الردع والصمود.. سقوط أقنعة العدو
أحمد فؤاد
لا صوت يعلو على الأزمة العاصفة التي تضرب كيان العدو في هذه الأيام، أو هكذا يفترض بالوعي العربي أن يفعل، وبما يمزج بين قراءة المعلن إلى فهم الوجه الخفي من الأزمة، ويضع الحقائق التي تأتي في تصريحات قادة العدو ورؤساء أحزابه وقواه الفاعلة في إطار جديد، ويرتبها تحت أضواء كاشفة، وبالطريقة الصحيحة التي تفضي بذاتها إلى حقائق جديدة وواقعية، وربما صادمة للبعض.
في الحقيقة من الصعب قراءة أزمة اللحظة الحالية في الكيان، دون المرور أولًا على لحظة النشأة الأولى، وهي في حال العدو ظرف بالغ الشذوذ في التاريخ الإنساني –المعروف لنا على الأقل- فهو ليس “دولة” طارئة أو قوة مفاجئة صعدت إلى سطح الوجود ترجمة لأوضاع معينة على الأرض، لكنه ينتمي بالكامل إلى غطرسة القوة وتفردها بالقرار دونما عقل يتحكم أو منطق يضبط الحركة ويحدد مسارها، وفي ذلك اليوم البعيد 15 أيار 1948، كانت القوة الأميركية والغربية تظن أنها تستطيع أن تفرض ما تريد، متى وأين أرادت.
ونتيجة للظرف الدولي الشاذ ولمعادلة قوة عالمية وإقليمية كانت غارقة في اختلالها، تم إعلان الكيان على أرض وطن عربي هو فلسطين، بالتضاد مع كل حقيقة وبالعناد مع أي منطق سليم، وربما بنشوة النجاح الأولي والمفاجئ والضخم، كان الكيان قد تعلم درسه الأول مغلوطًا، وهو أن السلاح –وحده- قادر على أن يخلق الحقيقة، ثم هو قادر على فرضها كواقع، ثم هو يستطيع ضمان استمرارها إلى نهاية المدى، مهما كانت الظروف ومهما طرأ من مطالبات أو استجد من مواقف.
تعلم الكيان درسه الخاطئ جيدًا، وتحول السلاح من وسيلة إلى هدف، وباتت الأولوية الأعظم والأهم على لائحة المهام هي إستراتيجية الردع، حيث يضرب السلاح بلا قيود ويدمي بغير حدود، ويتحرك مطمئنًا إلى عوامل عدة، داخلية وإقليمية وعالمية، تساعده على تطبيق فكرة الصدمة الهائلة حين يأتي أوان الاشتباك، لا تنتظر ذريعة ولا تطلب إذنًا، إنه الاستعمال الأقصى والمباشر للقوة المفرطة في أسوأ تجلياتها، قوة لا تعرف قيود الأخلاق وتنزع أغلال كل قانون، وكانت المأساة العربية الكبرى هي أننا منحنا بفشلنا شهادات النجاح للعدو.
داخليًا يمنح شعور التفوق وفارق القوة المذهل بين الكيان وبين أعدائه الأمان لقطعان المستوطنين، وممارسة العنف ضد الأغيار قصة سامية في عقيدتهم الفاشية، وعلى المستوى الدولي، فإن الظروف التي زرع بها الكيان وفرض على أرضنا لا تزال مستمرة، فالولايات المتحدة فاعل وحيد، وقوتها العالمية فاقت كل ما حلمت به إمبراطورية منذ فجر التاريخ من وصول ونفاذ إلى أعمق كل نقطة في الكوكب، وتأثيرها عبر القوة الناعمة والاقتصاد المهيمن فائق القدرات والموارد جعل من مهمة إمداد الكيان –دائمًا وباستمرار- تكلفة بسيطة، توازي أو تقل عن تكلفة إنشاء وإدارة قواعد عسكرية في بلدان كثيرة حول العالم، الظروف ذاتها بما فيها الانقسام العربي جعلت من كل دولة تواجه الكيان تفعل ذلك وظهرها مكشوف إلى العراء، فهي لا تستطيع تصور مواجهة كاملة مع الكيان تحمل في طياتها احتمالية تدخل أميركي، مباشرًا كان أو غير مباشر، وهو ما يجعل قرار الصراع بالتالي من جانبها آخر الحلول المطروحة.
أما إقليميًا فإن الأنظمة العربية الرسمية في مواجهاتها المتكررة مع الكيان لم تقدم إلا التراجع والهزائم، ولم تكتب سطرًا واحدًا من الإرادة، ولم ترتقِ يومًا إلى التطلعات والأماني الوطنية لشعوبها، ثم هي بعد كل ما فقدته من أرض وأضاعته من فرص وفرطت فيه من أحلام، قد توجهت بقضها وقضيضها إلى السلام/الاستسلام كخيار إستراتيجي وحيد، بشكل حوّل الحق إلى توسل، والتلهف إلى امتهان كامل وتام.
هكذا كنا وهكذا كانوا، كنا نبتعد عن المواجهات وننقسم أمام التحديات، وتضعف إرادتنا عند لحظة ذروة الصراع، كانت هذه الفصول كلها قبل العام 1982، في هذا العام المجيد تغيرت المعادلات وانقلبت الحسابات، وبدا أننا لأول مرة نعاين فعلًا قادرًا على زلزلة أي عدو كان وكل وضع مفروض، مهما كانت القوة التي تفرضه أو تضع حدوده.
بنشأة حزب الله من لحظة مفصلية، ظهر فيها تراجع الأمة العربية كاشفًا ومؤلمًا موجعًا، أُدخل إلى المنطقة للمرة الأولى خيار “صمود” في مواجهة الردع الذي كان يأوي إليه العدو آمنًا مطمئنًا، في العام 2000، نجح خيار المقاومة في تحقيق أول وأهم نصر عربي على الكيان، باضطراره إلى الانسحاب تحت تهديد السلاح من لبنان، دون معاهدات ولا شروط ولا اتفاقيات، فقط كان الهروب.
وسريعًا حملنا الزمن إلى اللحظة الأكثر بهاءً وإشراقًا، أكمل وأعظم نصر عربي في التاريخ الحديث، حين ظن الكيان أنه يستطيع، عبر داعمه الأميركي وإخوانه من الخونة العرب، أن يقضي على المقاومة أو على الأقل أن يجعل خيارها بالمواجهة غاليًا مكلفًا أمام كل عربي، خيار يستوي بالهزيمة مع الدمار الشامل الذي يحمله السلاح الصهيوني إلى أرضنا ومدننا، والدماء والموت الذي تقذفه السماء إلينا.
الصمود الأسطوري لحزب الله لم يطعن الإستراتيجية الصهيونية وحدها، لكنه قدم المثل والقدوة لأي عمل عربي يستهدف التحرر والانعتاق من العصر الأميركي البغيض، الإرادة سلاح، والإيمان سلاح، والأرواح الطاهرة سلاح، وحتى الموت صار سلاحًا في هذه الحرب مع قوة لا مثيل لها ولا سابق في التاريخ. نعم الظاهرة الأميركية قادرة وواصلة، حاضرة في كل قارة من قارات الدنيا، ضاغطة على كل بلد، ومحشورة في كل مكان، ومندسة في كل متر على امتداد الكوكب، لكنها في النهاية عاجزة –هي وتوابعها- عن هزيمة الدم.
اليوم يمر الكيان بأسوأ فتراته منذ زرعه كسرطان في قلب العالم العربي. ليس هذا تحليلًا متفائلًا بالتطورات الحادثة هناك، لكنها تصريحات مسؤوليه وساسته وقادته العسكريين السابقين والحاليين، الجميع يشعر بالرعب من فكرة العجز أمام التحديات التي تقف أمام استمراره وتشقق الأرض من تحت أقدامه وتهز حصونه وقلاعه، والفكرة الأساسية التي كان يجب الحفاظ عليها، وهي امتلاك القدرة على الردع، قد تبخرت وانتهت فعاليتها، حتى الحروب الإعلامية والنفسية التي كان الكيان أبرع من يمارسها في سمائنا المفتوحة دومًا لم تعد تنطلي على قطعان مستوطنيه أو تجد صدى لدى مؤيديه في الغرب.
في زمن قريب، قال الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله “قد لا نحتاج إلى حرب مع الكيان”، والواقع أن المثل الذي قدمته المقاومة في لبنان، والفعل اليومي الذي يقدمه أبطال الشعب الفلسطيني في كامل أرض فلسطين، قد حوّل الكيان من فاعل أول في المنطقة إلى رهينة، عاجز عن التصدي للضربات التي تدمي قلبه الرخو، عاجز عن التقدم خطوة على أي جبهة، ثم إن هذه الحقيقة عرفت طريقها إلى الشارع فيه، وعنونت بالتالي مرحلته المقبلة، فإما الرحيل أو الرحيل.
- المصدر: موقع العهد الاخباري
- المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع