بكين وموسكو… متى يصبحان في قارب واحد؟
شاهر الشاهر
مرّ عام على الحرب الأوكرانية، تلك الحرب التي أثّرت على العالم كله وبشكل كبير، لدرجة أنه لم تبقَ دولة إلا وتأثرت بمفاعيل تلك الحرب وارتداداتها الاقتصادية على أقل تقدير.
ولعل القاسم المشترك الأهم بين أطراف تلك الحرب هو سوء التقدير، فلم يعتقد أحد بتطورات هذه الحرب واستمراريتها. فالروس اعتبروها “عملية خاصة” ستنتهي بتنفيذ الأهداف الموكلة إليها وبشكل سريع، مراهنين في ذلك على عدم قدرة الدول الغربية على معاداة موسكو نظراً لحاجتهم الكبيرة إلى النفط والغاز الروسي.
فيما راهنت الولايات المتحدة والدول الغربية على عدم قدرة موسكو على تحدي العقوبات الغربية، وخاصة على الصعيد الاقتصادي، حيث فرضت على موسكو أقوى العقوبات على مر التاريخ.
لكن بكين، يبدو أنها أدركت حجم الكارثة منذ البداية، فعملت على اتخاذ مواقف اتسمت بالحذر والبراغماتية، ودعوة الأطراف إلى التهدئة والعودة إلى الحوار، وهو ما ينسجم مع مبادئ السياسة الصينية وتوجّهاتها. وانطلاقاً من فكرة “تحويل الأزمة إلى فرصة”، فقد حدّدت بكين أهدافها من الحرب في 3 أشياء، هي:
– إعادة تشكيل النظام الدولي القائم وصولاً إلى “نظام دولي أكثر عدلاً”.
– الانشغال الأميركي عن الصين، وتأجيل أي مواجهة محتملة بين الطرفين، خاصة وأن الوقت في مصلحة بكين ويعزز من قوتها ومكانتها.
– تعزيز التعاون مع روسيا، لتكون تابعة لبكين، التي ستشكّل طوق النجاة لها في هذه الحرب.
ومنذ بدء الحرب بدا الموقف الصيني أقرب إلى انتهاج سلوك دولة عظمى، فكرّست فكرة أن الصين أكبر من أن تكون مع أو ضد فقط، فهي دولة لها موقفها الخاص بها، والذي بدا منسجماً مع مبادئ السياسة الصينية وتوجهاتها، وملبياً للنزعة البراغماتية التي لا تخفيها بكين في الكثير من مواقفها.
لقد أبدت بكين تفهمها للمخاوف الروسية من التهديدات التي يشكّلها حلف الأطلسي على الأمن القومي لموسكو. لكنها وفي الوقت نفسه عارضت الاجتياح الروسي للأراضي الأوكرانية، انطلاقاً من احترامها لمبدأ سيادة الدول ورفض التدخّل في شؤونها الداخلية.
لم يكن الموقف الصيني كافياً بالنسبة للغرب، حيث تم الطلب من بكين اتخاذ مواقف أكثر تشدداً ورفضاً لتلك الحرب، وإعلان موقفها المتضامن مع أوكرانيا. فبكين، التي تربطها علاقات اقتصادية قوية جداً مع الولايات المتحدة الأميركية وأوكرانيا والدول الغربية، حيث بلغت نسبة التبادل التجاري بينها وبين الولايات المتحدة في العام 2021، (755.6 مليار دولار)، أما مع الاتحاد الأوربي فقد بلغت 828.1 مليار دولار، بينما لم تتجاوز 140 مليار دولار مع روسيا.
لكنها وفي الوقت نفسه ترى نفسها أقرب سياسياً إلى الموقف الروسي الرافض لأحادية القطبية الأميركية. لذا وجب عليها حساب مواقفها بدقة، سعياً إلى تقليل الخسائر وتعظيم المكاسب قدر الإمكان، أو على الأقل الاستثمار بمجريات الحرب وإمساك العصا من المنتصف قدر الإمكان.
من هنا فقد سعت لأن تكون “طوق النجاة لروسيا”، مقابل حصولها من موسكو على امتيازات نفطية واقتصادية، ودعم روسي مطلق على الصعيد السياسي والعسكري.
إن مجريات الأحداث تشير إلى أن مصلحة بكين تكمن في إضعاف طرفي النزاع قدر الإمكان، وعدم تحقيق انتصار كاسح لطرف على آخر. فهزيمة المعسكر الغربي تعني هيمنة روسيا المجاورة لبكين، والتي كان بينهما العديد من الخلافات الحدودية والتنافس الأيديولوجي لعقود طويلة. أما هزيمة روسيا فيما لو حدثت، فستكون إيذاناً ببدء الحرب على الصين من قبل الولايات المتحدة، تلك الحرب التي تعمل بكين على تلافيها قدر الإمكان، خاصة وأنها تدرك تماماً أن الوقت يسير في مصلحتها، فالصين تسير نحو المزيد من القوة، بينما تتجه الولايات المتحدة نحو المزيد من الانكماش والتقوقع والضعف، حتى وإن كان ذلك ليس على المدى القريب.
بكين وتأدية دور الوساطة في الأزمة الأوكرانية
عرضت بكين فكرة الوساطة لإيجاد حل للأزمة، وكانت رؤيتها لحل الصراع تستند إلى تنفيذ اتفاقية مينسك لعام 2015، بوساطة فرنسا وألمانيا. وقد كانت تهدف إلى:
– إظهار صورتها أمام العالم كدولة مسؤولة ومحبة للسلام، وقادرة على التدخل والوساطة في حل الأزمات.
– الحفاظ على مصالحها الاقتصادية الكبيرة في أوكرانيا، ومصالح الصينيين القاطنين فيها، لذا فقد ضغطت على المجر والدول المجاورة الأخرى لتكثيف دعمها للاجئين من الصراع.
– محاولة إحداث شرخ بين الموقفين الأوروبي والأميركي، وجعل دول الاتحاد الأوروبي تنفصل عن واشنطن وتسعى إلى حلها الخاص لمشكلة أوكرانيا.
– الحفاظ على العلاقات مع الاتحاد الأوروبي على أساس إيجابي، مع تصعيد انتقاداتها لحلف شمال الأطلسي باعتباره من مخلّفات الحرب الباردة.
تلك المساعي الصينية لم تلقَ اهتماماً من الدول المتحاربة، كما أن بكين لم تضغط في مسعاها هذا لأنها لا تريد أن يحسب عليها أي فشل.
أثر الحرب الأوكرانية على قضية تايوان
أكثر ما كانت بكين ترفضه منذ البداية، هو المقارنة الغربية بين تايوان وأوكرانيا. على اعتبار أن القضيتين متشابهتان من وجهة النظر الغربية، لكنهما مختلفتان تماماً وفقاً لما تراه بكين.
فأوكرانيا دولة مستقلة ذات سيادة، وعضو في الأمم المتحدة، ولها علاقات مع جميع دول العالم تقريباً. أما تايوان فهي جزء من الأراضي الصينية، وليست عضواً في الأمم المتحدة، ولا تعترف بها سوى عدة دول صغيرة وغير معروفة، ولا وزن لها على الساحة الدولية. كما أن الولايات المتحدة ذاتها لا تعترف بتايوان، بل تتعامل معها كورقة ضغط لابتزاز بكين وإجبارها على تقديم المزيد من التنازلات في بعض الملفات المختلف عليها بين الطرفين.
إن قضية تايوان قضية مصيرية للصين، وعودتها إلى الوطن الأم أمر محسوم ولا يقبل التفاوض، وهو محط إجماع الصينيين قيادة وشعباً. وهي القضية التي أخذ الحزب الشيوعي الصيني على عاتقه مهمة استعادتها، وأكد ذلك المؤتمر العشرون للحزب الذي عقد في شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي.
ورغم كل الاستفزازات الأميركية للصين في قضية تايوان، إلا أن بكين ما زالت حتى اليوم تبدي موقفاً صلباً في هذا الملف، مع إمكانية المرونة في التعاطي مع الولايات المتحدة حول باقي الملفات، مع التأكيد أن المرونة التي تبديها بكين لا تعني الليونة إطلاقاً.
إن عودة تايوان قضية محسومة بالنسبة لبكين، والسؤال هو ليس هل ستعود تايوان أم لا؟ ولكن السؤال هو متى ستعود؟ وبأي طريقة؟ ذلك هو السؤال الذي حسم الإجابة عليه المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي الصيني، والذي فوّض الرئيس شي جين بينغ باستخدام الوسائل كافة لاستعادة تايوان، بما فيها القوة العسكرية.
لكن بكين، حتى الآن، تسعى إلى تطبيق “استراتيجية إخضاع العدو من دون قتال”، معتمدة في ذلك على عدة خيارات، منها السياسية ومنها الاقتصادية. فإن رغبة بكين في استبعاد اللجوء إلى استخدام القوة تعود لعدة أسباب، وهي:
– استكمال بناء قوتها العسكرية، وتطوير جيشها، وقد وضعت خطة لذلك تنتهي في العام 2027 (حيث تصادف الذكرى المئوية لتأسيس جيش التحرير الشعبي الصيني)، وتكون نهاية الولاية الرئاسية الثالثة للرئيس شي.
– انتظار بلوغ نقطة “توازن القوة” مع واشنطن.
– تمسك بكين باستراتيجية “الصبر الاستراتيجي”.
– الاستفادة من دروس الحرب الأوكرانية، التي أكدت أن اللجوء لاستخدام القوة ليس هو الحل.
سعي الولايات المتحدة لاحتواء الصين
لم تكن فكرة احتواء الصين فكرة جديدة في السياسة الأميركية، فقد كانت بكين الشغل الشاغل للإدارات الأميركية المتعاقبة، وخصوصاً الإدارات الثلاث الأخيرة (أوباما وترامب وبايدن).
لقد جاءت استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي صاغتها إدارة بايدن وأعلن عنها في الثاني عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2022، لتكرّس الصين كتهديد حقيقي للولايات المتحدة الأميركية.
من هنا فقد بدأت الإدارة الأميركية تكثيف جهودها لتطويق الصين واحتوائها، عبر نسج شبكة من التحالفات حولها، هدفها زيادة الضغط عليها، وضمان مواجهتها بمساعدة الآخرين إن اقتضى الأمر ذلك. لذا فقد تم غض الطرف عن كل من اليابان وألمانيا، بل وتشجيعهما أيضاً على إعادة بناء جيشيهما، وهو الأمر الذي كان مرفوضاً من قبل الغرب والولايات المتحدة تحديداً منذ الحرب العالمية الثانية التي كرست هزيمة هذين البلدين.
وواصلت الولايات المتحدة محاولات تطويق بكين عبر تطوير تعاونها العسكري مع الفلبين، التي أعطت لواشنطن 4 قواعد عسكرية فيها. هذا كله إضافة إلى تحالفي (أوكوس وكواد) وغيرهما. من هنا فإن بكين تسعى إلى كسر طوق العزلة الذي تسعى واشنطن لفرضه حولها. وبالتالي، فإن موسكو وطهران وكوريا الشمالية ستكون هي الخيارات الأكثر جذباً لبكين في سعيها لتحقيق ذلك.
بكين والدروس المستفادة من الحرب في أوكرانيا
لم تكن الحرب الأوكرانية حرباً بين روسيا وأوكرانيا فقط، بل هي صراع بين محورين: محور يسعى للحفاظ على بقائه وهيمنته على السياسة الدولية كقطب أوحد، ومحور يسعى لتغيير شكل النظام الدولي القائم (روسيا والصين).
لذا فقد شكّلت هذه الحرب درساً حاضراً لبكين، أتاح لها مراقبة ما يحصل، وزاد من إمكانية حسابات الربح والخسارة وبشكل دقيق. لقد بدى واضحاً أن تكلفة الحرب باهظة وليس لدولة القدرة على تحمّلها من دون أن تكون لذلك انعكاسات سلبية عليها. وهو ما عزّز من التوجّه الصيني الهادف إلى العمل على تطبيق استراتيجية “إخضاع العدو من دون قتال”. وأهمية التخطيط طويل الأمد لإخضاع العدو، وفقاً للحكمة الصينية القائلة: “اهزم عدوك قبل أن يعرف أنه قد دخل في حرب معك”.
لقد أدت الحرب في أوكرانيا إلى زيادة التعاطف الدولي مع كييف، وخاصة الدول الأوروبية، وهو ما تخشى الصين تكراره مع تايوان في حال نشوب أي معركة بينهما، كما تخشى أن يؤدي ذلك إلى مزيد من الاعتراف الدولي بتايوان.
وترى بكين أن الحرب في أوكرانيا لم تحقّق أهدافها، فلم يستطع أي طرف فرض إرادته على الطرف الآخر. لذا فإن أي حديث عن الانتصار لا معنى له، فالانتصار الجزئي لا قيمة له في ظل حسابات الربح والخسارة التي تحرص بكين على تطبيقها.
الصين وروسيا ليسا حليفين
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن فكرة التحالفات، من دون التدقيق بمعنى الأحلاف وفلسفتها، ومتى ترتقي العلاقة بين الدولتين إلى حد التحالف الفعلي. وذهبت العديد من وسائل الإعلام إلى نعت أي علاقة بين بلدين على أنها تحالف. فإن أهم ما يميّز الحلفاء هو التشابه الفكري بين دوله وغياب الخلافات، وتلاقي المصالح وبشكل كبير.
وبالعودة إلى الصين وروسيا، نجد أن البلدين لديهما خلافات كبيرة، على الصعيد الفكري والتوجه الأيديولوجي، كما أن لديهما خلافات حدودية تمت تسويتها لاعتبارات معينة، وربما لم تحل بشكل مطلق.
كما أن لدى قادة البلدين اختلافات كبيرة في طريقة إدارة الأزمات. فالرئيس الصيني شي جين بينغ لا يريد أن ينظر إليه الغرب كما ينظرون إلى بوتين، بمعنى أنه بغنى من أن يتعرّض لحملة تشويه من قبل الإعلام الغربي ضده، فهو يسعى إلى التركيز على القوة الناعمة وبشكل كبير. لذا فقد سعت بكين في عهده إلى الابتعاد عن سياسة التحالفات، مفضّلة البحث عن المصالح المشتركة (الفوز المشترك) على حد تعبيرها.
كذلك فإن هناك تنافساً بين روسيا والصين، خاصة وأنهما دولتان متجاورتان، وانطلاقاً من فكرة أن “كل دولة هي عدو لجارها”. فروسيا، باعتبارها ثاني أكبر قوة عسكرية في العالم، هي أيضاً منافس يجب على الصين إضعافه أو التفوق عليه. فروسيا “الضعيفة” سيكون التعامل معها أسهل، ويكون الوصول إلى ثرواتها متاحاً لبكين. فالعلاقة بين البلدين يمكن وصفها بالشراكة الاستراتيجية التي قد تتطور لتصل حد التحالف، وهذا مرهون بالضغط الغربي على بكين الذي قد يدفعها إلى “تحالف الضرورة” مع موسكو.
وختاماً، لقد مرّ عام على الحرب في أوكرانيا والأمور تسير نحو التصعيد، فالغرب لا يزال مستمراً في تسليحه لأوكرانيا، وروسيا لا خيار أمامها سوى المضي قدماً في دفاعها عن أمنها القومي. مرّ عام وحلفاء أوكرانيا يجاهرون بدعمها الآخذ في التصاعد، بينما يخفي “حلفاء موسكو” دعمهم، ولا يجرؤون حتى على الإفصاح عنه.
- المصدر: الميادين نت
- المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع