حصار المال في فلسطين: حرب ظاهرة… وأخرى خفية (1/2)
عبد الرحمن نصار*
أسلوب بوليسي ملحوظ في الكتب الصهيونية التي تتحدث عن “مكافحة” عمليات نقل الأموال إلى الفلسطينيين، لكنه لا يغطي واقع الخيبة الصهيونية ولا يعطي إجابات واضحة عن أسئلة كثيرة.
إنها الحرب التي يفضل الجميع السكوت وتجنّب الحديث عنها، لكنها مواجهة قائمة يومياً، ونتائجها اعتقالات ومتابعات ومصادرات وملاحقات وحتى اغتيالات… هي حرب المال بين كيان “إسرائيل” والفلسطينيين. في النتيجة، تبدو الكتابة عن هذا الموضوع أشبه بالسير في حقل ألغام: حقل يتشارك في زرعه طرفا المواجهة.
من جهة، لدى المقاومة محاذيرها التي تتجنب فيها كشف ما أُحرق من طرق حتى لو عرفها الصهيوني، فلا داعي لقولها في العلن، كما تصرّ مصادر كثيرة في حديثها إلينا. من جهة أخرى، لا يقول الصهيوني كل شيء بذريعة سرية المعلومات. وإن تكلم أو كتب، فإن له أهدافاً دعائية أو أمنية.
النتيجة والمشكلة، في آن واحد، أنّ المحاذير في الكتابة عن هذا الموضوع أكثر من المسموح. ومع ذلك، صدرت حديثاً ترجمة لكتاب صهيوني في صلب القضية، لكن هذا الكتاب توقف عند أحداث انتهت أغلبيتها عام 2008، على رغم أن الكتاب، في نسخته العبرية، صدر عام 2020.
يحمل الكتاب عنوان “حربة الصيد: الحرب الشرسة ضد أموال المنظمات الإرهابية”، وهو من إصدارات “يديعوت أحرونوت” ودار النشر “حماد”. عمل موقع “الهدهد” على ترجمته في 8/2022، علماً بأن الذي قدّم له ليس سوى جون بولتون، مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض، خلال عهد دونالد ترامب.
ربما يستحق “حربة الصيد” تخصيص حلقات تتناول ما ورد فيه من عمليات ترى فيها كيان “إسرائيل” “إنجازات” في سبيل حربها على دعم المقاومة والممرات المالية، لكنها تبقى رواية طرف واحد فقط. ففي مقابل عمليات التحويل غير الناجحة، ثمة أخرى كثيرة ناجحة، عبر وسائل إبداعية. والدليل هو ما نراه على الأرض من عمل متواصل في الساحات كافة.
اللافت أن الكتاب حصل على نسبة مبيعات عالية في الولايات المتحدة، وفق دار النشر، وهو من إعداد نيتسينا دارشان لايتنر، التي أنشأت منظمة “خدمة العدل”، والأخيرة كان لها دور كبير في الحرب على المال الفلسطيني، ومعها الصحافي الإسرائيلي صموئيل كاتس.
يتحدث المعدّان عن وحدة استخبارية صهيونية حملت اسم “حربة الصيد” (Harpoon)، وبقيت تعمل سراً 20 عاماً، وهذه الوحدة التي عملت “عبر طرق خارج الصندوق” أسسها الرئيس العاشر لجهاز “الموساد” مائير داغان. لكن سبق للايتنر وكاتس الكشف عن هذه الوحدة الصحافي الصهيونية رونين برغمان في كتاب آخر (“كيان إسرائيل ستفعل كلّ شيء”، 2008).
صار الحديث أكثر وضوحاً عن تلك الوحدة في “قوانين الحرب في العالم” (2015)، ومؤلفه هو المسؤول السابق في الخارجية الأميركية أورد كيتري، وهو أحد المحرضين الدائمين على المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، وضيف لبعض القنوات العربية التي تتشاركه في أفكاره.
اغتيال المال… والرجال
تظهر ابتسامات فاترة عند الحديث عن هذا الموضوع مع أكثر من مصدر في المقاومة. ما تخفيه الابتسامات ليس له لون واحد: الإخفاق أو النجاح، بل مزيج من الاثنين.
ما يهوّن على أغلبية المتحدثين أن الخسائر في هذه الحرب لا تصيب الأرواح غالباً، على رغم بعض الاستثناءات التي تمس حياة المقاومين وعائلاتهم وحتى مسار العمل أحياناً، فثمة اغتيالات مقصدها ضرب المال أو خطوط التمويل، خارج فلسطين وحتى داخلها.
أبرز هذه الاغتيالات في 5/5/2019، حين استغل الاحتلال إحدى جولات التصعيد وأقدم على اغتيال الصراف حامد الخضري في منطقة السدرة وسط مدينة غزة. آنذاك، أعلن المتحدث باسم جيش الاحتلال أن اغتيال الخضري جاء بتنسيق مشترك بين جهاز “الشاباك” وجيش الاحتلال، على خلفية “نشاطه في نقل دفعات شهرية من دول خارجية، أبرزها إيران، إلى غزة”.
أيضاً، ورد في “حربة الصيد” أنه خلال إحدى المواجهات العسكرية عام 2007، ظهرت مشكلة تمويل كبيرة في غزة. التقطت كيان “إسرائيل” معلومة بشأن نية المقاومة إدخال مبلغ كبير عبر سيناء من أجل حل المشكلة: 13 مليون دولار أميركي.
التقط الاحتلال “معلومة ذهبية” في 23/8/2007: رُصد الناقل عبر سيناء ومعه 4 حقائب كبيرة. عمل الرجل على تغيير السيارات واستعمال طرق التفافية حتى وصل إلى العريش، ومنها إلى رفح المصرية. ثم عَبَرَ الأنفاق ومرّ المال تحت الأرض حتى وصل إلى رفح الفلسطينية.
في المقلب الآخر من الحدود، تسلّم المال أحد القادة الفلسطينيين في “مرسيدس” سوداء. وما إن تحركت السيارة وفيها الحقائب، حتى أطلقت طائرة “أباتشي” صاروخ AGM–114. استُشهد الرجال واحترقت الأموال، ثم اضطرت المقاومة إلى طلب هدنة 48 ساعة حتى تستوعب الصدمة. هنا تنتهي الرواية الإسرائيلية.
هو أسلوب بوليسي ملحوظ في الكتب الصهيونية التي تتحدث عن مثل هذه العمليات، لكنه لا يغطي واقع الخيبة ولا يعطي إجابات واضحة عن أسئلة، مثل: “كيف وصل مبلغ مليون دولار إلى مجموعات عرين الأسود من تحت أعين الأجهزة الأمنية كافةً، وعلى رغم التشديد والمراقبة المكثَّفين؟”، يسأل مصدر في المقاومة، وتظهر منه ابتسامة تُبدي بعض أسنانه.
يشار إلى أن الحرب الإسرائيلية على المال اندلعت “مصادفة” عام 1993، كما يورد “حربة الصيد”. حتى إن مؤسس “حربة الصيد”، داغان، لقي ردوداً سلبية من جهازي “الشاباك” و”الموساد” خلال حكم بنيامين نتنياهو (1996-1999)، لكن ما إن جاء أرئيل شارون (2001-2006) حتى صارت الوحدة رسمية وذات صلاحيات.
في النتيجة، اشتدت هذه الحرب مع انتفاضة الأقصى الثانية (2000-2005) حين أقدم الاحتلال مراراً على قصف شركات صيرفة، مثل “البرعصي” و”مكة” و”حرز الله”. ولاحقاً في عام 2006، وتحديداً بعد فوز “حماس” في الانتخابات التشريعية، مارس الاحتلال مزيداً من التشديد على حركة الأموال، وضاعف إجراءاته في هذا الشأن حتى يومنا.
اللغم الأول
يعترضنا في هذا الملف لغم أول: “لا يمكن الحديث عن كل شيء حتى لو كشفت الطريقة. فمثلاً، يمكن لطريقة ما أن تكون غير فعالة اليوم لكنها تستخدم لاحقاً وتنجح أو نعمل على استنساخها وتطويرها… هي ليست معلومات للعموم”، يقول المصدر.
مثلاً، اعتُمد قبل أعوام طريقة مبتكرة لإدخال أموال من الأردن إلى الضفة بكميات كبيرة وأمام أعين رجال الأمن على المعابر الثلاثة: جسر الملك حسين – ألّنبي – الكرامة. نجحت الطريقة بسلام مرة واثنتين وثلاثاً، لكن شكاً ميدانياً من أحد الضباط تبعه استجواب ميداني سريع وضعف الناقل كشف كل شيء.
في النتيجة، عدّلت المقاومة سلوكها، وخصوصاً أن “إسرائيل” لم تستطع إلغاء الطريقة من أصلها، فاضطرت إلى زيادة بعض الإجراءات وتحديد بعض الكميات. يستدرك المصدر نفسه: “ثم يمرّ الوقت ويمكن الرجوع إلى بعض الطرق السابقة لكن مع بعض التعديلات، وينجح الأمر، وخصوصاً أن الضباط والجنود يتغيرون”.
حرب واضحة وأخرى خفية
في الظاهر، هناك حصار واضح: إغلاق للجمعيات، مصادرة لحسابات، مراقبة للحوالات، استدعاءات واستجوابات… وحرب خفية في الظل. أيضاً ثمة مساران لنقل الأموال في فلسطين، وهما متباينان كثيراً: واحد يخص الضفة والآخر قطاع غزة (تركز الحلقة الثانية على غزة).
في الضفة، لا تغيب في حديث الإعلام العبري الإشارة إلى مصادرة أموال. ورد في 17/11/2022 خبر نقلته “القناة الـ14” العبرية، قالت فيه إنه خلال حملة مداهمات في مناطق متفرقة من الضفة صودرت أسلحة وأموال مخصصة لتنفيذ عمليات: إلى جانب 13 قطعة M16 ضُبط 52 ألف شيكل (قرابة 14 ألف دولار) في ليلة واحدة.
بعد عام 2021، قدّم رئيس الأركان الصهيوني السابق، أفيف كوخافي، إحصاءً قال فيه إنه ضُبط في الضفة خلال ذلك العام 397 قطعة سلاح، بالإضافة إلى أموال بقيمة 11,386,270 شيكلاً (قرابة 3 ملايين دولار). لكنه مبلغ صغير في مقابل ما تتحدث عنه المقاومة لتمويل العمل هناك.
كذلك، تُعَدّ مصادرة أموال الأسرى وعائلاتهم وعائلات الشهداء جزءاً من هذه الحرب، في شقها الواضح، سواء أكانت مصادرة غير مباشرة، كما يجري مع أموال ضرائب السلطة (المقاصة)، أم مباشرة عبر قوانين جديدة، كما حدث مع المحررين كريم وماهر يونس، حين صادر الاحتلال منهما 15 ألف شيكل (نحو 4150 دولاراً) وسيارة في 1/2/2023.
التطوير سبيلاً إلى الحصار!
أبعد من ذلك: يسعى الأميركيون والأوروبيون لتطوير شبكة الاتصالات من الجيلين الرابع والخامس في الضفة المحتلة لأهداف متنوعة، لكن بينها الرقابة على المال. مثلاً، قدّم بنك الاستثمار الأوروبي إلى السلطة دعماً قيمته 50 مليون دولار قبيل زيارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، لفلسطين في 7/2022.
الهدف من هذه الملايين هو حوسبة القطاع المالي في مناطق السلطة وغزة تدريجياً، لكنه مجال متصل مباشرة بوجود شبكة إنترنت سريعة وحديثة تغري السكان في تحويل نمط الادخار والإنفاق من “الكاش” إلى المحوسب عبر المحفظة السحابية QR.
يشرح أحد الخبراء التقنيين أن هذه الخطوة تحقق أهدافاً عدة في ضربة واحدة: (الصورة أدناه)
من الممكن أيضاً أن يعتمد الاتحاد الأوروبي والدول المانحة النظام المحوسب في صرف المساعدات النقدية وحتى المنح العربية، مثل القطرية، في غزة، الأمر الذي يؤدي إلى رقابة أكثر على اتجاهات صرف المنتفعين، والتحديد بدقة: هل تصل مباشرة أو غير مباشرة إلى الفصائل.
صحيح أن لدى “إسرائيل” والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مصلحة مشتركة في إدخال شبكات الجيل الرابع، لكن الأولى كانت لها تحفظات أمنية واقتصادية وسياسية، في مقدمها مصالح شركاتها العاملة في الضفة (راجع في “الميادين”: الأميركيون والضفة المحتلة (3/4): شبكات 4G و5G بدل “السلام”!).
مع ذلك، قد تُدفع الضفة إلى هذا النمط من دورة المال، فالحوسبة في مناطق السلطة تزيد في الرقابة على أوجه صرف المساعدات والمنح، وأيضاً تعطي بيانات دورية دقيقة عن واقع السكان المالي، الأمر الذي يقدم فرصاً في تحديد السياسات المالية، وتبعاً لها السياسية والأمنية.
يأتي هذا التوجّه مع أن السكان الفلسطينيين هم آخر من يستفيد من خدمات الجيل الرابع، إذ إن القدرة الشرائية لديهم أقل من أسعارها، كما أن الاتجاه إلى الحياة الذكية يبقى محدوداً في عدد كبير من مناطق الضفة.
مع ذلك، لا شك في أن إيصال الأموال إلى الضفة المحتلة، فضلاً عن القدس والداخل المحتلين، لأي غرض كان، يحظى برقابة مشددة على الطرق الرسمية وغير الرسمية، مقارنة بسهولة نسبية في غزة، وهو ما يزيد في احتمالات الخسارة لجزء من الأموال وكشف مسار النقل والناقلين. لكن هذه الحرب المستمرة لم تنتهِ إلى استسلام أي من الطرفين.
هامش:
جنود الاحتلال يسرقون الأموال المصادَرة
يلاحَظ في الاقتحامات الصهيونية، وفق مصادر محلية فلسطينية في الضفة المحتلة، أن الجنود الصهاينة يعملون دائماً على سرقة جزء من أموال الناس خلال تفتيش البيوت ودهمها، وخصوصاً بالشيكل الصهيوني. الجنود يتجنّبون سرقة الدولارات أو الدنانير الأردنية أو الذهب لأنهم قد يوضعون قيد المساءلة في الجيش عنها، في حين أن وجود الشواكل معهم أمر طبيعي خلال الخدمة. وما يؤكد وجود مثل هذه المساءلة، خبر نقلته قناة “كان” في 4/4/2022 بشأن تقديم لائحة اتهام ضد ضابط في “حرس الحدود” بتهمة سرقة أموال من منازل الفلسطينيين خلال التفتيش والاعتقالات داخل الضفة، والهدف ليس طبعاً حماية أملاك الفلسطينيين، وإنما من أجل الانضباط العسكري، الذي هو خط أحمر في الجيوش، بصورة عامة.
* المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع