أحمد الدرزي *

الانفتاح الذي شهدته سوريا بعد الزلزال أدّى إلى تشكّل بواعث أمل لدى السوريين في الداخل، الذين اختنقوا بحجم الضغوط الاقتصادية الهائلة، وفي الوقت نفسه ولّد هواجس ومخاوف لدى بقية السوريين في مناطق المعارضة.

لم يكن مفاجئاً قدوم البرلمانيين العرب من بغداد إلى دمشق، ثم ما تلاه من وصول وزير الخارجية المصري سامح شكري، فكل المؤشرات التي سبقت وصولهم، تؤكد وجود خطوات إقليمية ودولية مفتوحة نحو سوريا، وخاصةً بعد حادث الزلزال، الذي وفّر الذريعة المناسبة لتسريع القرار المتخذ بالعنوان الإنساني، مما أدى إلى تشكّل بواعث أمل لدى من تبقّى من السوريين في الداخل، الذين اختنقوا بحجم الضغوط الاقتصادية الهائلة.

وفي الوقت نفسه ولّد هواجس ومخاوف لدى بقية السوريين، الذين يعيشون في المناطق التي لا تخضع للسلطة الرسمية، خشية أن يكونوا ضحية التوافق الإقليمي والدولي كما يتصوّرن، فهل تتكفّل عودة العرب إلى دمشق بتوسّع مساحة الأمل للسوريين في الداخل، وإزالة الهواجس لمن هم في الخارج؟

لم تكن عودة العرب المتسارعة إلى دمشق، وليدةً للزلزال الذي أصاب تركيا وسوريا، فالأمر يعود إلى ما بعد الدخول العسكري الروسي إلى الحرب في سوريا، في 30 أيلول/سبتمبر، الذي أدى إلى انقلاب الوضع العسكري في سوريا لصالح دمشق، والذي صُبَّ لمصلحة السعودية والإمارات ومصر، بإزالة تهديدات نجاح الإخوان المسلمين في إسقاط دمشق، وما يعني ذلك من إمكانية تمدّد نموذجهم إلى عواصمهم.

ظهر التحوّل الأميركي بعد الزلزال، الذي تبدّى من خلال السماح المحدود لتجاوز العقوبات الخانقة، التي فرضتها الإدارة الأميركية على سوريا، لمدة 6 أشهر كاختبار لمدى قدرة نجاح سياساتها الجديدة، بعد انزياح إيران بشكل شبه كامل إلى الشرق، وتوسيع قاعدة الشراكة الاستراتيجية مع كل من روسيا والصين، بعد الحرب في أوكرانيا.

وهذا ما دفعها للعودة إلى سياسات الاحتواء التي مارستها بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، التي تقتضي ضغوطاً اقتصادية ضمن الحد الأقصى، وإغراء الدول المستهدفة بجوائز الانفراج، مقابل عودة الاصطفاف إلى جانبها، في صراعها الكبير مع الصين وروسيا، وظهر ذلك بعدم اعتراضها على توجّه البرلمانيين العرب بقيادة رجلها في العراق محمد الحلبوسي، ثم مجيء وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى دمشق والتقائه بالرئيس بشار الأسد.

ولا يغيب دور روسيا عمّا يحصل من تحولات في سوريا، فهي بعد حربها مع حلف الناتو في أوكرانيا، ويقينها بأن فخ الحرب سيستمر لسنوات، وأنّ الساحة السورية ستشكّل أهم ساحات الاستنزاف لها، هي تحتاج إلى تبريد الأجواء في سوريا، بدفع الدول العربية لاستثمار توسع هامش حرية الحركة، من جراء نتائج الحرب التي لم تُسقطها، والحضور الدولي الكبير للقوى الآسيوية الناهضة، وعودة اليسار إلى أميركا الجنوبية، إضافة إلى مواقف الكثير من الدول الأفريقية.

وقد تختصر نصيحة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لمثيله المصري سامح شكري في اللقاء الأخير، الذي شكا فيه الحضور الإيراني الكبير في سوريا، فأجابه بأن غياب العرب عن سوريا أتاح لإيران ملء الفراغ.

ولا تغيب “إسرائيل” عن مشهد عودة العرب إلى دمشق، والذي تزامن مع انعقاد مؤتمر العقبة الأمني في الأردن في 26 شباط/فبراير الماضي، بطلب من الولايات المتحدة، لكل من السلطة الفلسطينية و كيان “إسرائيل” والأردن ومصر، بعد مأزق تصاعد عمليات المقاومة في الضفة الغربية، والجنوح الصهيوني لأقصى حالات التطرف.

وهي لا مانع لديها من نجاح سياسات الاحتواء الأميركية، إذا ما استطاعت إخراج إيران وحزب الله من سوريا، بعد أن تحوّلت سوريا إلى ساحة مواجهة مباشرة، وارتفاع مستوى التهديدات لها، وخاصةً بعد وضوح دور الساحة السورية في وصول الأسلحة إلى الضفة الغربية بوسائل متنوّعة عبر الأردن، وهي ستستثمر ذلك في تقويض جسر المرور الإيراني بالسلاح إلى حزب الله في لبنان، وبقية حركات المقاومة في فلسطين.

وللسعودية الباحثة عن دور إقليمي مركزي، في مواجهة كلّ من الدور الإقليمي الإيراني بشكل أساسي، والدور التركي رغم تراجعه المؤقت بفعل زيادة الضغوط السياسية والاقتصادية بعد الزلزال، وهي بحضورها المقبل المشروط، تسعى لتقليص الدور الإيراني إلى الحدود القصوى، بعد العجز عن فك العلاقة السورية الإيرانية، كشرط أساسي للعودة إلى سوريا.

وهي بعودتها ستستخدم قدراتها المالية الهائلة، لإعادة التعافي المشروط، بما ينعكس إيجاباً على تقليص مخاوفها في الخليج والعراق واليمن ولبنان وفلسطين، انطلاقاً من الساحة السورية، إضافة إلى “إسرائيل”، التي تعتبرها حليفاً لا بدّ منه لمواجهة تهديدات الدور الإيراني المتصاعد.

ومصر المتردّدة أيضاً، وجدت الفرصة المناسبة لها، وهي التي افتقدت دورها الجيوسياسي الأهم في المنطقة والعالم، بعد أن تخلّت عن ذلك لـ “إسرائيل”، وما ترافق ذلك من تحولات اقتصادية ضاغطة على المصريين، وخاصةً بعد التضخم الاقتصادي من جراء الضغوط على الجنيه المصري، وهي ترى بالعودة إلى سوريا فرصة لموازنة الدور التركي والإيراني انطلاقاً من بوابة أمنها القومي الشمالية، وفرصة جديدة لاستعادة دورها الإقليمي، بالتوافق مع الدور السعودي الإماراتي، وهي بهذا الحضور المتأخر تعزز علاقاتها مع سوريا بعد إسقاط الإخوان المسلمين في مصر، وتجد مساحة للقاء مع إيران في سوريا، للوصول إلى علاقة كاملة معها.

بدورها إيران تنظر إلى العودة العربية إلى دمشق من زاوية مختلفة، وهي تعتبر الوجود العربي المستجد فرصة لها، فهي لا تعيش القلق الكبير من جراء هذه العودة، بحكم يقينها بأن دمشق لا يمكنها أن تضحي بعلاقتها معها، وهي التي تعرضت لكارثتين أمنيتين وسياسيتين واقتصاديتين، في ثمانينيات القرن الماضي، والكارثة المستمرة حتى الآن، وكان للدول العربية نفسها الدور نفسه في كليهما.

وهي تمثّل بالنسبة لدمشق أقوى ورقة قوة، لا يمكن أن تتخلّى عنها، لمواجهة وموازنة التهديدات المستمرة، إضافة إلى ارتفاع مستوى شراكتها الاستراتيجية مع روسيا الموجودة معها في سوريا، وانخراطها في الحرب الأوكرانية، وفقاً للاتهامات الأميركية والغربية.

هذا إضافة إلى شراكتها الاستراتيجية مع الصين بعد زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى الصين، والتي سيكون الحضور الصيني المقبل في سوريا أحد أهم نتائجها، وهي تراهن على ما يتيحه الوجود العربي المستجد في سوريا، على إمكانية التوافق مع السعودية في ساحات الصراع، بما يصب في مصلحة البلدين، وتقليص الدور الأميركي في منطقة غرب آسيا، بما ينعكس على كيان “إسرائيل” بتجريدها من أدوات القوة التي اكتسبتها من جراء علاقاتها مع الكثير من الدول العربية.

وتركيا لا تغيب عن المشهد أيضاً، مع وصول وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى أنقرة، قادماً من دمشق، وهي المأزومة بعد كارثة الزلزال، الذي أسقط ما تضخم من أوهام حول دور إقليمي بمستوى قوة عظمى، وأعادها للبحث عن دور إقليمي ينسجم مع ما تمثّله من موقع جيوسياسي فريد، وقوة اقتصادية كبيرة، وهي لاعتبارات داخلية بأمسّ الحاجة لعودة سياسات تصفير المشاكل مع المحيط الإقليمي بتناقضاته، وخاصةً سوريا التي تُعتبر اللاعب الأهم فيها الآن بلاجئيها، وارتداد كارثتها على الداخل التركي، وهي بعودة العرب إلى دمشق، ثم عودتها للتلاقي مع سوريا، تكسب أوراق قوة بما يخالف سياساتها الكارثية على مدى 12 عاماً من “الربيع العربي” المنهك والمدمّر للعرب.

يخلق كل هذا الصراع على الأدوار انطلاقاً من الساحة السورية، فرصة جديدة لا يقينية لمستقبل سوريا والسوريين، يعتمد على مجمل السياسات المطلوبة منهم، والتي تحتاج إلى تناولها بشكل صريح في الجزء الثاني.

* المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع