أ.د. عبدالعزيز صالح بن حبتور*

 

قبل عام من الآن أُميط اللثام عن معارك ضارية في الأراضي الأوكرانية طرفيها هما: –

جمهورية روسيا الاتحادية مدعومة إعلامياً وسياسياً من أصدقائها بالعالم من جهة، وبين حلف شمال الأطلسي (الناتو) بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بكل ثقلها السياسي والمالي والعسكري والإعلامي، ودارت جميع فصول معاركها على الأرض الأوكرانية.

هذه الحرب هي خلاصة الصراع بين نظام قديم مهيمن على العالم كل العالم، وبين القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية الصاعدة التي تحاول أن ترفض تلك الهيمنة والاستبداد حول العالم، وقد كانت روسيا الاتحادية بمثابة القوة الصاعدة الشجاعة التي استشعرت الخطر الماحق من قبل النظام القديم الذي أراد مواصلة هيمنته وسطوته على العالم أجمع مع نهب خيراته بما فيها الدول المنطوية في تحالف دول البريكس والمكونة من: – (روسيا، الصين، الهند، جنوب أفريقيا والبرازيل).

إن أبرز دوافع الحرب الغربية الأطلسية على الاتحاد الروسي هو منعها أن تكون وريثة حقيقية لإرث الإمبراطورية الروسية وإرث الاتحاد السوفيتي السابق، وجعلها دولة كبيرة لكن بدون مقدرة عسكرية فاعله ومقررة في السياسات الدولية، أي منعها كي لا تكون شريكة مع حليفتها جمهورية الصين الشعبية في إدارة حُكم العالم ومصالحه ، وأن تبقي إدارة العالم من صلاحية حلف الناتو وحده بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، ولهذا تمت محاصرة الاتحاد الروسي بطوق من الدول الجديدة الداخلة في عضوية (الناتو) وتحولت الى دول معادية للنهج الروسي منذ انهيار المنظومة الاشتراكية والاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينات من القرن العشرين.

تلك الدول الأعضاء السابقون في المنظومة الاشتراكية وحلف [الكوميكون] تحولت بين عشية وضحاها إلى دول عدوة بانضمامها كأعضاء جُدد في حلف [الناتو]، وعملت دول أوروبا الغربية قاطبة وبنَفسٍ واحد على معاداة الدولة الروسية الجديدة التي ظهرت إلى العلن في العام 1991 م بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ولم يشفع لها ولا لقادتها أنهم كانوا السبب الرئيس في انهيار منظومة الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو العسكري.

ويبدو من القراءة السريعة في صفحات التاريخ أن هناك عداء تاريخي مستحكم بين غرب أوربا وروسيا الاتحادية بغض النظر عن أي نظام سياسي قائم أو سيقوم في موسكو، ولذلك يمتد العداء بين قطبي الرحى في أوروبا من حقل السياسة إلى حقول الاقتصاد والعلم والفن والرياضة وغيرها من مظاهر الإنتاج الحضاري.

لذلك يقول فيلسوف روسيا وكاتبها العظيم / فيدور ديستو يوفيسكي حول علاقة روسيا بأوروبا وآسيا المقولة الآتية (الأفضل لروسيا بأن لا تعيش في أوروبا ليكون شعبها غجراً في وسط القارة الأوروبية]، والأفضل لها التوجه نحو الشرق (أي آسيا) ليعيش شعبها اشبه بالملوك).

إن هذا التأصيل التاريخي للمرجعية الحضارية الأوروبية للأسف جعلت من ساستها ومفكريها وعلمائها وحتى إعلاميها أن يفكروا في المركزية الحضارية الأوروبية دون سواها باعتبارها هي الحل لجميع تحديات الشعوب قاطبة، وإذا ما فكر أي سياسي أو مفكر للخروج من الدائرة الأوروبية فليتجه إلى أميركا الشمالية باعتبارها الطريق الملهم لجميع الشعوب.

ونتذكر جميعاً تلك النظريات الرأسمالية المتوحشة التي ظهرت في مطلع التسعينات ومنظريها أمثال المفكر الأمريكي / فوكو ياما وكتابه الشهير (نهاية التاريخ) الذي أصدره مع نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي السابق.

والمفكر الأمريكي وآخر هؤلاء المرضى المصابين بغرور مرض الجنس الأوروبي المستر/ جوزيب بوريل سكرتير الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي، حينما أعلن بوضوح وصراحة بأن أوروبا هي الحديقة الغناء وواحة الديمقراطية وما عداها سوى مساحات من الأحراش والأدغال يعيش بها الوحوش الكاسرة.

ويتذكر الرأي العام العالمي تلك المشاهد التمييزية القذرة والعريضة بين الهجرات المتدفقة من اللاجئين العرب والأفغان والإيرانيين والهنود والأفارقة الذين أغلقوا أمامهم الحواجز والأسلاك الشائكة وبين المهجرين القادمين من أوكرانيا في أثناء أزمتهم الأخيرة حين استقبلوا استقبالاً مميزاً تحت مبرر عنصري فظ بأن الأوكرانيين هم من ذوي العرق الأوروبي الأبيض.

نعم هناك تناقضاً حاداً بين نمو وتطور ثقافة وتراث وفكر المجتمع الروسي والمجتمع الأوروبي، ولهذا لا يجد الأوروبيون من جميع القوميات الأوروبية  أي غضاضة أو حتى قليل من الحياء لتمييز أنفسهم وذواتهم عن غيرهم من الشعوب والقوميات الأخرى، ومرجعية تلك الثقافة العنصرية  تعود إلى الحقبة الحضارية للإغريق والرومان الذين ميز منظريهم وفلاسفتهم بين الحضارة الرومانية/ الإغريقية عن سواها من الحضارات والشعوب الأوروبية الأخرى بما فيها الشعوب الجرمانية  والأنجلو ساكسونية والفرنكفونية وحتى السلافية، ولذلك تجد المنظرين الأوروبيين اليوم متمسكين بتلك النظريات العنصرية التمييزية بينهم وبين الأمم والشعوب الأخرى، تحت عنوان نظرية المركز والمحيط.

وللعلم  فإنني قد زرت العديد من الدول الأوروبية وعشت بينهم أثناء دراستي التي بلغت سبع سنوات، في الثمانينات من القرن العشرين، ومن خلال تلك الزيارات والمعايشة  لم ألمس قط أية نبرة عنصرية  في التعامل معي أو مع غيري من أفراد المجتمع الأوروبي، ولكن الإشكالية النفسية والمرضية العنصرية منحصرة في الطبقة السياسية المثقفة الحاكمة فحسب، وهم من يحاولون تعميم تلك الثقافة المريضة المنبوذة على المجتمع، وجعل الطبقة المثقفة الأوروبية  في مواجهة العالم كل العالم، بطبيعة الحال بامتداداتها الأمريكية الشمالية فحسب.

ما هي أسباب نشوء الحرب في أوكرانيا؟

علينا تذكر الماضي القريب بأن جمهورية أوكرانيا اليوم كلها كانت جزءاً من أراضي الاتحاد السوفيتي حتى العام 1991م، حينما تآمرت الدول الغربية على المنظومة الاشتراكية  برمتها وأسقطتها في نهاية الحرب الباردة، وحينما تم الاتفاق على إلغاء حلف وارسو العسكري التابع للمنظومة الاشتراكية، التزم الرئيس الأمريكي /جورج بوش الأب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية  آنذاك وعبر وزير خارجيته / جيمس بيكر بأن يلتزم حلف الناتو العسكري بعدم تجاوز نهر (أودر) الألماني شرقاً والاكتفاء بضم ألمانيا الشرقية في وحدة مع جمهورية ألمانيا الاتحادية ومنع الألمان من التسلح  بالسلاح النووي، لكن الغرب وأميركا نكثوا بكل تلك الوعود (غير الموثقة) وعملوا على ضم جميع البلدان الاشتراكية السابقة إلى أوروبا الغربية وحلف الناتو وتجاوز كل الخطوط الحمراء بضم  بلداناً كانت ضمن  قوام الاتحاد السوفيتي السابق، وأوكرانيا كانت في طريق الانضمام.

كانت ولا زالت الأراضي الروسية الغنية بالثروات المختلفة محل طمع وجشع حكام أوروبا الأقوياء، منذ القياصرة في غرب أوروبا وكذلك القائد الفرنسي / نابليون بونابرت والفو هرر الألماني النازي / أدولف هتلر/، والقائد الإيطالي الفاشي/ موسيليني/ وغيرهم من القادة جميعهم طمعوا ويطمعون في التنزه الحر على كثبان ثلوج سيبيريا الشاسعة التي تخفي في جوفها نفائس ثمينة من خيرات الأرض الروسية.

لازال هاجس تقسيم الأراضي الروسية هاجساً يسيطر على معظم دوائر الاستخبارات الغربية في دول حلف الناتو، وبالتالي فإن الخطط أصبحت مفضوحة وشبه معلنة في تحقيق أحلام الأجيال الأوائل في القارة الأوروبية وبالتالي فمن حق الساسة الروس الاحتراز الشديد من عدم الوقوع في شرك مخططاتهم حفاظاً على أرض وتراث الأجيال الروسية.

هناك سبب داخلي في الداخل الأوكراني وهو انقلاب الساسة الموالين للغرب الأطلسي / الأمريكي والمشبعين بالنظريات النازية الجديدة وبقايا تراثها في التاريخ الأوكراني فانساقوا لها وروجوا لقادتها ومنظريها، وبالتالي أعلنوا عداءهم التام لمواطنيهم في انتخابات 2014 م، وانقضوا على مواطنيهم في شرق أوكرانيا (الدونباس) وهم من أصول روسية والمتحدثين بلغتها، وعاملوهم بعداء شديد، وشنوا عليهم حرباً ضروساً ونتج عن فعلهم العديد من الضحايا والكوارث لمواطني الدنباس.

إذا جوهر معنى حدوث هذه الحرب الطاحنة الدائرة في أوكرانيا تمت صناعة فكرتها وسيناريو خطتها وعناصر البدء في تنفيذها في عواصم دول حلف الناتو، منذ أن خططت للانقلاب على الديمقراطية في كييف عام 2014م، وإبعاد الرئيس المنتخب الأوكراني وهو الموالي لروسيا بما يسمى ثورة (الميدان) والثورات (الملونة) وخلافه من الشعارات التي حبكوها في واشنطن ولندن وباريس وبرلين.

وهناك أسباباً إضافية تكفي لإسكات جميع الأصوات الإعلامية الغربية الناعقة، لكننا نكتفي بما أوردناه.

إن الحرب الغربية لدول حلف شمال الأطلسي ضد الاتحاد الروسي الدائرة رحاها الآن في أوكرانيا هي حرباً فاصلة بين القطبين، وسيكون العالم ما بعد هذه الحرب ليس كما كان قبلها لأسباب عده، لأنها معادلات هذه الحرب قد بُنيت على أُسس وحسابات استراتيجية بعيدة المدى وسينتج عنها من خلال معطياتها نتائج جديدة تبشر بكسر القيود السحرية التي فرضها حلف شمال الأطلسي بقيادة أمريكا ضد العالم أجمع.  وسنذكر مؤشرات منها كقرائن أولية:

أولآ: يبشر قادة الاتحاد الروسي بقيادة الرئيس/ فلاديمير بوتين ، بأن دولة  كروسيا  ليس في وارد حساباتها الاستراتيجية العسكرية  أن تنهزم في حرب تقليدية عادية ولو صبت جميع المصانع العسكرية لدول حلف شمال الأطلسي جميع منتجاتها في أوكرانيا، لأنها أسلحة تقليدية  يسهل التعامل معها تكتيكياً  في الميدان العسكري الحربي، ولذلك فإن ما يحدث من ضجيج إعلام دعائي هو لمحاولة عدم تفكك الجبة الغربية بين الدول الأوروبية وحاميتهم الإدارة الأمريكية، ولذلك يقول القادة العسكريين الروس بأن أمر نتيجة الحرب محسومة  للروس سلماً وعبر التفاوض، أو بالوسائل العسكرية المسيطر عليها، والضحية الأوحد هو الشعب الأوكراني وحده.

ثانياً: يمتلك الاتحاد الروسي أساس صناعي عسكري متين، بعضها موروث من دولة الاتحاد السوفيتي السابق الذي خلق ترسانة هائلة في زمن الحرب الباردة، وكان يستعد لمجابهة حلف شمال الأطلسي، وزاد عليها ترسانة نوعية بأسلحة نوعية بعضها نووي والآخر أسلحة بسرعة فرط الصوت، وجميعها لم تستخدم بعد.

ثالثاً: التحالف الروسي العسكري والصيني الاقتصادي سيُمكن البلدين من الصمود لعقود من الزمان في مواجهة التعنت والصلف والكبرياء الغربي الأطلسي، وسيُذعن الغرب في نهاية الأمر إلى التسليم بمبدأ اقتسام قرار إدارة حكم العالم بين الأقطاب الجديدة والقديمة، وبعيداً عن التسلُط والهيمنة والغربية الأوروبية والأمريكية، وبالتالي ستكون إدارة العالم قاطبة متعددة الأقطاب وتتوزع فيما بينها المنافع والمصالح، وحينها سيزاح ستار كابوس التسلط الأمريكي الأطلسي على العالم أجمع.

رابعاً: بانتصار محور الشرق الناهض [الروسي _ الصيني] وحلفائهم وهم كثر، من الهند وإيران شرقاً وعدداً من الدول العربية وإفريقيا وأمريكا اللاتينية غرباً، تكون هناك تباشير تحجيم الفكر والثقافة العنصرية الغربية الأطلسية للجنس الأبيض على حساب الثقافة والفكر الإنساني المتعدد الألوان والعناصر والتضاريس والديانات والمذاهب الأخرى.

خامساً: بانتصار محور الشرق المُرتقب سيجعل العديد من شعوب العالم تتنفس الصُعداء وتكسر القيود والأغلال المفروضة من قبل الغرب، وسيُعاد الاعتبار لشعوب عديدة أخرى ناضلت وجاهدت وضحت بأبنائها ضد النظام الاستعماري والعنصري والهيمنة الغربية على الشعوب، وستنكسر شوكة وسطوة حلف شمال الأطلسي بقيادة أمريكا حول العالم.

سادساً: حينما شاهد العالم الأخبار العنصرية المتتالية القادمة من غرب أوروبا، بمنع عرض الأعمال الأدبية الروسية العالمية من على خشبة العديد من المسارح الألمانية والفرنسية والإيطالية والدنماركية، ومنع التدريس الأكاديمي في الجامعات الأوروبية للإنتاج الفكري الفلسفي والشعري العالمي لفلاسفة وشعراء روسيا العُظماء أمثال /مكسيم جوركي، ليو تولستوي، وثيودور دوستو فيسكي، ميخائيل لومونسوف، بوشكين العظيم،  أندري سميرنوف، بيلخانوف والعديد العديد من الفلاسفة والمفكرين الروس، شعر العالم لحظتها بصدمة حضارية من جراء التفكير والسلوك العنصري للسياسيين والحزبيين الأوروبيين، وكأنهم شارفوا على حافة الإفلاس والفقر الذهني للطبقة السياسية التي يتناقض سلوكها مع شعوبها أولا ًومع منطق نشر التراث العالمي ثانياً ومع منطق الأخلاق ثالثاً، هؤلاء السياسيون  قد أصبحوا مفلسين عنصريين غير جديرين بقيادة شعوبهم، فكيف بالتعامل مع ثقافات الشعوب الأخرى.

سابعاً: سعى حلف شمال الأطلسي بقيادة أمريكا إلى حصار وخنق الاتحاد الروسي من الناحية العلمية والاقتصادية والثقافية والرياضية، وبعد عام من ذلك القرار غير الأخلاقي وغير المُنصف اكتشف الساسة الأطلسيين كمن يُطلق الرصاص على رجليه، وظهرت لديهم أزمات متتالية في الإنتاج السلع والسلاسل التصنيعية، وكأنهم اكتشفوا فجأة بأن اعتمادهم على الطاقة بأنواعها من الاتحاد الروسي هي العامل والمحرك للاقتصاد الأوروبي، أما البديل من الطاقة الأمريكية فاكتشفوا أنهم قد تورطوا بشرائها وبزيادة سعرية تقدر بأربعة أضعاف.  ولذلك انخفضت القدرة الشرائية للمستهلك الأوروبي بمبالغ لن يستطيعوا تغطيتها إذا ما طال أمد الحرب في أوكرانيا.

الخلاصة:

تتمحور الخلاصة في النقاط الثلاث الاتية وهي:

أولا: أظهرت الحرب الأطلسية والعقوبات والحصار على روسيا الاتحادية بأن من يُعاقب هي الشعوب الأوروبية وحدها، أما شعوب روسيا الاتحادية فإن اقتصادها بخير، وانتاجها الداخلي يتعاظم، وعملتها الروبل مستقرة.

ثانياً: اكتشفت الشعوب الأوربية فجأة بان دولهم تُدار من قبل الإدارة الأمريكية وأن حكوماتهم ماهي إلا عبارة عن كراكيس وأرجوزات يتحكم فيهم المسؤول السياسي في إدارة البيت الأبيض الأمريكي.

ثالثاً: استمرار الحرب في أوكرانيا سيجعل البلدان النامية الفقيرة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية تجوع بالمعنى اللفظي المباشر، جراء تأثرها بنقص وصول الحبوب بأنواعها وزيوت عُباد الشمس والأدوية الزراعية إلى بلدانهم، وستشكل كارثة إنسانية على البشرية.

وفوق كل ذي علم عليم

رئيس وزراء حكومة الإنقاذ الوطني – صنعاء

* المصدر: رأي اليوم

* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع