عسكر السودان واسترضاء الخارج .. صفقة التطبيع مع الكيان الصهيوني
السياسية :
مركز البحوث والمعلومات
منذ سيطرة المجلس العسكري على السلطة في السودان والمشهد في البلد يمضي نحو المجهول على المستويين الداخلي والخارجي، حيث كانت السنوات الأربع السابقة شاهدة على أن الفريق عبد الفتاح البرهان ورفاقه في المجلس لم ولن يكتفوا بما تم إحداثه من فوضى سياسية واقتصادية غير مسبوقة في تاريخ السودان.
المشهد الملتهب في الداخل السوداني خلال المرحلة الماضية كان يشير بصورة واضحة إلى أن الاستقرار المنشود من قبل الشعب السوداني أصبح بعيد المنال، لا سيما مع إصرار العسكر على الاستمرار في بسط السيطرة على السلطة والانقلاب على كل المواثيق والاتفاقات الموقعة مع بقية القوى السياسية السودان، وفي مقدمتها انقلاب اكتوبر 2021 وتعطيل التفاهمات السابقة والغاء الوثيقة الدستورية المنظمة للشراكة بين القوى المدنية والعسكر.
حالة الانكشاف التي عاشها العسكر أمام الشعب السوداني بعد الانقلاب دفعهم إلى البحث عن مسار جديد للتحايل على مطالب الثوار من خلال إعلان الفريق عبدالفتاح البرهان في يوليو الماضي عن القبول بتسليم السلطة إلى القوى المدنية وانسحاب العسكر بمجلسه من الحياة السياسية.
عسكر السودان واسترضاء الخارج .. صفقة التطبيع مع الكيان الصهيوني
ولكن التشكيك في ما تم إعلانه من قبل العسكر له ما يبرره من قبل شريحة واسعة من الشعب، خاصة مع تفاقم حالة الانفلات الأمني (المقصودة) في عدد من المناطق خاصة منطقة دارفور وفي النيل الأزرق وجنوب كردفان، واتساع الاشتباكات والمواجهات المسلحة بين القبائل التي خلّفت عشرات القتلى.
ولم تقف حالة التشكيك في نوايا العسكر في ما يخص إرباك وتأزيم المشهد الداخلي، حيث كان المشهد الخارجي أكثر وضوحاً في تعرية المواقف الحقيقة للعسكر، ولنا في ما تم إعلانه بعد أيام من زيارة وزير خارجية الكيان الصهيوني “إيلي كوهين” إلى الخرطوم ولقائه الفريق البرهان، خير دليل على أن حالة الشك لم تأتِ من فراغ.
ولن يكون مبالغاً القول أن شريحة واسعة من أبناء الشعب السوداني ينظرون إلى أن إعلان المجلس العسكري عن قرب التطبيع مع الكيان الصهيوني يمثل خيانة عظمى لكل الثوابت الوطنية والعربية والإسلامية، لا سيما وأن هناك إرث وطني سوداني أصيل فيما يخص نصرة القضية الفلسطينية وشعبها المقاوم، وما اللاءات الثلاث ( لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض) الشهيرة التي انطلقت من السودان خلال مؤتمر القمة العربية عام 1967، إلا دليل أن ما يحدث من قبل البرهان لا يعكس المواقف الثابتة والمبدئية للسودان إزاء القضية العادلة للشعب الفلسطيني.
وفي هذا السياق يمكن فهم ردة الفعل القوية تجاه مؤامرة التطبيع مع الكيان الصهيوني من قبل مختلف القوى السودانية، وكان من الواضح أن أغلب البيانات الرافضة للزيارة تؤكد أن التطبيع مع الكيان الصهيوني لن يحقق إلا مصالح العسكر وبقائهم في السلطة، ويؤكد كمال عمر، الأمين السياسي لحزب المؤتمر الشعبي ” إن عبدالفتاح البرهان الذي أقدم على المضي في خطوات التطبيع، لا يمتلك أي صفة سوى الصفة الانقلابية، لكنه يتصرف كرئيس منتخب للبلاد، وبأن ما حدث اليوم يبين عدم جدية البرهان في العملية السياسية الحالية”.
نقابة الصحفيين السودانيين بدورها أعلنت رفضها التام لعملية التطبيع التي يقودها رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان مع “إسرائيل”، دون اعتبار للإرادة الشعبية والمؤسسية”.
وفي سياق البيان المعلن استهجنت النقابة زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي إلى الخرطوم، بهدف توقيع اتفاق سلام مع من يحكمون السودان، وأكد البيان إن ما يحدث الآن يشكل تهديداً خطيراً للسودان، وأنه محاولة لاستثمار أوضاعه وأزماته السياسية لإقحامه في صراع دولي، ما ينذر بمخاطر عديدة على مستقبل البلاد.
وفي سياق التنديد بمؤامرة التطبيع يقول ،حسن عثمان، القيادي بتحالف نداء السودان ونائب رئيس حركة الإصلاح الآن، إن “الزيارات والاتفاقيات تلك تتم بمعزل عن الشعوب المقهورة التي يتسلط عليها حكام يتعرضون للضغط من الدول الإمبريالية والدول العربية التي طبعت مع إسرائيل”، مبيناً أن “كل دول محور التطبيع لم تستفد شيئا منه، مثل مصر وموريتانيا والمغرب والبحرين وجنوب السودان وجميعها لم تجن غير السراب والقلاقل الداخلية”.
وما زاد من الاحتقان في الداخل السوداني هو ما كشفه وزير الخارجية الصهيوني “إيلي كوهين” بعد عودته إلى عاصمة دولة الاحتلال عن أن هناك مسودة اتفاق سلام مع السودان سوف يتم توقيعها خلال هذا العام، وأكد الوزير بقوله “نعود من الخرطوم بنعم 3 مرات، للسلام وللمفاوضات وللاعتراف بإسرائيل”.
يشار إلى أن الزيارة الأخيرة للوزير الصهيوني إلى الخرطوم لم تكن سوى امتداد لسلسلة طويلة من اللقاءات بين الطرفين، وأن مؤامرة التطبيع مع الاحتلال لم تكن وليدة المرحلة الحالية، بل جاءت نتيجة تراكم طويل من الزيارات واللقاءات، والبداية كانت مع استيلاء العسكر على السلطة بعد الإطاحة بنظام الرئيس عمر البشير في الحادي عشر من شهر ابريل 2019، ولم تُغيّر الشراكة مع القوى المدنية في المرحلة اللاحقة من مخطط العسكر نحو الذهاب باتجاه التطبيع مع الكيان الصهيوني.
ولم يكن مشروع قانون مقاطعة إسرائيل سوى مؤشر على أن البرهان وزملائه في قيادة الجيش هم أصحاب القرار الفعلي والمتحكم بزمام الأمور في السودان، وأن الحديث عن أي تقاسم للسلطة في الحاضر أو التخلي عنها مستقبلاً “كما يروج لها من قبل المجلس العسكري خلال المرحلة الحالية”، ليس سوى خطوة لربح مزيد من النقاط السياسية حتى يُحكم البرهان السيطرة على السلطة وبصورة مطلقة في المستقبل.
وبالعودة إلى التطورات المتسارعة ما بين العسكر والكيان الصهيوني، يرى عدد من المحللين السودانيين أن لكل طرف أهدافه من تسريع الخطى في هذه العلاقة، لا سيما العسكر في الخرطوم الذين يعلنون أن الزيارات واللقاءات تحمل طابع التنسيق الأمني والاستخباراتي مع “إسرائيل”، ولكن ما لا يتم إعلانه صراحة من قبل المجلس العسكري أن التطبيع سوف يساعد على إقناع المجتمع الدولي: أن الفريق عبد الفتاح البرهان ومن معه أكثر قدرة من بقية الأطراف السودانية الأخرى ولاسيما القوى المدنية على تحقيق المصالح الدولية والغربية والمتمثلة في ما يسمى مكافحة الإرهاب، هذا من جهة.
ومن جهة آخر، أن الخرطوم سوف تكون جزء من التحالفات الدولية الحالية والمستقبلية في هذا الحرب المفتوحة، ومن جهة ثالثة، التأكيد أن الحكومة العسكرية في الخرطوم أبعد ما تكون عن تحالفات النظام السابق في ما يسمى محور “الممانعة للتطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي”، وبأن السودان تحت سلطة المجلس العسكري أكثر قدرة وجهوزية للانضمام إلى المحور الغربي “الامريكي الأوروبي وحلفائهم” لمواجهة التمدد الصيني الروسي في المنطقة والعالم.
يبقى القول، أن اعتقاد البعض أن تسليم السلطة من قبل العسكر أصبح حقيقة لا مفر منها بعد إعلانهم الأخير، ليس له ما يؤيده على أرض الواقع، خاصة أن الوقائع تشير إلى أن السودان في ظل السلطات الحالية يمضي في تثبيت حكمه واسترضاء الخارج من خلال التسريع في مؤامرة التطبيع مع الكيان الصهيوني، إضافة إلى استمرار بقاء قواته ومشاركتها في العدوان على اليمن.