د. علي دربج – باحث وأستاذ جامعي

في زمن قياسي، بدأ أول الارتدادات الدبلوماسية الإيجابية للاتفاق السعودي – الإيراني، فبقدر ما انعكست تلك الخطوات المتسارعة والفائقة الأهمية ارتياحًا في دول المنطقة التي رحبت باستئناف التواصل بين الدولتين المرجعيتين على المستوى الإسلامي، أظهرت بالمقابل العديد من القيادات الأمريكية التاريخية المؤثرة والوازنة وفي مقدمتهم وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر – كان له الدور الأبرز في حروب وأزمات كبيرة ومشهودة في مناطق كثيرة خصوصًا أفغانستان والشرق الأوسط – توجسها من هذه التطورات المفاجئة، مقرة بحصول تغيّر جوهري في الوضع الاستراتيجي في الشرق الأوسط.

رؤية كيسنجر للاستراتيجية الصينية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط

يرى كيسنجر أن السعوديين يسعون للحفاظ على أمنهم من خلال اللعب بالعلاقات بين الولايات المتحدة والصين، تمامًا كما فعل هو والرئيس ريتشارد نيكسون، عندما لعبا على حبل التوترات والتناقضات بين بكين وموسكو وعمدا إلى استغلالها، في تعاملهما التاريخي مع الصين.

علاوة على ذلك، يعتبر كيسنجر أن تهدئة التوترات في الخليج العربي أمر جيد للجميع على المدى القصير غير أنه يستطرد قائلًا “إذا كان الرئيس الصيني شي جين بينغ يريد أن يتولى دور كبح جماح إيران وطمأنة السعودية، فهذا من حسن حظه. فالولايات المتحدة، تحاول منذ عام 1979، احتواء الثورة الإيرانية والسيطرة عليها، ولم تفلح” حسب تعبيره.

ويفند الدبلوماسي الأمريكي العتيق، تداعيات ما حصل بالتأكيد على أن ظهور بكين كصانعة سلام “يغير الشروط المرجعية في الدبلوماسية الدولية”. كما يجادل كيسنجر بأن الولايات المتحدة، لم تعد القوة التي لا غنى عنها في المنطقة أو أنها الدولة الوحيدة القوية أو المرنة، بما يكفي للتوسط في اتفاقيات السلام، فالصين باتت ندًا قويًا، وهي طالبت بنصيب للدخول ومحاولة التوفيق بين بلدان منطقة الشرق الأوسط.

كما يحذر كيسنجر من طموح الصين التي أعلنت في السنوات الأخيرة أنها بحاجة إلى أن تكون شريكًا في إنشاء النظام العالمي، قارعًا جرس الإنذار لواشنطن بالإشارة إلى أن بكين قامت بخطوة مهمة في هذا الاتجاه.

الأكثر أهمية في كلام كيسنجر، هو كشفه عن أن الدور الصيني المتنامي في منطقة الشرق الأوسط يعقد “قرارات إسرائيل”، خصوصًا وأن قادة كيان الاحتلال ينظرون لتوجيه ضربة عسكرية استباقية لإيران، على أنه الملاذ الأخير، حيث تقترب طهران برأيه “أكثر من أي وقت مضى، من أن تصبح دولة تمتلك أسلحة نووية”. لذلك يتوجب على الكيان “الإسرائيل” (بحسب وجهة نظره) أن تأخذ المصالح الصينية بالحسبان، في أي عمل قد تفكر بالقيام به ضد إيران.

هل كانت أمريكا بعيدة عن الاتفاق السعودي – الإيراني؟

في الحقيقة، يحرص الأمريكيون على الترويج أنه كان للولايات المتحدة دور مهم في هذا الاتفاق وإن بشكل غير مباشر، وهذا يمكن ملاحظته من خلال المصطلحات والعبارات المستخدمة في روايتها لمراحل الاتفاق، والتي تظهر في معظم فقراتها حلفاء أميركا، كالقول تارة، إن المحادثات تمت برعاية رئيس الوزراء آنذاك مصطفى الكاظمي، (الشريك الأمريكي)، والتأكيد طورًا، أن بعض الجلسات، عقدت في عمان، (الحليف الوثيق للولايات المتحدة).

إضافة إلى ذلك، تعتبر واشنطن أن الفضل يعود لها بوضع الأسس لتسوية “الحرب المروعة” في اليمن، وذلك عبر قيام تيم ليندركينغ، مبعوث وزارة الخارجية الأمريكية إلى اليمن، بالمساعدة في التفاوض على وقف إطلاق النار في أبريل/ نيسان الماضي، وتوضح أنه بنتيجة الوساطة الأمريكية، تعمل الرحلات الجوية المدنية الآن من صنعاء، وتتدفق البضائع عبر الحديدة، الميناء الرئيسي للبلاد. كذلك حثت أمريكا (والكلام هنا يعود لمسؤولين أمريكيين) السعوديين مؤخرا، على إيداع مليار دولار في البنك المركزي اليمني لتحقيق الاستقرار في البلاد، وفق زعمه.

ماذا عن مستقبل العلاقة بين واشنطن ودول الخليج؟

في الواقع، مع أن الشرق الأوسط الذي طالما عرف بأنه منطقة مواجهة أصبح مساحة جغرافية تسود فيها لعبة الموازنة، بحيث أضحت السعودية صديقة جديدة للصين وإيران، غير أن الرياض لم تخرج من دائرة النفوذ الأمريكي نهائيا، فضلا عن أنها ليست بوارد القيام بهذا الأمر (عدا أنها لا تستطيع الإقدام على هذه الخطوة نظرا للتداخل البنيوي في العلاقة مع أمريكا).

وانطلاقا من هذه النقطة قدمت السعودية حوالي 400 مليون دولار لأوكرانيا (إرضاء لواشنطن)، وأنفقت ما مقداره 37 مليار دولار، على صفقة لشراء 78 طائرة بوينغ، إضافة إلى دعمها التكنولوجيا الخلوية الجديدة 5G و 6G المعروفة باسم O- RAN التي يمكن أن تحل محل شركة Huawei الصينية.

بموازاة ذلك، صحيح أن الإمارات العربية المتحدة تغازل الصين أيضا، لكنها تحافظ على علاقتها الدفاعية مع الولايات المتحدة، وتقوم بتسوية الخلافات الإقليمية مع قطر وتركيا وليبيا، وهذا أعطاها دورًا متقدمًا في المنطقة، بدعم أمريكي مطلق، حول الإمارات من “ليتل سبارتا”، كما شبهها وزير الحرب السابق جيم ماتيس ذات مرة لما يشبه “سنغافورة الصغيرة”.

في الختام، إن الشرق الأوسط الذي كان لعقود منطقة أحادية القطب، تهيمن عليها الولايات المتحدة، لم يكن منطقة مستقرة للغاية، لهذا فإنه مع تعددية الأقطاب وتوازنه المتواصل، سيكون لعبة جديدة بقواعد جديدة… كما يراه كيسنجر.

المصدر : موقع العهد الاخباري 

 المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع