تبدأ باستئناف الاغتيالات. ولعل هذا ما يفسر إلى حد ما دعوات استدعاء الاحتياط المتلاحقة، وخصوصاً في أوساط سلاح الجو والدفاعات الجوية، وتحضير مستوطني “الغلاف” لأيام صعبة للغاية، والنداءات للتبرع بالدم لخلق مخزون كافٍ منه. هنا، ستحاول كيان “إسرائيل” بلوغ أعلى درجة في اختبار “وحدة الساحات” وتحدي القائمين عليها والممسكين بزمامها من فلسطينيين ولبنانيين وسوريين وإيرانيين.

ما تدركه “إسرائيل” جيداً أن ثمة ساحات ستلتحق تلقائياً بالمواجهة، ومن دون قرار، في حال فتحت جبهة غزة، وأخص بالذكر الضفة الغربية وفلسطين 1948، والحسابات الصهيونية لا تسقط احتمال اشتعال الجبهات على حدودها الشمالية، بما فيها سوريا، التي قد تكون قيادتها استشعرت بأن الفرصة حانت للرد على الاستباحة والعربدة اليومية لطيران العدو وصواريخه، والمستمرة منذ عدة سنوات.

لكن “إسرائيل” ليست متأكدة تماماً من أن الأحداث ستتطور وفقاً لسيناريو كهذا، فلدى حزب الله في لبنان والنظام السياسي في سوريا الكثير من المتاعب والقيود التي لا تجعل قرار فتح الجبهات خياراً سهلاً وتلقائياً أو حتى مرجحاً… أما وسيلة كيان “إسرائيل” لاختبار هذه الفرضية، فستكون في فتح جبهة غزة، وبصورة مؤلمة، ومن بعدها ستبني على الشيء مقتضاه.

في الحقيقة، إنّ الصهاينة والفلسطينيين ليسوا وحدهم في معادلة التصعيد والتهدئة، فثمة أطراف عربية وإقليمية ودولية وازنة لها مصلحة في طي صفحة المواجهة الأخيرة، وهي تنتظر انقضاء شهر رمضان المبارك بفارغ الصبر، وتعمل في سباق مع الزمن لقطع الطريق على “سيناريو الانفجار الكبير”، وهذا أمر يتعين إدخاله في الحسبان عندما نجري تمريناً في التقديرات والتكهنات بشأن الخطوة الصهيونية التالية.

أياً كان الأمر، وأياً كانت مآلات جبهة غزة، فإن الوضع في الضفة الغربية سيبقى محافظاً على وتيرة تصعيد متصاعدة، ففيها تقع أعمق مصالح كيان “إسرائيل”، وأصوات عتاة اليمين الفاشي ما انفكت تدعو إلى “سورٍ واقٍ 2″، فيما أهلها غادروا إلى الأبد مربعات توني بلير/كيف دايتون، ومقاومتهم تعيد ترتيب أبجديات العلاقة مع الاحتلال، وتعيد توزين علاقات القوة داخل المنظومة الفلسطينية، بما في ذلك راهن السلطة الفلسطينية ومستقبلها.

هل قلنا “السلطة الفلسطينية”؟ نعم، وإن لم نأتِ على ذكرها سوى مرة واحدة، ومن باب التحصيل الحاصل، فقد كانت أكبر غائب عن ساحة الفعل الميداني والسياسي، وهي سادرة في غيبوبتها، فك الله أسرها من حبائل التنسيق الأمني، ورد غيبتها غير الشريفة.

المصدر: الميادين نت
المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع