الكيان المؤقت.. وتحوّل نقاط القوة إلى ضعف
د. محمد محمود مرتضى
بعيدًا عن الادعاءات الدينية التي قُدّمت لتسويغ انشاء “الكيان الإسرائيلي المؤقت”، فإن الأسباب السياسية والعسكرية الحقيقية، هي زرع قاعدة عسكرية متقدمة للاستعمار الغربي في قلب غرب آسيا. وقد أدى هذا الكيان، منذ تأسيسه الدور المنوط به رغم انتقال دور الراعي له من اليد البريطانية الى اليد الأمريكية.
فخلال العقود المنصرمة من عمره، استطاع هذا الكيان التمدد في قلب غرب آسيا، سواء من الناحية الجغرافية – العسكرية، أو ناحية النفوذ والهيمنة، مستفيدًا من الدعم المادي والعسكري الهائل المُقدم له، وموظفًا آلة إعلامية ضخمة تروج لمظلومية مزعومة، ومحرقة مبتدعة.
لقد حقق هذا الكيان المؤقت، بقوته العسكرية “المتفوقة” انتصارات كبيرة على الجيوش العربية، الى أن حانت لحظة الحقيقة “المرة”؛ فذروة القوة التي ظهر فيها عند دخوله للعاصمة اللبنانية بيروت، مثلت في نفس الوقت بداية الانحدار، وذلك مع انطلاق المقاومة في لبنان، وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، حيث بدأت معالم الوهن والضعف تظهر عليه، فتجلى الوهن الأول، في تحرير الأراضي اللبنانية (باستثناء مزارع شبعا)، ثم ترسخ هذا الوهن في حرب عام 2006، حين لم يستطع تحقيق الانتصار فيها على غير عادته في الحروب، مسجّلًا لأول مرة في تاريخه هزيمة مدوّية لن تزول من وعيه أبدًا.
ومنذ عام 2006 استطاعت المقاومة الاسلامية أن ترسخ معادلات ردع متعددة الأوجه، مترافقة مع عمليات نفسية ضد هذا “الكيان المؤقت”، قادها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، ما كانت لتؤتي أكلها بشكل فعّال لولا تراجع معنويات المستوطنين والجنود الصهاينة على حد سواء.
هذا الانحدار السريع لقدرة الردع عند الجيش الصهيوني ترافق مع أزمات سياسية داخل الكيان، تُرجمت لأول مرة في تاريخه، كتابات وتصريحات وتوقعات حول ارتفاع احتمال دخول الكيان المؤقت في أتون “حرب أهلية”.
والواقع أن التحوّل الذي طرأ على عملية مواجهة حزب الله ومقاومته، من مواجهة ترتكز على العمليات الأمنية والعسكرية الى مواجهة اقتصادية تقودها واشنطن، لم يكن ليتم لولا معادلة الردع المفروضة، ولولا ما يشبه اليأس عند الإسرائيلي والأمريكي من إمكانية تحقيق نصر عسكري على لبنان.
وبعيدًا عما حصل بموضوع تعيين الحدود البحرية مع لبنان، والمعادلة التي فرضتها المقاومة لتحصيل الحقوق، إلا أنه من الواضح أنّ حزب الله لا ينظر الى الأداء الأمريكي في عملية حصار لبنان وتجويع شعبه وتدمير اقتصاده على أنه مجرد “حرب ناعمة” تنبغي مواجهتها بحرب ناعمة مضادة. نعم ربما كانت النظرة الأولية الى هذه الحرب كذلك (وإن عمل حزب الله منذ البداية بالاحتياط تجاه هذه القضية)، لكن مع الوقت، ومع ظهور بوادر تشي أن الأمور قد تذهب الى ما هو أبعد من مجرد ضغط اقتصادي، وصولًا الى نشر الفوضى، بدأت مقاربة حزب الله للقضية تأخذ بعدًا آخر.
قلنا إن الحزب منذ البداية احتاط لحجم ردة فعله تجاه هذه الحرب الاقتصادية، فأطلق أمينه العام جملته الشهيرة: إذا جوعتنا فإننا سنقتلك.
ربما لم يدرك الكثيرون مغزى هذا الشعار وأبعاده، لكن من يَخْبر عقل حزب الله، يدرك تمامًا هذه الابعاد.
يمكن الجزم بسهولة من خلال مجموعة من المواقف التي أطلقها السيد نصر الله، أن حزب الله ينظر الى الحصار الاقتصادي على أنه بمثابة حرب بكل ما لكلمة حرب من معنى، لا ببعدها “الناعم” بل بما يعادل “الحرب الصلبة” بلحاظ النتائج المترتبة على هذه الحرب. إذ من المفترض، نظريًا على الأقل، ألا ينتج عن الحرب الناعمة خسائر في الأرواح والممتلكات، لكن المسار الذي يأخذ فيه الأمريكي الأمور في لبنان سيؤدي الى فوضى عامة ينتج عنها تدمير للبنى الاجتماعية، وللعقد الاجتماعي بين اللبنانيين، فضلًا عن الاحتمال القوي في تدهور الأمور من ناحية أمنية. والواقع أن النتائج التي قد تخلفها الحرب الاقتصادية، بمسار كهذا، أخطر بكثير من الحرب العسكرية، وأبعد مدى، وأعمق أثرًا.
ورغم الإجراءات الاقتصادية التي اتخذها حزب الله لناحية محاولة التخفيف من وطأة الحرب الاقتصادية على اللبنانيين، الا أنها تبقى مجرد محاولة تخفيف لا معالجة جذرية، إضافة الى أن مواجهة هذه الحرب الاقتصادية اقتصادياً، لا تبدو خيارا سهل المنال، فضلاً عن أن يكون متكافئا. فما هو الخيار؟
من الواضح أن الخيارات المتاحة تكاد تكون محصورة بخيار التهديد بالذهاب الى الحرب، وهنا نعود الى ما قاله السيد نصر الله حول قتل من سيسعى لتجويع بيئة المقاومة أو اللبنانيين.
لكن هذا الخيار ليس قفزة في المجهول ولا هو خطوة غير محسوبة النتائج، وقد أثمر في قضية تعيين الحدود، فلماذا لا يثمر في افشال الحرب الاقتصادية؟
يبدو ثمة عوامل عدة تجعل من تهديدٍ بالحرب كهذا خطوة محسوبة بعناية:
الأول: الوضع الداخلي المأزوم في الكيان المؤقت، والذي وإن حاول أن يناور ببعض الأعمال العسكرية أو الأمنية المحدودة، لكنها لا تعدو أن تكون أكثر من زوبعة في فنجان يسعى الإسرائيلي من خلاله لإيحاء كاذب بأنه مستعد للحرب.
الثاني: المقدرات العسكرية الكبيرة التي راكمتها المقاومة طوال الفترة الماضية.
الثالث: أن الحرب التي هدد بها سماحة السيد نصر الله لن تكون محصورة بين لبنان والكيان المؤقت، بل تحدث سماحته عن حرب إقليمية.
الرابع: أن الأمريكي نفسه غير مستعد للموافقة على الذهاب نحو الخيار العسكري، يرتبط بعض أسبابه بانشغالاته ضد روسيا والصين من جهة، وباحتمال تأثير أية حرب إقليمية على البقية الباقية من تواجده العسكري المباشر في المنطقة. وهو لم يذهب الى خيار الحرب الاقتصادية الا لمحاولته تجنب الأثمان التي قد تترتب عن المواجهة العسكرية.
الخامس: أن أكلاف الحرب العسكرية، بالنسبة للمقاومة، مهما كبرت، ستكون أقل من نتائج الحرب الاقتصادية اذا ما استمرت؛ لأنها تستهدف البنية الاجتماعية برمتها لبيئة المقاومة، مع ما يترتب عليها.
من خلال هذا المنظار، يمكن فهم خلفية التلويح بالذهاب الى الحرب في حال استمر الحصار المؤدي الى الفوضى.
والخلاصة، أنه ما دامت السياسة الامريكية بشكل خاص، والسياسات الغربية بشكل عام في المنطقة، تدور مدار الحفاظ على أمن “الكيان المؤقت” ومصالحه، فإن تهديد أمن هذا الكيان سيمثل الخطوة الأنجع، والحل الأمثل. وهكذا، تتحول نقطة القوة الى نقطة ضعف، وما كان أداة أمريكية للضغط على المنطقة غدا أداة للضغط على الأمريكي نفسه، ومن كان مرعبًا للآخرين، انقلب الى مرعوب. هي عملية تآكل للدور الوظيفي الذي أنشئ الكيان من أجله، ولن يطول الوقت كثيرًا، أمام المسار الذي تسير به الأمور، حتى يفقد هذا الكيان دوره الوظيفي نهائيًا، لذلك فإن هذا الكيان ليس إلا كيانًا مؤقتًا.
- المصدر: موقع العهد الاخباري
- المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع